المنشورات

أنواع النمو في اللغة:

تلك هي طرق الوضع التي سلكوا منها إلى اللغة في كل أطوارها، حتى أصبحت من الاتساع والنمو ما هي، ولكن لهذا النمو أنواعًا تحدد في جملتها أجزاء هذه اللغة، وتصف تاريخ اتساعهم فيها، وهي من هذه الجهة تعتبر تمامًا على الذي تقدم وتفصيلًا له؛ وتلك هي: الإبدال، والقلب، والنحت، والترادف، والاشتراك، والتضاد، والمداخلة بالتعريب، والتوليد؛ ونحن نوفيها حظها من الكلام على مقدار حظها من التاريخ.
الإبدال:
وهو إبدال الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، كما يقولون: مدح، ومَدَه: واستعدى عليه، واستأدى.
وقد أسلفنا في الكلام على أصل الوضع أن الدورة الجديدة التي دارت بها الحروف بعد وضع المقاطع الثنائية، كانت بالقلب والإبدال؛ والدليل على ذلك أن أكثر ما يجري فيه الإبدال من اللغة إنما هو الألفاظ الطبيعية الأولى التي كانت من حاجة الإنسان أدل عهده بالتعبير: كالقطع، والكسر، والهدم، والشق، والخرق، والفرقة، والتبديد؛ وهي المعاني الوحشية في لغة الإنسان. ثم لما انقاد الوضع بهذه الطريقة لأهل اللغة، جعلوها من سنتهم وقلبوا عليها الألفاظ الأخرى مما ليس بسبيل من تلك المعاني؛ والغريب أن فعل القطع يكاد يكون الأصل في أكثر هذه اللغة؛ فقلما تناولت مادة إلا رأيت أثره المعنوي فيها، ولو تأويلًا من طريق المجاز؛ وهذه أيضًا مما يؤكد أن اللغة نطق عن الطبيعة.
ثم إن الإبدال من حيث اعتبار الوضع اللغوي فيه، نوعان: الأول أن يكون لغات مختلفة لمعان متفقة: كلعلني ولألني. وإن فَعَلَ، وهِنْ فَعَلَ، ونحوها مما مر في اختلاف اللهجات؛ فيختلف اللفظان للأسباب اللسانية في القبائل المختلفة، ثم تحفظ صورة كل لفظ على أنها لغة، فلا تشترك العرب في النطق بالصورتين تعمدًا منها لتعويض حرف من حرف، إنما يقول هذا قوم وذاك آخرون، وقد سأل اللحياني أعرابيا. أتقل: مثل حَنَك الغراب، أو مثل حَلَكه؟ فقال: لا؛ أقول مثل حلكه. وسأل أبو حاتم أم الهيثم الأعرابية: كيف تقولين أشد سوادًا مماذا؟ فقالت: من حَلَك الغراب. فقال: أفتقولينها من حنك الغراب؟ قالت: لا أقولها أبدًا.
والنوع الثاني ما يتعدد فيه الوضع في لغة القبيلة الواحدة، فتقوم كل من الصورتين بمعنى لا يصح استعمال الأخرى فيه، وعلى هذا النوع يتوقف نمو اللغة واتساعها، كقولهم: لطمه: ضربة بكفه مفتوحة؛ ولَذَمه: ضربه بشيء ثقيل يسمع صوته؛ ولثم أنفه: لكمه؛ ورثمه: كسره؛ ورضم به الأرض: ضرب؛ وكذلك مما يرجع إلى معنى الأكل: قضم أي: أكل بأطراف أسنانه، أو أكل يابسًا؛ وخَضِمَ: أكل بأقصى الأضراس، أو أكل رطبًا؛ وقطم أي: عض، أو تناول الشيء بأطراف أسنانه فذاقه؛ وكزم الشيء: كسره بمقدم فمه واستخرج ما فيه ليأكله؛ وكدمه: عضه بأدنى فمه؛ وقشم: إذا نقى من الطعام رديه وأكل طيبه؛ ونحو ذلك من الأمثلة الكثيرة في اللغة؛ فكل أولئك إنما يقع فيه الإبدال لتجزئة المعاني، فترى الألفاظ متقاربة ترجع إلى مقطع واحد، وهي بعد متباينة في الدلالة؛ وكذلك ترى معاني كل طائفة منها ترجع إلى جنس واحد ثم تتباين متقاربة؛ وبهذا يتحقق الارتباط المتسلسل الذي هو برهان التاريخ على النشء اللغوي. وقد تجد للمعنى الواحد ألفاظًا متعددة في اللغة، ثم تجد كل لفظ قد صار أصلًا في الدلالة وتفرعت عنه ألفاظ أخرى عن طريق الإبدال، ثم يدل بكل لفظ على جزء من أجزاء المعنى، كما تجد من ألفاظ القطع مثلًا: قَطّ وقَصّ، وجَدّ، وغيرها، فإن هذه الألفاظ وضعت في الأصل حكاية لأنواع من أصوات القطع، إما حقيقية أو متوهمة، فقد تسمع أنت صوت الشيء المقطوع كأنه "قط" ولكن غيرك يتوهمه كأنه "قَت" وقد يكون لبعض الأشياء المقطوعة أصوات أخرى تحكي "جدّ" أو "كسّ" أو "قصّ" وغيرها. فنرى لفظ "قط" قد صار أصلًا وتفرع عنه: قطع، وقطف، وقطب، وقطم، وقطل، ونحوها. وترى لفظ "قص" قد تفرع عنه: قصم، وقصل، وقصب: وقصر، وقصف. ومن لفظ "جذ": جذب، وجذر، وجذف، وجذم، وهكذا، وكلها معان متقاربة تتقلب معها الألفاظ المتفرعة عن مقطع واحد, وهذا هو أكثر أنواع النمو في اللغة؛ لأنه أصل نشأتها، وللنحويين وأهل الصرف كلام في الإبدال وحروفه مَقِيسه ومسموعه لا يتعلق بغرضنا، ولهذا ضربنا عنه صفحًا.
القلب:
وهو تقديم وتأخير في بعض حروف اللفظة الواحدة، فتنطبق على صورتين بمعنى واحد، كقولهم: جذب، وجبذ، وما أطيبه، وما أيطبه. وأهل اللغة يقولون إن كل ما جاء في هذا القبيل فهو مقلوب وبذلك لا يعتبر إلا لغة واحدة من وضع واحد، وكأن هذا التقديم والتأخير إنما هو عارض في المنطق لسبب من الأسباب اللسانية كالخفة والثقل؛ وتابعهم على ذلك النحويين من الكوفيين؛ أما البصريون فلا يعتبرون القلب إلا متى رأوا أنه لا يمكن أن يكون اللفظان جميعًا أصلين في المعنى اللغوي بحيث يقصر أحدهما عن تصرف صاحبه ولا يساويه فيه، كقولهم: فلان شاكي السلاح وشائك، وجرف هار، وهاير، وحينئذ يعتبرون أوسع اللفظين في التصرف أصلًا للثاني ويعدون اللفظ الثاني مقلوبًا عنه، ويكون ذلك عندهم من قبيل الوضع الواحد.
وكل ما عدا ذلك مما يتصرف فيه اللفظان تصرفًا واحدًا، كجذب يجذب جذبًا1 وجبذ يجبذ جبذًا، فليس بقلب عندهم، وإنما هما لغتان من وضعين مختلفين، وبذا يعد كلا اللفظين أصلًا مستقلا.
وقد صنف علماء اللغة ما جاء مقلوبًا من الألفاظ وعقد له السيوطي في "المزهر" النوع الثالث والثلاثين، واستقصى فيه كثيرًا من أمثلته، ومنها: صاعقة، وصاقعة، ولعمري، ورعملي, ونحن في ذلك على رأي البصريين؛ لأننا نرى في بعض اللغات المنسوبة "ومنها هذان المثالان" ثبتًا لما ذهبوا إليه.
النحت:
وهو جنس من الاختصار: ينحتون من الكلمتين كلمة واحدة: كعبشمي وعبقسي، وفي النسبة إلى عبد شمس وعبد القيس، وكما ينسب المولودن إلى الإمامين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله فيقولون: شفعنتي وحنفلتي1.
ولكن هذا الاختصار إنما هو زيادة في اللغة؛ لأنه يجعل الكلمتين ثلاثًا كما رأيت، فضلًا عما فيه من معنى التصرف بخفة اللفظ مع جميع المعنيين في بعض أنواعه كما قالوا: عجوز صَهْصَلِقْ أي: صخابة، نحتوه من: صهل، وصلق؛ والصلق بمعنى الصوت الشديد، ونحو العَجَمضَى، وهو ضرب من التمر يكون في ضاجم "اسم واد" فنحتوه من "عجم" أي: نوى و"ضاجم".
هذا، وقد ذكر ياقوت في "معجم الأدباء" في ترجمة الظهير النعماني اللغوي، أن عثمان بن عيسى النحوي البليطي شيخ الديار المصرية كان يسأله "سؤال مستفيد" عن حرف من حُوشي اللغة، فسأله يومًا عما وقع في كلام العرب على مثال "شَقَحْطَب" فقال: هذا يسمى في كلام العرب المنحوت، ومعناه أن الكلمة منحوتة في كلمتين "فَشَقَحْطَب" منحوت من "شَقّ حَطَبْ" فسأله البليطي أن يثبت ما وقع من هذا المثال، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه وسماها: "كتاب تنبيه البارعين على النحوت من كلام العرب".
وقد ظن بعض المتأخرين من علماء اللغة أن النحت يقع في الثلاثي أيضًا ومثل له بقوله: نبض الماء إذا سال؛ قال: فإنه يصح أن يكون من "نض" و"بض" وكلاهما بمعنى نبض. وقولهم: مَؤُجَ الماء يمؤج فهو مأج إذا ملح، فلا يكون إلا منحوتًا من "ماء" و"أجاج" وذلك ليس بشيء؛ لأن النحت لا بد فيه من الاختصار الجامع للمعنيين، وهذا لا تجده في نبض؛ لأنه مرادف لبض ونض؛ ولأن أقرب ما يظن في المأج أن الكلمة مأخوذة من الموج ولازمه الملوحة.
والعلماء كلهم مجمعون على أن النحت لا يُعْرَف في الثلاثي.
ومن أنواع التصرف بالنحت في العربية هذه الحروف2؛ فإن من العلماء من يذهب إلى أنها بقايا كلمات، وقد نص بعضهم على ذلك في أحرف المضارعة، فقال: إنهم أخذوا الهمزة من "أنا" والنون مم "نحن" والتاء من "أنت" وعدلوا عن الواو من هو إلى الياء لكونها أخف منه، وجعلوا الأحرف دليلًا على ما كانت تدل عليه الأصول تقريبًا، فكملت المعاني مع وجازة اللفظ. 

وقد تتبع علماء اللغات بعض الحروف في اللغات السامية ليعرفوا من أين أخذت وكيف انتهت إلى العربية على هذا الوجه فاهتدوا من ذلك إلى بعض ما يرجح أنها منحوتة؛ ومن هذه الأمثلة التي عيّنوا أصلها، باء الجر؛ فإنها تستعمل في العربية لمعان كثيرة؛ كالإلصاق، والتعدية، والاستعانة ... إلخ، والأصل في ذلك الإلصاق كما نصوا عليه، ولكنها لا تستعمل في غيرها من اللغات السامية إلا للظرفية؛ فرأوا أن أصلها "بيت" في العبرانية، ثم جاءت "بي" في الكلدانية، ثم الباء وحدها في العربية، فكأن الباء بقية من لفظ "بيت" كمل بها المعنى الأصلي مع وجازة اللفظ وسعة التصرف؛ وهو بحث طريف ظريف.
المترادف:
وهو ترادف الفظين فأكثر على معنى واحد، كما تقول: السيف والعَضْب، والأسد والليث والغضنفر؛ والخمر والراح والعقار والقَرْقَف، ونحو ذلك؛ وقد وجدنا كلامهم في هذا النوع يرجع إلى أربعة مذاهب:
1- بعض العلماء ينكر أن يكون في اللغة ترادف مطلق؛ لأن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد، إذ لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعًا من العبث تجل عنه هذه اللغة الحكيمة المحكمة.
وهؤلاء يرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة: وأشباع هذا المذهب كثيرون، منهم ابن الأعرابي، وثعلب، وابن فارس.
وقال ابن الأعرابي: إن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا علمه فلم يلزم العرب جهله. ومن أمثلة هذا الذي عرفوه وبينوا وجهه، قول العرب: قعد وجلس. وقال ابن فارس: إن في "قعد" معنى ليس في "جلس": ألا ترى أن نقول: قام ثم قعد، وأخذه المقيم والمقعد. ثم نقول: كان مضطجعًا فجلس، فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس؛ لأن الجَلَس "في اللغة": المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله.
2- بعضهم يذهب إلى إنكار الترادف مطلقًا بقيد الزيادة في معاني الألفاظ المترادفة وبدون هذا القيد: فيعتبر الموضوع للمعنى الأصلي اسمًا واحدًا والباقي صفات له لا أسماء: فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له: كالمهند والصارم والعَصْب ونحوها: ومن القائلين بهذا الرأي أبو علي الفارسي شيخ ابن جني.
وموضع الاختلاف بين هذا الرأي وما قبله، في اعتبار الفرق بين الاسم والصفة، فأصحاب المذهب الأول يعتبرون المترادفات اسماء تزيد معنى الصفة وهؤلاء يعتبرونها صفات محضة.
3- والمذهب الثالث إثبات الترادف ولكنهم يخصونه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد، كما يقال أصلح الفاسد، ولم الشّعَثَ، ورَتَقَ الفَتْق، وشَعَب الصدع، ونحوها، أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد فيسمونه المتوارد: كالخمر والعقار، والليث والأسد، وغيرها؛ وهذا المذهب من تقسيم بعض علماء الأصول.
4- والمذهب الرابع إثبات الترادف مطلقًا بدون قيد ولا اعتبار ولا تقسيم، وعليه أكثر اللغويين والنحاة، وقد قال ابن درستويه في هؤلاء:"إنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة، وعلى ما جرت به عادتها وتعارفها. ولم يعرفوا العلة فيه والفروق فظنوا أنهما "أي: اللفظين المترادفين" بمعنى واحد وتأولوا على العرب هذا التأويل من ذات أنفسهم؛ فإن كانوا قد صدقوا في ذلك عن العرب فقد أخطئوا عليهم في تأويلهم ما لا يجوز في الحكمة".
والصحيح من ذلك كله أن أوضاع العرب تختلف؛ لأنهم متصرفون في اللغة لا يعرفون لها قيودًا اصطلاحية، وما من عربي إلا وهو في حكم العرب كلهم باعتبار الفطرية اللغوية التي يرجع إليها أصل الوضع؛ لأن اللغة مفردات وضعها أفراد، وقد كانت لهم أشياء كأنها مظاهر الطبيعة المتسلطة عليهم بمعانيها المتناقضة وصفاتها المتباينة لبلوغها الغاية في مألوفهم من اللذة والألم والمنفعة والمضرة، وهذه يراها كل عربي ويحدث عنها ويصفها على ما يجد في نفسه من أثرها، وعلى ما يراه من صفاتها المختلفة، فلا جرم اختلفت الألفاظ الموضوعة لها بحسب ذلك.
ومن هذه الألفاظ ما يكون أسماء من وضع القبائل المتعددة تسمع كل قبيلة لغة الأخرى فيأخذ بعضها عن بعض استطرافًا وتوسعًا في الكلام، ومنها ما يكون صفات يتصرف في ضوعها أفراد كل قبيلة فلا تختص بالوضع الواحد لما عَلِمتَ من اختلاف السبب الحامل على اشتقاقها، ثم تنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العرفية بعد أن تكون قد فشت في الاستعمال وتلتحق ألفاظها بأصل اللغة، وهذا هو القسم الأكبر من المترادفات، كثرت عندهم أسماؤه وصفاته لما أشرنا إليه آنفًا، وأشهر ما ورد منه، أسماء العسل وهي 80، والأسد 350 وقيل 500 وقيل 670، والحية 200 وقيل 500، والداهية 400 وقيل أربعة آلاف1، والحجر 70، والكلب 70، والسيف 30 وقيل: 1000، والناقة 255، والبعير ألف2، والشمس 52، والخمر 100 وقيل 200، والبئر 88، والماء 170، وغير ذلك وخاصة ما يدخل في باب الصفة، كصفات الطويل والقصير والشجاع والجبان والكريم والبخيل ونحوها من الصفات الشائعة التي أجمعوا على مدحها أو ذمها؛ وقد استوفى صاحب "المخصص" في كتابه قسمًا كبيرًا منها.
وعلى أن ثمة شيئًا هو أكثر ألفاظ العربية ترادفًا، وهو "الميل الجنسي" فلا تكاد تتصفح مادة في "القاموس المحيط" حتى تصيب من مترادفاته لفظًا أو أكثر؛ وذلك مما يثبت ما بيناه من سبب الترادف الكثير الذي هو مثار العجب.
أما النوع الثاني من المترادف وهو القسم الأصغر منه الذي تقل فيه ألفاظ المعنى الواحد، فإنه يكاد يكون طبيعيا في اللغات كلها؛ ومأتاه في العربية من اختلاف الأوضاع لتعدد القبائل: كالمدية في لغة دوس والسكين في غيرهم، ولا يتعين في مثل هذا النوع أن يكون في كل كلمة زيادة في المعنى والفائدة عما في غيرها؛ لأن كلا اللفظين موضوع لمعنى واحد لا زيادة في دلالته، إلا إذا اعتبرنا أصل الاشتقاق والسبب الحامل للواضع على أن يضع وإلا إذا كان كل اللفظين يمثل حالة مما يصح فيه الاختلاف كجَلَس وقَعَد مثلًا، وتجد لأهل الاشتقاق في هذا المذهب تعسفات كثيرة وتأويلات باطلة كقول بعضهم إن الإنسان سمي إنسانًا باعتبار النسيان، أو باعتبار أنه يؤنس؛ وسمي بشرًا باعتبار أنه بادي البَشَرَة ... فكأن لفظ النسيان الذي يدل على معنى جزئي معقول وضع قبل لفظ الإنسان الذي هو مدلول اللغة كلها. وذلك هو التاريخ الميت الذي حسابه عند ربه.
وقد أفرد بعض العلماء أنواع المترادف بالتأليف، فوضعوا كتبًا في أسماء الأسد والحية والسيف والداهية وغيرها، ولصاحب القاموس كتاب سماه "الروض المسلوف، فيما له، اسمان إلى الألوف" ولم يعثر عليه أحد لا رأينا منه مادة منقولة في كتاب من الكتب.
المشترك:
وهو عكس المترادف؛ لأنه مجيء اللفظ الواحد لمعنيين فأكثر: كالأرض لهذا البسيط، ولأسفل قوائم الدابة، وللنُّفْضة والرِّعدة، وللزكام؛ وأرض الخشبة، وهو أن تأكلها الأرضة. وهذا لا شك في أن مأتاه من تعدد الوضع وتباين اللغات؛ لأن الألفاظ متناهية والمعاني لا تتناهى، فإذا وزعت هذه على تلك لزم الاشتراك واختصاص اللفظ الواحد بمعنيين أو أكثر. والقسم الأكبر من المشترك كلمات معدودة، أشهرها ما تعلق عليه شعراء المتأخرين كما ستعرفه في بحث الصناعات اللفظية، وجملة ذلك خمسة ألفاظ وهي: العين، والخال، والهلال، والغرب، والعجوز.
فمن معاني العين مثلًا: عين الإنسان، والنقد من الدراهم والدنانير، ومخرج ما البئر، ومطر أيام لا يقلع، والجاسوس، ونفس الشيء.... إلخ. وقد توسع المتأخرون من الشعراء في معاني هذه الكلمات لتبلغ بها أنفاس القوافي كما سنذكر في موضعه إن شاء الله. لا جرم أن الاشتراك وجه من وجوه الوضع في اللغة؛ فإن أكثره راجع إلى الاشتقاق والمجاز كما يقال مشي من المشي، ومشي إذا كثرت ماشيته؛ وكما نقلوا من أسماء الطير لأجزاء الفرس، فسموا العظم الذي في أعلى رأسه بالهامة وهو اسم طائر، وسموا دماغه الفرخ، والجلدة التي تغطي الدماغ بالنعامة، والعظم الذي تثبت عليه الناصية بالعصفور ... إلخ وهي عشرون اسمًا. 

المشجر والمسلسل:
وقد استخرج اللغويون من الاشتراك في اللغة ومداخلة الكلام للمعاني المختلفة نوعًا سموه المشجر، وبعضهم يسميه المسلسل، متابعة لرواة الحديث فيما يناظر هذا النوع عندهم؛ وذلك أن يجيئوا بالكلمة المشتركة فيعتبرونها شجرة يفرعون من معانيها المختلفة فروعًا ويسترسلون في تفسير الكلام على الوجه المشترك حتى تبلغ الشجرة مائة كلمة أو أكثر، وكلها متسلسلة من كلمة واحدة.
تاريخ هذا النوع:
وأول من وضع كتابًا ففي ذلك أبو عمرو المطرز الراوية المتوفى سنة 345هـ فقد عمل عليه كتابه الذي سماه "المداخل في اللغة" وكان يعاصره أبو الطيب اللغوي المتوفى بعد سنة 350هـ بقليل، فعمل كتابًا سماه "شجر الدر" وجعل كل شجرة مائة كلمة، إلا شجرة ختم بها الكتاب عدد كلماتها 500 وقال في كتابه: إنما سمينا الباب شجرة لاشتجار بعض كلماته ببعض، أي: تداخله. فأخذ وضع المطرز وزاد فيه وابتدع له تسمية جديدة، ثم جاء أبو الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي المتوفى بمدينة قرطبة سنة 538هـ فوضع كتابه الذي سماه "المسلسل" وقال في مقدمته: "كان سمع علي كتاب المداخل في اللغة لأبي عمرو المطرز رحمه الله، فاستنزرته لقدره، ولم أحظ بهلاله فيه ولا بدره، فرأيت أنه رأى لم تستوف تمامه، وغرض لم تُقَرْطِسه سهامه، ولعله إنما ارتجله ارتجالًا، وجرت ركائبه فيه عجالًا، فلم يدمث خزنه، ولا أقام وزنه، ولا استوفى غرره، ولا استقصى درره، فحركني ذلك إلى صلة ما ابتدأ، وتمكين ما رسم فيه وأنشأ".
وقد ضمن كتابه خمسين باباً افتتح كل باب منها بشعر عربي وختمه بمثل ذلك.
أمثلة:
من أمثلة كتاب أبي الطيب:
"شجرة": العين عين الوجه، والوجه القصد، والقصد الكسر، والكسر جانب الخباء، والخباء مصدر خابأت الرجل إذا خبأت له خبءًا وخبأ لك مثله، والخبء السحاب.
ثم انسحب على هذا الأثر بعد "العين". وقد نقل السيوطي هذه الشجرة في مزهره في النوع الحادي والثلاثين.
ومن أمثلة المسلسل هذا الفصل فيه وقد حذفنا شواهده اختصارًا، قال:
أنشد أبو عبيدة لصبيان الأعراب، وتروى لامرئ القيس:
لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل
ينادي الآخر الأل ... ألا حلوا ألا حلوا
الأل الأول، وأول يوم الأحد، والأحد هو الوحد، والوحد الفرد، والفرد الثور، والثور الظهور، والظهور الغلبة، والغلبة جمع غالب، وغالب أبو لؤي، ولؤي تصغير اللأي، واللأي الثور، والثور فحل البقر، والبقر الفرق، والفرق تباعد ما بين الثنايا، والثنايا العقاب، والعقاب الموالاة، والموالاة المظاهرة، والمظاهرة لبس ثوب على ثوب، والثوب الرجوع، والرجوع الكر، والكر حبل النخل، والنخيل الخيار، والخيار الحكم، والحكم الحكمة، والحكمة العلم والعدل، والعدل القيمة، والقيمة الثمن، والثمن العوض، والعوض البدل، والبدل الخلف، والخلف الجبر، والجبر إصلاح الكسر, والكسر كسر جانب البيت, والبيت الزوج, والزوج النمط, والنمط من الناس الضرب, والضرب من الرجال الممشوق القد، والقد قطع السير، والسير سرعة المشي، والمشي سعي الواشي، والواشي المحسن، والمحسن اسم إنسان، والإنسان صبي العين، والعين خاصة الملك، والملك الصَّيْدَن، والصيدن الثعلب، والثعلب ما يدخل السنان من القناة، والقناة القامة، والقامة جمع قائم، والقائم مقبض السيف، والسيف الضرب به، والضرب الذهاب في الأرض، والأرض الرعدة، والرعدة الرعش، والرعش سرعة الظليم، والظليم اللبن قبل الروب، والروب خثارة النفس من كثرة النوم، والنوم الكرى، والكرا طائر، والطائر عمل العامل، والعامل من الرمح الصدر، والصدر "الأول" ا. هـ.
وهذا الإتساع مما اختصت به العربية دون سائر اللغات, وللمشجر معنى آخر في صناعات النظم نذكره في موضعه من "باب الصناعات".
الأضداد:
والتضاد نوع من الاشتراك، وهو من أعجب ما في أمر هذه اللغة؛ لأنه إيقاع اللفظ الواحد على معنيين متناقضين، ومثل ذلك إذا لم تصح فيه الحجة ولم ينهض به الدليل كان عبثًا؛ لما فيه من التباس أطراف الكلام ورجوع بعضه على بعض بالنقض, وإن أصحب من القرينة بما يوضح تأويله ويعين جهة الخطاب فيه؛ وذلك ما لا يمكن أن يغمز فيه على العربية وهي بخصائصها وسنن أهلها في الوضع والتصرف تعتبر كالعقل المدرك في جمجمة اللغات. وحاصل كلامهم في الأضداد يرجع إلى أربعة مذاهب:
1- إبطال الأضداد وأن اللغة في ذلك تجري على وجه واحد؛ وهذا مذهب لم نتحققه ولم نتصفح شيئًا من آراء القائلين به، وإنما أخذناه مما نقله السيوطي في "المزهر" عن ابن درستويه المتوفى سنة 347هـ، في "شرح الفصيح" قال: "النوء: الارتفاع بمشقة وثقل، ومنه قيل للكوكب: قد ناء إذا طلع. وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضًا وأنه من الأضداد، وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا -الذي عملناه- في إبطال الأضداد ... ".
2- إثبات التضاد متى كان إيقاع اللفظ على الضدين في لغة القبيلة الواحدة؛ لأن التضاد يكون متحققًا في الوضع حينئذ. ومن أصحاب هذا الرأي ابن دريد، قال في "الجمهرة": الشعب الافتراق، والشعب الاجتماع؛ وليس من الأضداد وإنما هي لغة القوم.
3- إثباته على أن لا يكون من وضع القبيلة الواحدة؛ لأنه من المحال أن يكون العربي أوقع اللفظ على الضدين بمساواة بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب والمعنى الآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء. وذلك رأى الجمهور من العلماء.
4- إثباته مطلقًا من وضع واحد أو متعدد، واعتبار الضد معنى مشتقا من أصل الوضع؛ فالأصل لمعنى واحد ثم تدخل على جهة الاتساع. وأصحاب هذا الرأي يعتلون لذلك بإمكان رجوع الضدين إلى باب واحد في الاشتقاق أحيانًا، كقولهم: الصريم، يقال لليل وللنهار؛ لأن كليهما ينصرم من الآخر، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع. وهذا المذهب كما ترى جدلي، ونظم القائلين به من علماء الكلام.
والذي عندما في ذلك أن التضاد ليس قديمًا في اللغة، ولا هو من سنن الوضع عند العرب؛ لأنه لا تمس إليه الحاجة الطبيعية، وليس في كل ما ورد من ألفاظه لفظة واحدة تفتقر إليها اللغة، فلا بد أن يكون أصله حادثًا في زمن النهضة التي تقدمت الإسلام حين اختلطت القبائل وانصرف العرب إلى زينة المنطق والتملح في الكلام، فهو تفنن تدخله بعض القبائل في لغتها وتتوسع به لإحدى المناسبات المرهونة بأوقاتها، ثم يعرفون به ويمضون عليه في التعبير فيثبت في ميراث القبيلة في اللغة. ومما يرجح ذلك أن الألفاظ التي يتحقق فيها معنى التضاد الطبيعي قليلة: كالسدفة للضوء والظلام، والصريم لليل والنهار، والجنون للأبيض والأسود، والسجود للانحناء والانتصاب، ونحوها؛ وقليل منها منسوب للقبائل التي استعملته على وجهيه.
أما أكثر ما يعدونه من الأضداد فمعظمه حادث في الإسلام، اقتضاه تصرفهم في اللغة على ضروب من الإشارة والإيجاز؛ فهو تفنن محض لا يرجع إلى الوضع الواحد ولا المتعدد، بل يكاد يعد نوعًا من البديع أو الصناعات اللفظية1؛ ومن يقرأ كتاب "الأضداد" لأبي بكر بن الأنباري ويتدبر معاني ما فيه, ويعتبر نسبة الشواهد التي جاء بها يتحقق ما ذهبنا إليه؛ وقد رأيناهم ربما اختلفوا في تفسير الكلمة فعدوا ما يقتضيه الاختلاف من التضاد أمرًا واقعًا في حقيقة المعنى، كاختلافهم في معنى "أشد" من قولهم: بلغ فلان أشده؛ فإن منهم من يفسرها ببلوغ ثماني عشرة سنة، ومنهم من يقول ببلوغ أربعين أو ثلاث وثلاثين، وبهذا الاختلاف المتناقض يعدون اللفظة من باب الأضداد.... وربما تزيد بعض أهل اللغة فيتوسع في تفسير الكلمة بالمعنيين المتضادين ليدل بذلك على اتساع علمه، كقول بعضهم في "الضد" نفسه: إنه يقع على معنيين متضادين، يقال: فلان ضدي، أي: خلافي، وهو ضدي أي: مثلي. قال ابن الأنباري: وهذا عندي قول شاذ لا يعمل عليه؛ لأن المعروف من كلام العرب: العقل ضد الحمق، والإيمان ضد الكفر؛ والذي ادعى من موافقة "الضد" للمثل لم يقم عليه دليلًا تصح به حجته. 

ولو صح أن التضاد قديم في اللغة وأنه ثابت في أصل الوضع، لفسد هذا الوضع ولبطلت حكمته؛ ثم لا بد أن يكون من أثر ذلك شيء كثير في منقول اللغة؛ وهو خلاف الواقع؛ حتى إن العلماء كانوا يتميزون من هذا النوع بمعرفة ألفاظ معدودة، كالألفاظ التي عقد لها أبو عبيدة في "الغريب المصنف" باب الأضداد، وهي أربعون لفظة، وهذا ابن الأنباري المتوفى سنة 328هـ وهو من أوسع الناس حفظًا للغة، قد ألف كتاب "الأضداد" الذي قالوا إنه لم يؤلف في الأضداد أكبر منه، وذكر في مقدمته أنه نظر في الكتب التي أحصيت فيها الحروف المتضادة، فوجد كل واحد من أصحابها أتى من الحروف بجزء وأسقط جزءًا، فجمعها في كتابه "ليستغني الناظر فيه عن الكتب القديمة المؤلفة في مثل معناه؛ إذ اشتمل على جميع ما فيها"؛ ومع ذلك لم يشتمل كتابه إلا على قريب من 300 حرف لا يتحقق التضاد في نصفها، والباقي متجوز به ومتوسع فيه.
أما الألفاظ التي رويت من هذا الباب ونسبوها لقبائل مسماة، فقد حرصنا على جمعها اتباعًا لطريقتنا التي نحوناها في هذا التاريخ؛ لأنا نرى في مثل ذلك أشباحًا للمعاني التاريخية التي ذهبت في آفاقها، والشبح إن لم يفصل معاني جسمه، ولم يضبط أجزاءه، فلا أقل من أن يعين موقعه ويظهر منه صورة مبهمة، وذلك فتح عظيم في مثل هذا التاريخ المستغلق بابه، المضروب على الغيب حجابه، وتلك الألفاظ هي:
الرجاء: يستعمل بمعنى الشك، والطمع، واليقين، وكنانة وخزاعة ونصر وهذيل يقولون: لم أرج، ويريدون لم أبال.
وبنو عقيل تقول: لَمَقْت الكتاب ألمقه لموقًا ولمقًا، إذا كتبته؛ وسائر قيس يقولون: لمقته لموقًا إذا محوته.
والسامد في كلام أهل اليمن: اللاهي، وفي كلام طيئ: الحزين.
يقال: شريت إذا ابتعت، ولكنها بمعنى "بعت" لغة الغاضرة.
والسدفة يذهب بنو تميم إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء.
حاب الرجل فهو حائب، إذا أثم، والحائب في لغة بني أسد القائل.
المعصر في لغة قيس وأسد: التي دنت من الحيض. وفي لغة الأزد: التي ولدت، أو تعنست1.
يقال: عين، للخلق كالقربة التي تهيأت مواضع منها للتثقب، وطيئ تقول عين للجديد.
المقور في لغة الهلاليين: السمين، وفي لغة غيرهم: المهزول.
الساجد: المنحني، عن بعض العرب؛ وهو في لغط طيئ: المنتصب.
القلت في كلام أهل الحجاز: نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيغرق فيها الجمل والفيل لو سقط فيها، وهي في لغة تميم وغيرهم نقرة صغيرة في الجبل يجتمع فيها الماء. 

رزقه بمعنى أناله، ولكنها في لغة الأزد بمعنى شكره.
وهذا كل ما أمكن العثور عليه في كتب اللغة وغيرها؛ وهو متمم لما استقصيناه من لغات العرب.
الدخيل:
وهو ألفاظ داخلت لغات العرب من كلام الأمم التي خالطتها فتفوهت بها العرب على منهاجها لتدل في العبارة بها على ما ليس من مألوفها، وتجعل منها سبيلًا إلى ما يجد من معاني الحياة؛ لأن أرضهم وديارهم لم تكن الأرض كلها فتنحصر أفلاذها ونتائجها بين أيديهم حتى يتعين عليهم أن يضعوا لكل شيء ضريبه من اللفظ ونديده من التعبير؛ والعجيب أن طبيعة أرضهم ظاهرة التأثير فيما أعربوه، فهم لم يعدوا به حد الضرورة، ولا تجاوزوا مقدار الحاجة الماسة، مما جعل هذا النوع في لغتهم قليل النماء بادي الإمحال.
بل الدخيل في لغة العرب يكاد يكون صورة جغرافية لما عرفوه مما خرج عن حدود جزيرتهم، وقد كان شعراؤهم وتجرهم وأهل الأسفار منهم يحملون إليهم التواريخ والأحاديث كما يحملون عروض التجارة من مصر والحبشة وفارس والهند والروم، فيدخل من ذلك في عادتهم وشعائرهم ويلحقون ألفاظه بلغتهم، سواء منها ما جعلوه على أبنيتهم وما لم يجعلوه؛ لأن قواعد اللغة يومئذ لم تكن كما هي اليوم في حركات الأقلام، ولكنها كانت في حركات الألسنة. وبالجملة فإنهم لم يتناولوا اسمًا من أسماء الأجناس أو الأعلام إلا غيروه متى كان فيه ما ليس من حروفهم، وربما عادوا فغيروا في الحروف العربية أيضًا وتصرفوا في الكلمة بالحذف والزيادة، مبالغة في تحقيق الجنسية اللغوية؛ أما إن كانت حروف الاسم الأعجمي من جنس حروفهم فقد يتركونه على حاله، نحو: خراسان؛ إذ ليس في أبنيتهم فعالان، وحُزّم، وألحقوه ببناء سُلم.
فموضع التصرف كما رأيت إنما هو في حروف الكلمة حتى تخرج على وجه من الوجوه العربية الفطرية التي يراعى فيها غير الخفة والثقل، وليس غير الحرف اللفظي ما يغمز من مواضع الإحسان من ألسنتهم، كما فصلناه في بابه؛ ولهذا قال أئمة العربية: تعرف عجمة الاسم بوجوه:
1- النقل، بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية.
2- خروجه عن أوزان الأسماء العربية، نحو إبريسم؛ فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.
3- أن يكون أوله نون ثم راء، نحو: نرجس؛ فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
4- أن يكون آخره زاي بعد دال، نحو: منهدز؛ فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
5- أن يجتمع فيه الصاد والجيم1 نحو الصولجان والجص. 

6- أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو: المنجنيق1.
7- أن يكون خماسيا أو رباعيا عاريًا عن حروف الذلاقة، فإنه متى كان عربيا فلا بد أن يكون فيه شيء منها2.
وقالوا:
1- الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذولقي؛ ولهذا ليس "الجبت" من محض العربية؛ وهو في القرآن في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} .
2- الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية، ولهذا كان "الطاجن والطيجن" مولدين؛ لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي.
3- لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط فصاده يدل من السين.
4- يندر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كورَل ونحو.
5- قال البطليوسي في "شرح الفصيح": لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال إلا قليل، ولذلك أبى البصريون أن يقولوا بغداذ.
6- قال ابن سيده في "المحكم": ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة؛ الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات3.
هذا وقد وجد الباحثون بعد الاستقصاء أن أكثر ما دخل العربية من أسماء المعبودات والمصطلحات الدينية فهو من الهيروغليفية والحبشية والعبرانية: كلفظ النبي4، فإن هيروغليفي، ومعناه في الأصل: عميد أو رب المنزل؛ وكلفظة منبر: فإنه معرب "ومبر" بالحبشية؛ وكألفاظ: الحج والكاهن، وعاشوراء، وغيرها؛ من العبرانية.
أما أسماء العقاقير والأطياب والجواهر فأكثرها هندي كالمسك، فإنه في اللغة السنسكريتية "مشكا"، والزنجبيل وهو فيها "زنجابير"، والفلفل وهو "ببالا أو فيفالا"، وهكذا.
وأكثر ما يكون من أسماء الأطعمة والثياب والفرش والأسلحة والأدوات فهو من الفارسية: 

كالسكباج، والديباج، والخز، والخوذة، والإبريق، والطست، وغيرها.
وفي "المزهر" فصل معقود لألفاظ أخذتها العرب من الفارسية والرومية والسريانية والنبطية وغيرها، ولكن علماء اللغة كانوا يخلطون في ذلك؛ لأنهم غير متحققين بتلك اللغات ولا بأكثرها؛ والعجيب أنهم يردون أكثر المعربات إلى الفارسية، ولم نكن نظن أن لذلك سببًا غير شيوع هذه اللغة أيام العباسيين، حتى وقفنا على أن مرجع تلك النسبة إلى العصبية؛ فإن كثيرًا من العلماء كانوا موالي أو فرسًا، وقد نصوا على أن بعضهم -كحمزة الأصبهاني والأزهري وغيرهما- كانوا يتملحون لذلك؛ تكثيرًا لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصبًا لهم.
وبلغ من ذلك أن منهم من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية؛ واشتهر بين الأعاجم حديثان، أحدهما قوله فيما زعموا: أن جابرًا صنع لكم سور أي: ضيافة. والثاني قوله: العنب دو دو والتمر يك أي: في تناولهما مثنى وفرادى. وقد حقق العلماء أن لا أصل له، وإنما يتوجه على تلك العصبية التي تشبه أن تكون دينًا لغويا ترغم العربية على انتحاله.
ومن المعرب كلمات معدودة استعملها العرب ولها رديف في لسانهم: كالتامورة للإبريق، والثقوة للسّكرُّجة، والمشموم للمسك، والناطس للجاسوس، ونحوها؛ ولا يعقل أن يستعمل العرب هذه الألفاظ على أنها مرادفات لأوضاعها في لغتهم؛ لأنهم لا يبلغون بالمعرب قوة كلامهم بالضرورة من حيث إنه دخيل على الأوضاع العربية فهو ليس في معنى الأصيل إلا حيث تخلو اللغة من نديده. وعندنا أن بعض تلك الألفاظ إنما كان لمعان غير محدودة بما يطابق عليه بالحد، بل يبقى من الألفاظ المشتركة، وحينئذ كانت اللفظة الدخيلة أولى بالحاجة وأصح في تأدية المعنى اللغوي بحده؛ وقد يكون بعض تلك الألفاظ من وضع قبيلة بعينها، ثم تتناول القبائل الأخرى اسمه بالتعريب لخلو لغتها منه أو لقربها من أسواقه، واختلاطها بأهله، فينطق بالأصيل قوم وبالدخيل أقوام، وقلة هذه الألفاظ المشار إليها مما يحقق ظننا فإن كل ما جمعوه منها نيف وعشرون لفظة.
الدخيل في الإسلام:
ولما فتحت الأمصار على المسلمين ودان غير العرب للإسلام، فشت في منطق المتحضرين ألفاظًا كثيرة من الدخيل بحكم الاختلاط والمعاملة، إلا أن أكثرها لم يلتحق باللغة؛ لأن الرواة أهملوه؛ وكان هذا الدخيل أول أمره بدء انحراف الألسنة عن العربية الفطرية في تاريخ اللحن كما سيأتي في موضعه، ومن ذلك ما ساقه الجاحظ في لغة أهل المدينة، فإنه ذكر أنهم علقوا ألفاظًا من قوم من الفرس نزلوا فيهم، فيسمون البطيخ: الخربز، والسميط: الروزق؛ وأن أهل الكوفة يسمون المسحاة: بال، والسوق، بازار، وذلك كله فارسي.
وكان الأعراب الأقحاح يعجبون لمثل هذا ولا ينطقون به؛ وقد حكى أبو مهدية الأعرابي -ممن أخذت عنهم اللغة- بعض ألفاظ أعجمية كانت فاشية لعهده فأنكرها؛ وإنما ضربها مثلًا لغيرها فقال:
يقولون لي "شنبذ" ولست مشنبذًا ... طوال الليالي ما أقام ثبير 

ولا قائلًا "زودا" ليعجل صاحبي ... "وبستان"1 في قولي علي كبير2
ولا تاركا لحني لأتبع لحنهم ... ولو دار صرف الدهر حيث يدور
على أن من الأعراب من كان يستظرف بعض الكلمات الأعجمية فيقحمها في شعره على جهة التملح والاستظراف، ونقل الجاحظ من ذلك بعض أبيات في كتابه "البيان".
ثم لما انقضت الدولة الأموية وهي بقية العهد العربي، أقبل العباسيون على اتخاذ البطانة من الفرس والديلم وغيرهم، وهم الذين كانت لهم اليد في بث العلوم واتخاذ المترجمين ونقل الكتب عن الفارسية والهندية واليونانية مما سنفصله في مكانه، فابتدأت من ثم صنعة التعريب، وداخلت اللغة كلمات كثيرة من مصطلحات العلوم: كالطب والفلك والهندسة ونحوها.
ولما أنشأ المأمون دار التعريب التي سماها "دار الحكمة" وهي دار كتبه العظيمة، أرصد فيها علماء لتهذيب الكتب المترجمة وتوجيه الأسماء المعربة من الأعلام والأجناس على ما يناسب المنطق العربي، فكانوا ينحون في ذلك منحى العرب، ويتصرفون في الأسماء بالتغيير والإبدال والحذف، وهذا هو وجه الصعوبة في التعريب؛ لأنه لا ضابط له ولأن الألفاظ العربية محصورة الأوضاع محدودة الصيغ، لا تقبل الزيادة عليها إلا منها، ولا يمكن أن تقحم فيها الألفاظ الأجنبية إلا بعد أن تجانسها وتؤاخيها.
ومن أمثلة هذا التغير الذي جرى عليه العرب ومن بعدهم في أسماء الأعلام: يحيى في يوحنا، وقابيل في قابين، وعيسى في إيسوس3 وطالوت في جليات، والضحاك في ده آك، والأشكري في أسكاريس، وشمشقيق في زيميلساس وسجسطيلوس في سكستيلس، وأشبيلية في هسياليس، وطليطلة في تولاده، وغير ذلك كثير تطفح به كتبهم.
وهذا التغيير الذي لا ضابط له كان سببًا من أسباب الإفساد والتحريف في الكتب؛ حتى لقد تجد الاسم الواحد يتقلب على صور شتى، وبذلك تضيع حقيقته التاريخية: كفيلبس أبي الإسكندر، فإنك تجده في كتب التاريخ العربية: فيلقوس، وفيلثوس وفيلنوس، وفيلبوس، وقنلتوس؛ وقد جاء في تاريخ القرماني: أفطياقوس في أنطيخوس، ثم جاء هذا الاسم في موضع آخر من التاريخ نفسه على هذه الصورة: أبطيحش....
ومن مثل هذا الاختلاف الذي لا بد منه تنبه ابن خلدون حين اعتزم وضع تاريخه المشهور إلى وجوب ضبط هذه الأسماء الأعجمية على وجوهها التي تلفظ بها في لغاتها، فاصطلح لذلك على وضع جديد في الكتابة سنذكره في الكلام على الخط ما كان عند علماء العرب من مثله.
لم يكد ينقضي عصر التعريب العلمي عند العباسيين بعد أن دالت الدولة وتراخت الهمم، حتى استعجمت اللغة وطم الدخيل على المنطق؛ لأن الذين تولوا أمر التعريب يومئذ إنما هم الصناع والمحترفون لا الكتاب والمؤلفون؛ وبذلك صار الدخيل لغة في التاريخ بعد أن كان تاريخًا في اللغة.
وبقي من هذا الفصل كلام في كيفية التعريب، واختلاف الكتاب فيه، والحروف التي يطرد فيها الإبدال، والألفاظ التي عربها المتأخرون أو اصطلحوا على تأدية معانيها، ونحو ذلك مما لا تعلق له بالتاريخ؛ فأمسكنا عن إيراده وإن كان ثروة من الكلام.
أما الكتب التي وضعت في المعرب والدخيل فأجمعها كتاب "المعرّب" لأبي منصور الجواليقي المتوفى سنة 539هـ و"شفاء الغليل" للخفاجي من أدباء القرن الحادي عشر، وكلاهما متداول مشهور.
المولد:
ويسمى المحدث أيضًا، ويراد به في الاصطلاح اللغوي: ما أحدثه المولدين الذين لا يحتج بألفاظهم1، وهم الطبقة التي وليت العرب في القيام على لغتهم من المتحضرين. وذلك يشبه الوضع في بادئ الرأي؛ لأنه استقلال بالمنطق عن الطريقة التي انتهجتها العرب، والعلماء لا يقبلون الوضع ولا يصححون الاستعمال إلا من عربي، لمكان السليقة واعتبار النحيزة، ولذا ميزوا بين الكلام فيما ينقلونه، فقالوا: هذه عربية، وهذه مولدة.
وشرط المولد عندهم أن لا يكون في استعمال أهل البادية ولا في العتيق من كلام العرب، وبهذا قال بعضهم إن "الغضارة" مولدة؛ لأنها من خزف وقصاع العرب من خشب.
وفي "أمالي ثعلب" ما يفهم منه أن المولد عنده كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة بنوع من أنواع التغيير، كأن يكون مهموزًا فتدع همزه، نحو: هَنَاك الطعام، في هنأك؛ أو تبدل الهمزة فيه نحو واخيته في آخيته؛ أو تسقطه، نحو: قفلت الباب، في أقفلته؛ أو لا يكون مهموزًا فتهمزه. نحو: رجل أعزب، في عَزَب؛ أو يكون مشددا فتخففه، نحو: فوهة النهر، في فوهته، أو يكون مخففا والعامة تشدده، نحو: الدخّان في الدخَان؛ أو يكون ساكنًا وتحركه، نحو: حلَقة الباب، وهي الحلْقة؛ أو تبدل فيه حرفًا بحرف نحو: الزمرد وهو بالذال؛ أو يكون مفتوحًا فيكسرونه، نحو الكتان وهو بالفتح؛ أو مكسورًا ويفتحونه، نحو: الدهليز وهو بالكسر، وهلم جرا.
وفي كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة أمثلة كثيرة من هذه الأنواع.
الألفاظ الإسلامية:
وقد سبقت التوليد طبقة من الوضع العربي خرجت ببعض الكلام في الاشتقاق عن معاني الجاهلية، وذلك ما يسمونه بالألفاظ الإسلامية، وقال ابن فارس في أسبابها: كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفّى الآخر الأول، فكان مما جاء في الإسلام ذكر المؤمن، والمسلم، والكافر والمنافق؛ وإن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان، وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافًا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا؛ وكذلك الإسلام والمسلم: إنما عرفت منه إسلام الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء؛ وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر؛ فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع1.
ومن هذا الضرب كل ما استحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسماء: كمصطلحات الفقه والنحو والعروض وغيرها مما يكون له اسمان: لغوي وصناعي، والأصل في جميع ذلك الألفاظ الشرعية التي نقلها النبي صلى الله عليه وسلم من اللغة إلى الشرع كما رأيت.
وقد كان مثل هذا النقل المجازي في الجاهلية أيضًا؛ لأنه سبب من أعظم الأسباب في نمو اللغة كما تقدم في موضعه، ولكن لم ينسب من ذلك شيء لناقل معين فيما علمنا. إلا كلمة واحدة ذكرها الجاحظ في كتاب "الحيوان"، وهي فيما يقال: إن أول من سمى الأرض التي لم تحفر قط ولم تحرث إذا فعل بها ذلك "مظلومة" النابغة.... وقد تبعه العرب على ذلك، ومنه قيل: سقاء مظلوم، إذا أعجل عليه قبل إدراكه2. وقال الجاحظ في جزء آخر من "الحيوان" وقد ذكر هذه الكلمة: إن النابغة ابتدأ هذا الاسم على الاشتقاق من أصل اللغة، وإن العرب اجتمعت على تصويبه وعلى اتباع أثره.
ومما يلتحق بفصل الألفاظ الإسلامية، كلمات عربية كرهوا النطق بها في الإسلام، كأنهم من خوفهم على العرب أن يعودوا في شيء من أمر الجاهلية احتاطوا فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلق. وأصل ذلك ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم نحو قوله: "لا يقولن أحدكم لمملوكه: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتاي وفتاتي؛ ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، ولكن يقول: سيدي وسيدتي". وعلة هذا المنع ظاهرة؛ ولكن فيما كرهوه أشياء جاءت بها الروايات ولا تعرف وجوهها. قال الجاحظ: "ولم نسمع في ذلك أكثر من الكراهة، ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهاناتها خفت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر الرواية دون حكاية العلة دون الإخبار عن البرهان وإن كانوا قد شاهدوا النوعين مشاهدة واحدة". ومن ذلك قول ابن مسعود وأبي هريرة: "لا تسبوا الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم" وقد رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ورووا عن ابن عباس أنه قال: "لا تقولوا: والذي خاتمه على فمي، فإنما يختم الله عز وجل على فم الكافر". ومما كرهه ابن عباس قولهم: قوس قزح، وقال: قزح شيطان. فكأنه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية في الإضافة إلى الأصنام. 

والشياطين وكأنه أحب أن يقال: قوس الله، فيرفع من قدره كما يقال أرض الله وسماء الله. وبقيت أمثال لذلك كثيرة لا نطيل في استقصائها.
أمثلة المولد وكتبه:
وقد علمت أن من المولد هذه المصطلحات التي جاءت بها العلوم، وهي معدودة أيضا من الألفاظ الإسلامية؛ لأنها وضعت في الإسلام، ومنها ألفاظ خاصة بالمتكلمين والرياضيين والفلكيين والأطباء والفقهاء والصوفية وغيرهم، وقد أفردت لها معاجم خاصة بشرحها: ككتاب "التعريفات" للجرجاني، و"كشاف اصطلاحات العلوم" للتهانوي، و"كليات" أبي البقاء، واصطلاحات الصوفية. وأول ما وضع من هذا النوع فيما نظن، كتاب "مفاتيح العلوم" لمحمد بن أحمد الخوارزمي من أهل القرن الرابع، وهو على اختصاره مفيد، جمع فيه مصطلحات أهل العلوم والصناعات المختلفة، ونحن ننقل منه بعض أمثلة توفية للفائدة. فمن ذلك في مواضعات كتاب ديوان الخراج "الحشري" وهو ميراث من لا وارث له -ويعرف في أيامنا بالمحلول- و"الإقطاع" وهو يقطع السلطان رجلًا أرضًا فتصير له رقبتها، وتسمى تلك الأرضون قطائع، واحدتها قطيعة؛ و"الطعمة" وهي أن تدفع الضيعة إلى رجل ليعمرها ويؤدي عشرها وتكون له مدة حياته، فإذا مات ارتجعت من ورثته، والقطيعة تكون لعقبه من بعده. و"التسويغ" وهو أن يترك للرجل شيء من خراجه في السنة، وذلك "الحطيطة والتريكة".
من مواضعات كتاب ديوان الجيش "الأطماع" وتمسى الزرفات: وهي مرتبات الجند، والعمال، و"التلميظ"، وهو أن يطلق لطائفة من المرتزقين بعض أرزاقهم قبل أن يستحقوا، وقد لمظوا بكذا، و"المقاصة" وهي أن يحبس عن القابض لماله ما كان تلمظه أو استلفه.
وقد رأينا لعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي المتوفى سنة 340هـ كتابًا سماه "الزاهر" يذكر فيه معاني الكلام الذي يستعمله الناس من المولد أو من الألفاظ الإسلامية؛ ويؤخذ من مقدمته أن المفضل أنشأ كتابًا في هذا المعنى سماه "الفاخر" جمع فيه قطعة من اشتقاق ما يكثر في المحاورات والمخاطبات، فعمل محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة 328هـ في ذلك كتابه الموسوم بالزاهر فصل فيه كتاب "المفضل" وأكثر شواهده وضبطه، فجاء الزجاجي واختصره وأصلح ما فيه من السهو والغلط وكشفه وشرح معانيه. ومما أورده في هذا الكتاب، معنى قولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وألفاظ القنوط والاستغفار، والأذان والتشهد ونحو ذلك؛ وهو يبحث في اشتقاق الكلام ويذكر الأقوال الواردة في معانيه ويرد أكثر ذلك إلى أصله العربي. ومن أمثلته شرحه لقولهم: "بيت مُزَوق" قال أبو العباس ثعلب: معناه: بالزاووق، والزاووق في لغة بعض أهل المدينة: الزئبق، وهو يقع في التزاويق؛ فمزوق مُفَعَّل منه. ا. هـ.
الغريب المولد:
ونريد به في المولد ما يقابل الغريب والحوشي في العربي العتيق، وذلك كالذي اخترعه بعض المفسرين الذين نصبوا أنفسهم للعامة وحطوا في هواهم؛ فإن المفسر كلما أغرب عند العامة كان أحب إليهم. ومن هؤلاء عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر بن الأصم. وقد نقل الجاحظ أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الويل: واد في جهنم. قال: ثم قعدوا يصفون ذلك الوادي. وسئلوا عن قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقالوا: الفلق واد في جهنم، ثم قعدوا يصفونه. وفسروا قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فقالوا: النعيم الماء الحار في الشتاء والبارد في الصيف. أي: فكأنه من الأضداد، ومثل ذلك كثير عن بعض غلاة الصوفية أيضًا، والأصل في جميعه ما أومأنا إليه من الألفاظ المنهي عنها.
وليس يؤتي القوم إلا من الطمع ومن شدة إعجاب العامة بالغريب من التأويل، وهو كذلك الغريب الكاذب في المولد من اللغة. 












مصادر و المراجع :

١-تاريخ آداب العرب

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتاب العربي

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید