المنشورات

تحديد مجال مستقل و متميز المعالم في البحث الأكاديمي

إن العنوان الفرعي لهذا الكتاب هو «التخصص والتنوع discipline and) (iversity ل، وهذان موضوعان ملائمان للغاية لإعطاء تصور للنظرية المعيارية في العلاقات الدولية باعتبارها مجالا منفصلا قائما بذاته في البحث الأكاديمي. إن علاقة نظرية العلاقات الدولية المعيارية بتخصص العلاقات الدولية، والتنوع
الذي غالبا ما يتم إغفاله) ضمن نظرية العلاقات الدولية المعيارية ذاتها، هما قضيتان معندتان وحاسمتان في فهم هذه المجموعة من الأعمال. وسيتم التطرق إلى كلتا القضيتين في هذا القسم. ولكن، قبل البدء بإعطاء هذه النظرة العامة عن المجال، ينبغي تقديم بعض التحذيرات التمهيدية في شأن التسمية المستخدمة هنا لوصفه.
أولا، على الرغم من أن عددا من المنظرين يشيرون إليها باسم «نظرية العلاقات الدولية المعيارية)، فإن هناك أسماء بديلة تعطى للمجموعة نفسها من الأعمال الفكرية. فكثيرا ما يشار إلى نظرية العلاقات الدولية المعيارية باسم النظرية السياسية الدولية (أو النظرية السياسية بين الدول] international t) (political theory
(IPT
أو ببساطة باسم «الأخلاقيات الدولية) international) (ethics، ولا تشير هذه المجموعة من التسميات إلى قضية تعدد الهويات او تشوشها من جانب مجتمع الباحثين الأكاديميين الذين يساهمون في هذا المجال، فهناك أسباب مقنعة لكل واحد من التسميات المتباينة، حيث إنها تسلط الضوء على ما بدين به المجال للنظرية السياسية، أو تركيزه على الأسئلة الأخلاقية، أو الروابط التي تربطه بتخصص العلاقات الدولية مثلا. وحيث إن آيا من هذه التسميات لم يستطع أن يشتمل على جميع هذه الخصائص، فإن هؤلاء الذين يتبنون التسميات المختلفة هذه، يتحدثون عن مجال الدراسة العام ذاته. بعبارة أخرى، إنهم يتفقون على كيفية وصف مجتمعهم الفكري، حتى وإن كانوا يختلفون حول تسميتهم له. والتحذير الثاني ربما يكون غنيا عن التعريف، لكنه مع ذلك جدير بالتشديد عليه. تتطرق نظرية العلاقات الدولية المعيارية إلى البعد الأخلاقي للعلاقات بين طيف كامل من الجهات الفاعلة في الفضاء العولمي، ولا أحد ممن يكتبون في هذا المجال يفهمه إلى الحد الذي يخوله أن يتعامل بشكل مستفيض مع مسألة العلاقات بين الدول أو الأمم، على الرغم من المعنى الحرفي لمصطلح «الدولي». والتحذير الثالث المهم المتعلق بتسمية نظرية العلاقات الدولية المعيارية يهتم بما يعنيه المنظرون الذين يعملون في هذا المجال بكلمة معياري»، إذ قد يكون هذا المفهوم مضللا. يمكن أن يعني مصطلح المعياري، كما هو مفهوم عموما، توصيفا إلزاميا (يعطي وصفة ملزمة] (prescriptive) كما في تحديد المقايس (standardsetting)، أو من الممكن أن يعني أنه متعلق بمقاييس السلوك، والمعايير، والقيم. وكما يشير کريس براون (Chris Brown) على نحو مفيد، فإن الخطر يكمن في أن يتم الخلط بين نوعين مختلفين من النشاط الفكري، هما تحديد المقاييس، ودراسة كيفية تحديد المقاييس (وما هي المقاييس التي يتم تحديدها ومن يقوم بذلك) (19). وطالما أننا نقبل بان تعني نظرية العلاقات الدولية المعيارية بالمعايير الأخلاقية تحديدا أو تلك التي تحمل طابعا التزاما وليس مجرد رسم خريطة لأنماط السلوك)، فالمجال إذا يوصف بطريقة أكثر دقة من خلال الدلالة الثانية والأوسع لمصطلح
معياري»، ومجموعة الأعمال هذه تشتمل بالفعل على محاولات في تقويم وتوصيف المبادئ، والسياسات، والممارسات، لكنها تعني أيضا بتفسير وفهم البعد الأخلاقي للسياسة الدولية. أخيرا، فإن تخصيص تسمية نظرية العلاقات الدولية المعيارية لمجموعة الأعمال هذه لا يعني أن الأعمال الأخرى التي تجري في تخصص العلاقات الدولية ليست معيارية بطريقة ما من حيث كونها غير ملمة بالقيم، أو أنها تخلو من الافتراضات الأخلاقية الكامنة، بل إن هذا التخصيص يؤكد أن نظرية العلاقات الدولية المعيارية تعني، بالدرجة الأولى وبشكل واضح، بالبعد الأخلاقي للسياسة الدولية بطريقة لا تشبهها فيها الأعمال الأخرى في تخصص العلاقات الدولية.
التاريخ والتأثيرات
عادة ما يتم تقديم نظرية العلاقات الدولية المعيارية على أنها مجال جديد وشائق في البحث الأكاديمي، هذا المجال الذي لم ينبثق فعلا إلا خلال السنوات
- بديلا آخر للنظرية المعمارية في العلاقات الدولية. انظر: Simon Coney
, Justice Round Barmers : A
(10)
2005) Global Polinical Theory (Oxford: Oxford University Pr Brown. International Relatins Then We Nemati Approaches. p. 3 الخمس والثلاثين الماضية تقريبا، وغالبا ما يتم تصويره أنه ذو تاريخ واضح المعالم يمكن تتبعه لمئات أو حتى لآلاف السنين. إذا، ما هو التصور الصحيح؟ الجواب القصير هو أن كليهما صحيح. والإجابة الأطول والأكثر تشويقا هي أن هذين التصورين پر گزان على جوانب منفصلة في تاريخ هذا المجال وتأثيراته الرئيسة. إضافة إلى ذلك، فإن كل واحد منهما يقدم رؤية مختلفة للعلاقة التي تتمتع بها نظرية العلاقات الدولية المعمارية في تخصص العلاقات الدولية
وقد وصف تيري ناردين (Temy Nardin) المجموعة الكاملة للأعمال التي تركز على الأخلاق في العلاقات الدولية بأنها المقبل جديد» ضمن تخصص العلاقات الدولية (1). وهذا التصوير منطقي جدا. فقد ظهرت مجموعة أعمال
حديثة نسبيا في التنظير المعياري عن العلاقات الدولية، ليس في سباق السلوكية (behaviouralism) الملتزمة ضمن التخصص وحسب، بل أيضا في أعقاب حقبة
طويلة كان فيها الفلاسفة الأخلاقيون معنيين بالأسئلة التحليلية التجريدية أكثر من اهتمامهم بالمعضلات الأخلاقية في العالم الواقعي (12). بكلمة أخرى، فقد مثل هذا البحث الأكاديمي ابتعادا ثنائيا: بعيدا من دراسة علمية لتخصص العلاقات الدولية، وايضا بعيدا مما كان قد أصبح دراسة سطحية للاخلاقيات. وقد استجد عدد من الأمور في البيئة الأكاديمية وكذلك في السياسة الدولية كان باعنا على هذا التركيز الذي يبدو مبتکرا.
أولا، قذفت مجموعة من المشكلات الدولية المتشابكة في الستينيات والسبعينيات بمعضلات أخلاقية صعبة، حفزت بدورها مجموعة من الفلاسفة على التركيز على المسائل العملية في السياسة العالمية. فعلى سبيل المثال، فإن الحوادث المتمثلة بسياسة الردع النووي التي ميزت الحرب الباردة وحرب الأيام السنة العربية - الإسرائيلية لعام 1967، وحرب فيتنام بين عامي 1959 و 1975، بما فيها من حوادث مثل مذبحة مي لاي (My Li المروعة عام 1968، قد حثت الفلاسفة على تحويل انتباههم إلى أخلاقيات الحروب بعد مدة طويلة من إهمال البحث الأكاديمي لها. وتساءل الفلاسفة عما إذا كان من الجائز أخلاقيا التهديد باستخدام العنف (على شكل هجوم نووي) الذي سيكون تنفيذه مرفوضا، ومتى يكون اللجوء إلى استخدام القوة مبررا، هذا إذا كان في الإمكان تبريره أصلا، وكيف ينبغي التحكم بالعنف المنظم"). وخلال هذه العملية، قامت مجموعة فكرية تعرف باسم فكر الحرب العادلة just war) (tradition بمواجهة اصحوة جديدة في الفلسفة (14). وعلى غرار ذلك، أتي واقع الفقر والمجاعة في عديد من الدول الأفريقية، وفي مناطق مثل شرق البنغال (بنغلادش حاليا)، إلى إلهام الفلاسفة الأخلاقيين بالتطرق إلى مشكلة اللامساواة الصارخة في التوزيع العالمي للموارد والثروة وأن نضع في الحسبان التزاماتنا الأخلاقية نحو «الغرباء البعيدين (19). هل من الإنصاف أن يعيش بعض الناس في فقر مدقع لمجرد الصدفة المتعلقة بالمكان الذي ولدوا فيه؟ وما هي الواجبات التي علينا - إن كانت هناك أي واجبات - نجاه أولئك الذين يموتون جوعا في قارات أخرى؟ |
ثانيا، وفي الوقت نفسه تقريبا، نشر المنظر السياسي الأميركي جون رولز (John Rawls) عملا فكريا مؤثرا بشكل ضخم، وهو كتاب بعنوان نظرية في العدالة (10) (A Theory of Justice). وفي هذا الكتاب الرائد، تطرق رولز إلى أسئلة تتعلق بالعدالة التوزيعية (distributive justice)، ضمن الدولة نفسها مبدئيا، وقدم تمريئا عقلا أصبح الآن شهيرا، يطلق عليه اسم الموقف الأصلي original) (position. وفي الموقف الأصلي الافتراضي الخاص برولز، لا يكون لدى الفرد أي معرفة بما هي مهاراته ومواهبه المحددة الخاصة به، والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وحالته الاجتماعية، ووضعه التاريخي، وجنسه، وإدراكه للخير، إلى جانب أمور أخرى). من نقطة البداية هذه، پري رولز أن الأفراد، من دون التحيز والتعصب، سيوافقون على مبادئ العدالة في المجتمع. ومن المبادئ التي يتم التوصل إليها وفق هذه الظروف والشروط مبدأ الفرق the difference) (principle، أو الاشتراط أن يتم تعديل اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية بحيث تكون المصلحة أولئك الأقل حظا» (1). ولم يكن هذا دافئا مهما نحو مزيد من التنظير في العدالة ضمن الدولة فحسب، وإنما استثار أيضا ردات فعل حادة عند أولئك الذين كانوا مهتمين بالأسئلة الآنية المتعلقة بالعدالة التوزيعية خارج حدود الدولة، والذين كانوا ناقدين لمعالجة رولز الهامشية (والمحافظة) للعدالة على النطاق الدولي، وقد رأى هؤلاء النقاد أن ثمة إمكانات كامنة لأخذ أشكال أخرى من الموقف الأصلي الخاص برولز وتطبيقها على مشكلة اللامساواة العالمية (10). وعلى الرغم من أن هذا التأثير جاء من المؤسسة الأكاديمية وليس من العالم التطبيقي، إلا أنه تم مرة أخرى إظهار أن الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالسياسة الدولية وثيقة الصلة بالموضوع، وأن هناك حاجة ماسة إلى الالتفات
إليها.
أخيرا، كان هناك ضمن تخصص العلاقات الدولية نفسه قلق متزايد خلال الثمانينيات والتسعينيات بشأن التحيز الوضعيين في التخصص، واعتراف عند بعضهم بأن استثناء القيم والمسائل المتعلقة بالأخلاق من حيز البحث الأكاديمي المشروع، قد نتج عنه فقر في التنظير، وعدم قدرة على مواجهة بعض أكثر المسائل إلحاحا والتي تبرز في العلاقات الدولية (20). وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن «الثورة السلوكية، التي يرت تخصص العلاقات الدولية في شمال القارة الأميركية لم تكن في أي وقت من الأوقات قوة قيادية في الدراسة البريطانية للعلاقات الدولية، فما يسمى ب المدرسة الإنكليزية، ومقاربتها المنهجية التقليدية، أو «الكلاسيكية (انظر الفصل السابع)، لم تطمح إلى تفسير العالم من خلال قوانين حاكمة متأصلة في حقائق قابلة للمشاهدة وخاضعة للتمحيص الإمبيريقي، وإنما استندت إلى الفلسفة، والتاريخ، والقانون الإصدار الأحكام على العلاقات الدولية. وعلى الرغم من أن تصور شمال القارة الأميركية لتخصص العلاقات الدولية قد سيطر على التخصص، إلا أن الفضاء المفاهيمي للبحث الأكاديمي غير الوضعي الذي ترك مفتوحا على الجانب الأخر من المحيط الأطلسي، ساهم كما يزعم في واقع أن كثيرا من المنظرين الذين أدوا «التوجه المعيارية في تخصص العلاقات الدولية كانوا بريطانيين، أو كانت لديهم روابط قوية بالمجتمع الفكري البريطاني
خلاصة القول، إن الجزء الأخير من القرن العشرين قد شهد أعمالا فكرية مهنة ضمن تركيز الفلسفة الأخلاقية على المشكلات الواقعية العملية في السياسة الدولية، وقد أتت أطروحة رولز المهيمنة في النظرية السياسية إلى توجيه الانتباه نحو مسائل العدالة خارج حدود الدولة، وإلى إحباط إزاء الصمت بشان القضايا الأخلانية الذي تولد من تخصص في العلاقات الدولية بخلو ظاهريا من القيم، ووفرت هذه التركية من التأثيرات أرضية خصبة لظهور تنوعات جديدة من المنظرين، تميزت بالحركات التي نتمي إلى الفلسفة الأخلاقية والنظرية السياسية، لكنها كانت راسخة في تخصص علاقات دولية ليس محددا بالوضعية بشكل حصري. وكانت النتيجة أن ظهرت أعمال رائد من جمع من علماء البحث المعيارية في تخصص العلاقات الدولية خلال عقد الثمانينيات وأوائل التسعينيات من بينهم هوفمان، ولينكلاينر، وناردين، وفروست، و براون) (2) وكذلك ظهور مناقشات حول مجال جديد ومنفصل في التنظير في تخصص العلاقات الدولية، وأيضا تأسيس قسم الأخلاقيات الدولية في عام 1993، في أكبر هيئة مختصة بالعلاقات الدولية، وهي جمعية الدراسات الدولية (International Studies Association
(ISA
). وقد تبع ذلك تكاثر لأعمال الجيل الثاني في نظرية العلاقات الدولية المعيارية (ومن بينهم کوتشران، وهتشينغز، وجونز، وروبنسون، و شايکوت، وكايني، ولو، وإرسکاين) (2). وقد وجدت هذه الأعمال الأكثر حداثة أن الدفاع عن شرعية الخوض في المساعي المعيارية ليس ضروريا إلى ذاك الحد، وسعت بدلا من ذلك إلى تحذي، وتعريف، وتوسعة نطاق، وتعديل فئات هذه المجموعة من الأبحاث الأكاديمية وأهدافها.
هذا التصور للنظرية المعيارية في العلاقات الدولية بوصفه مجموعة كاملة من الأعمال التي بدأت في الظهور خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية فقط، والتي تم تعريفها لاحقا بأنها مجال منفصل من البحث الأكاديمي في العلاقات الدولية، ينسجم بشكل ملحوظ مع تصويره على أنه «مجال فرعي حديث ضمن تخصص العلاقات الدولية (2). من هذا المنظور، عد النظرية المعيارية في العلاقات الدولية الأخ الصغير الذي ربما يكون غير ناضج نوعا ما، في عائلة متنامية من نظريات العلاقات الدولية. إن مثل هذه الرواية تشرد جزءا مهما من القصة التي تحدد الخطوط العريضة لتاريخ هذا المجال من البحث الأكاديمي وتأثيراته، وربما تعطي أيضا التصور الأكثر دقة من منظور أولئك الذين يساهمون في مقاربات أخرى ضمن التخصص. مع ذلك، فإن هذه الرواية منفردة، وتهدد بإهمال جانب آخر في تاريخ هذه المجموعة من الأعمال وتأثيراتها، وبالتأكيد، تهدد بإغفال جانب مهم متعلق بكيفية تعريف مجموعة الأعمال هذه لنفسها.
وفقا لرواية أخرى، فإن للنظرية المعيارية في العلاقات الدولية جذورا في أعمال فلاسفة عظماء أمثال أفلاطون (Plato)، وأرسطو (Aristotle)، وكانط (Kant)، وهيغل (Hegel)، ومارکس (Man). وهذا التصور للنظرية المعيارية في العلاقات الدولية هو أقل انسجاما مع وصفه مجالا فرعيا جديدا في تخصص العلاقات الدولية، والذي لم يظهر إلا في الآونة الأخيرة نتيجة الالتقاء العرضي للظروف الفكرية، لكنه يصور نظرية العلاقات الدولية المعيارية وكانها تمثل موروئا فكريا غنيا، سبق له أن قدم إطارا نظريا كاملا ومقنعا لدراسة العلاقات الدولية في الوقت الذي كانت فيه هذه الدراسة منضبطة» (29). وقد أهمل هذا الإطار النظري الشامل، والمتأصل في الفلسفة الأخلاقية والنظرية السياسية، لمدة موقتة وذلك عندما أخذ تخصص العلاقات الدولية الجديد، وبشكل جذري، اتجاها مختلفا ذا طابع سلوكي، بكلمة أخرى، لك تخصص العلاقات الدولية «طريقا بديلاء خاطئا أو تم تحويلها بعيدا من بداياته المعيارية، ويقوم الازدهار الحالي للنظرية المعيارية في العلاقات الدولية بإعادة التخصص مجددا إلى مساره الأصلي (9) من هذا المنظور، فإن نظرية العلاقات الدولية المعيارية ليست الأخ الصغير في عائلة من نظريات العلاقات الدولية التي تتنامي بشكل سريع، بل هي جذ موثر ومنسي منذ زمن طويل، وكان قد جرى موقتا حجب فرع هذا الجد من شجرة عائلة تخصص العلاقات الدولية، بسبب ولادة المقاربات العلمية، وسيطرتها في دراسة العلاقات الدولية، ولم يتم إعادة الاعتراف بأهمية هذا الجد ونسب سلالته المتميز إلا أخيرا. 

إذا، هل من الممكن لكلا التصورين المتعلقين بتاريخ نظرية العلاقات الدولية المعيارية وتأثيراتها أن يكونا صحيحين؟ نعم في إمكانهما؛ وذلك ببساطة الأنهما جانبين مختلفين للمسألة نفسها. وهذا المجال قادر على أن يدعي أن له تاريخا فكريا طويلا، وقد زودته السنوات الخمس والثلاثون الماضية بالسياق المثالي الذي يتيح إعادة اكتشاف هذه الجذور، ومن أجل نمو فروعه المعاصرة ضمن تخصص علاقات دولية بلاقي قبولا أوسع. ويقوم هذا التاريخ بإحضار ادوات نظرية، وفوارق مميزة، ورؤى فريدة لدراسة العلاقات الدولية، من النظرية السياسية ومن الفلسفة الأخلاقية، وسيتم التركيز على بعض منها بعد قليل. مع ذلك، فإن مجموعة الأبحاث الأكاديمية المعاصرة هذه موضع نفسها أيضا ضمن تخصص العلاقات الدولية. ولا يفصل منظرو العلاقات الدولية المعيارية أنفسهم عن سائر تخصص العلاقات الدولية (حتى عندما يستميلون إلى صفوفهم بعضا من الفلاسفة ممن لا يعتبرون أنفسهم باحثين أكاديميين في تخصص العلاقات الدولية). وبدلا من ذلك، فإنهم بعيدون تعريف حدودهم في البحث الأكاديمي المشروع في تخصص العلاقات الدولية من أجل أن تشتمل
الحقائق التي ندرسها على القيم التي تقوم بطرائق متنوعة بتحديد من نكون، وبتوجيه تصرفاتنا، والجدير بالذكر أن نظرية العلاقات الدولية المعيارية لا تستلزم وجود نظرية ثابتة واحدة في العلاقات الدولية، وإنما بتبنى المساهمون في المجال مواقف نظرية غالبا ما تعد شديدة التباين. ومن الطرائق المستخدمة في تنظيم هذا التنوع تأسيس تقسيم تميزي بين المقاربات «الكوزموبوليتانية و الجماعتية. الكوزموبوليتانية والجماعتية
نحن كلنا أعضاء في مجتمعات ومؤسسات متنوعة، ومساهمون في ممارسات مختلفة، ومتأثرون (في اتجاهات متضاربة أحيانا) بطيف واسع من الولاءات. فقد يكون الفرد بريطانيا (وويلزيا)، أو أميركيا على سبيل المثال، ويكون كذلك عضوا فاعلا في اتحاد طلبة جامعة أبريستويث، وأيضا مؤيدا لكل من حزب العمال ونادي ليفربول لكرة القدم، أو مؤيدا للحزب الديمقراطي بالكوزموبوليتانية السياسية وتتطلب خلق دولة العالم. والنقطة الحاسمة هي أن مواقف الكوزموبوليتانية الأخلاقية تنكر بعناد أن الحدود السياسية - إضافة إلى التقسيمات الثقافية، والشعورية، والوطنية، والدينية، والأيديولوجية - يمكن أن ترسم حدودا تجعل من الآخرين طبقة من الخارجيين (outsiders). ومن وجهة النظر الكوزموبوليتانية الأخلاقية، فإن علينا واجبات تجاه الآخرين جميعهم في كونهم بشرا مثلنا. وكيفية تحقيق هذه الرؤية الشاملة هي أمر مهم، ومثير للجدل أيضا. والأمر الأساسي للموقف الكوزموبوليتاني الأخلاقي هو أن من الضروري عزل النفس عن روابط وولاءات معينة أو التجرد منها. عندئذ يمكننا التوصل إلى منظور لا يستثنى من خلاله أحد (وقد يكون من المفيد هنا أن نعيد التفكير في التمرين العقلي لرولز، أي الموقف الأصلي الذي طبقه بعض الكوزموبوليتانيين البارزين، أمثال تشارلز بيتر (3) (Charles Beitz) على المستويات العالمية). من وجهة النظر الكوزموبوليتانية الأخلاقية، حقيقة أن يكون الفرد بريطانيا أو أميركيا، مسيحيا أو مسلما، ابن أحد ما أو ابنته، هي أمور لا علاقة لها بالهدف المتمثل بإصدار الأحكام التقويمية الأخلاقية. إلا أنه بالنسبة إلى نقاد الكوزموبوليتانية الأخلاقية، فإن هذا السبيل في الاشتمال بولد قلقا كبيرا. فإذا أسقطنا جميع الجوانب التفصيلية لهوياتنا والتي تحدد من نكون، عندئذ ما الذي يتبقى؟ وكيف يمكن مثل هذه الصور المنعكسة عن أنفسنا أن تخوض في التحليل العقلي الأخلاقي؟
هذه تماما هي الأسئلة التي تهتم بها الجماعتية. فالجماعتيون ينتقدون المواقف الكوزموبوليتانية لأنها تقترح إمكان أن يتجاهل الفرد تفصيلات حياة الإنسان من أجل اتخاذ قرارات من وجهة نظر محايدة، وهم يعارضون فكرة أن العضوية في مجتمعات معينة، والمشاركة في ممارساتها، محددة أخلاقيا. فعندما يكون الشخص فاعلا أخلاقيا (moral agent) (أو متحملا للواجبات)، فهو أولا وقبل كل شيء بريطاني أو أميركي، مسلم أو مسيحي، ابن أحد ما أو ابنته. 

ويقول الفيلسوف السداير ماكتتاير (27)، إن هذا النوع من الهويات والأدوار يحدد حتما نقطة البداية الأخلاقية (moral starting point) الخاصة بالفرد، وأن نتجرد منها يعني أن يعتبر المرء نفسه غير قادر على القيام بالتحليل العقلي الأخلاقي
لقد أخذت نظرية العلاقات الدولية المعيارية مصطلح الجماعية، من النظرية السياسية، ولتجنب الخلط بينهما، ينبغي أن نذكر أن معني المصطلح قد خضع لتعديل طفيف أثناء عملية تبنيه. فالجماعتية الخاصة بالنظرية المعمارية في العلاقات الدولية هي في موضع معارض للكوزموبوليتانية، أما ضمن النظرية السياسية فالجماعتية تشكل طرفا من أطراف الحوار مع الليبرالية. وعلاوة على ذلك، فإن الموقف الجماعتي ضمن نظرية العلاقات الدولية المعيارية بتسم بطريقة تتعامل مع المجتمع المحدد للأخلاق ومع الدولة بوصفهما مترادفين. وبشكل عام، لا يجري منظرو النظرية السياسية الجماعتيون المعادلة نفسها. بعبارة أخرى، يعد شكل الجماعية الخاص بالنظرية المعيارية في العلاقات الدولية متمركا حول الدولة بشكل استثنائي. ونقاط الالتقاء الناجمة عن التلاقي مع مواقف الواقعية الكلاسيكية تلك، والتي تتبنى مواقف أخلاقية (غالبا ما تكون مهملة)، تعني أنه ربما يكون من المفيد أن نسمي هذا البديل المتمرکز حول الدولة باسم الواقعية الجماعتية، لتميزه عن نظيره الخاص بالنظرية السياسية (2). ويجدر بالذكر أن تحديد منظري المعيارية في العلاقات الدولية المعاصرين الذين ينضوون مباشرة ضمن هذه الفئة الجماعية المرسومة بصورة المثالية، هو أمر أكثر صعوبة من تحديده في الكوزموبوليتانية. مع ذلك، فمن الأمثلة البارزة على المواقف الجماعتية على نطاق واسع في ما يتعلق بالمسائل الأخلاقية في العلاقات الدولية مثال النظرية التأسيسية (constitutive theory) الميرفن فروست (29) 

حتى عندما تقدم المواقف الجماعتية ما يمكن وصفه بأبدال مقنعة للفرد الذي يبدو محايدا كما تصوره الجدالات الكوزموبوليتانية، فإنها تتصادم مع نقاط ضعف أخرى مزعومة؛ أي إن النقاد يجادلون بأن المنظور المجتمعي جبر الشخص على إعطاء تفضيلات لأفراد المجتمع الذي ينتمي إليه. وبالنسبة إلى الواقعية الجماعتية الخاصة بالنظرية المعمارية في العلاقات الدولية، فالتهمة الموجهة هي، بوصف أدق، أن هذا الموقف يعطي الأولوية للمواطنين من الدولة نفسها، وعلى الرغم من أن حدود الدولة ليست لها قيمة رئيسة إلا من وجهة النظر الكوزموبوليتانية، فهي محددة للأخلاق من هذا المنظور المجتمعي. إذا، فالخطر هو في أن تقوم الحدود الخاصة بدولة الفرد بتمييز أولئك «الداخليين» (insiders) بمعنى أن لديهم مكانة أخلاقية متساوية. إذا كانت الأمور هكذا، قد يكون إذا على الجماعتيين بعض الواجبات تجاه أولئك الذين هم ليسوا مواطنين من الدولة نفسها، إلا أن لهؤلاء «الخارجيين، مكانة أخلاقية أدنى اليست متساوية مع الداخلينا. ولهذا الأمر نتائج محتملة واسعة النطاق تتعلق بالالتزام بضبط النفس في الحروب، وهو ما سيتم التطرق إليه في الفقرات
التالية
يمكن فئات الكوزموبوليتانية والجماعتية أن تقدم أدوات تحليلية مفيدة للغاية، ويمكنها تحديدا أن تساعدنا في فهم وتوضيح العلاقة بين مصدر منا (أو
نقطة البداية الأخلاقية الخاصة بنا)، ونطاق التزاماتنا واجباتنا تجاه الآخرين. وقد اكتسب هذا الانقسام الثنائي المفترض أهمية بارزة بعد أن تم توظيفه في عام 1992 من براون في كتابه الذي يعد لينة أساسية في هذا الموضوع وعنوانه نظرية العلاقات الدولية: مقاربات معيارية جديد 90): International Relations Theory) (New Normative Approaches. كان الإطار التحليلي الخاص ببراون قد قدم في البداية مع اشتراط واضح بأن المواقف النظرية لا تنضوي جميعها بسهولة تحت جانب أو آخر من الانقسام الكوزموبوليتانيا المجتمعي، وأن هذا التصنيف هو حتما وسيلة منقوصة في تنظيم طيف واسع من المواقف المركبة، وهدفه تسليط الضوء على خصائص مهمة لهذه المواقف، وليس تمثيل كل واحد منها بطريقة مثلى، وقد أصبحت فئات الكوزموبوليتانية والجماعتية مركزية لكم كبير من الأعمال المنجزة ضمن النظرية المعيارية في العلاقات الدولية، من حيث طريقة تطبيقها ومناقشتها في سياق المشاكل العملية في السياسة العالمية، وايضا من حيث الطريقة التي يتم فيها تحدي هذه الفئات واعادة صوغها من جانب أولئك الذين يقدمون أطر عمل بديلة. والأمر الحاسم هو أن أيا من الكوزموبوليتانية أو الجماعتية لا يشير إلى موقف معين في السياسات. وبالتأكيد، فإن الموقف الجوهري نفسه - سواء أكان تبريرا لتقسيم العالم إلى دول منفصلة ذات سيادة أم كان تبريرا للحظر المفروض على قتل المدنيين في الحروب - يمكن أن بلاني تأييدا من كلا المنظورين الأخلاقيين. وعلى الرغم من ذلك، ولأن هذه الرؤى المختلفة للعالم تناسب مصادر مميزة للقيم، ونتج في الوقت نفسه تصورات متفاوتة عن امتلاك الأفراد من خارج المجتمع مكانة أخلاقية متساوية، فإنها تعطي دفاعات متباينة تماما حول السياسات نفسها. وسيتم توضيح هذه النقطة المعقدة بعض الشيء، من خلال دراسة الحالة.
النتائجية (consequentalism) والديونطولوجيا (deontology)
إن الكوزموبوليتانية والجماعتية هما رؤيتان للعالم مصؤرتان بصورة مثالية ومتنافستان. وهما تساعدائنا في التفكير في الهوية الأخلاقية، ومصدر قيمنا الأخلاقية، ونطاق التزاماتنا تجاه الآخرين المصاحب لهما، والكيفية التي يتم من خلالها تحفيز أفعالنا. أما النتائجية والديونطولوجيا المسؤوليات او الالتزامات الأخلاقية فهما شكلان مختلفان من أشكال النظرية المعيارية، ويقدمان أطر عمل أخلاقية لتوجيه قراراتنا وتقويمها في ما يتعلق بما ينبغي لنا أن نفعله، وكما الكوزموبوليتانية والجماعتية، فإن أفضل طريقة للتعريف بهما هي من خلال مقارنتهما بعضهما ببعض.
تتطلب النظريات النتائجية أن نتخذ القرارات وفقا لحالة الأوضاع التي ستنجم عن أفعالنا، حتى النتائج غير المقصودة لأفعالنا يجب أن تؤخذ في الحسبان. هناك أشكال مختلفة للنتائجية، لكن كل واحد منها يركز في الدرجة الأولى على آثار الأفعال، بدلا من التركيز على الأعمال ذاتها (1). لذا، على سبيل المثال، من المجادلات التائجية المحتملة (ولو أنها فظة بعض الشيء) الزعم بأن تعذيب شخص مشتبه به كإرهابي أثناء استجوابه أمر مبرر، او حتى أمر لازم، إذا كان يحتمل أن تنقذ ألف شخص بالمعلومات التي سيتم الحصول عليها. بكلمة أخرى، إن الأحكام الأخلاقية حول ما هو صحيح وما هو خاطي تعتمد على موازنة الفوائد المتوقعة التي ستتج عن فعل ما مقابل الأذى أو الأضرار المحتملة (والنفعية [مذهب المنفعة العامة] (Utilitarianism) هي شكل بارز من أشكال المواقف التائجية، والتي يتم وفقا لها فهم النتائج الجيدة والسيئة من حيث السعادة والمعاناة). بالنسبة إلى بعضهم، بعد هذا النمط من التحليل العقلي متساهلا بشكل مفرط ولا يمكنه إعطاء دليل إرشادي للسلوك الأخلاقي، ووفقا لهذه الانتقادات، فإن المشكلة هي أن أي سلوك - بما في ذلك الأذى كقتل الأبرياء أو المشاركة في التعذيب - يمكن تبريره أخلاقيا بناء على نتائجه المتوقعة. وعلى الرغم من أن اللجوء إلى النتائج يمكن أن يوجه في معارضة مثل هذه الأفعال (إذا كان الأذي الذي سينتج سيفوق الخير وفقا لبعض الحسابات)، بجد عديد من الناس أن أسلوب الجدال الذي يمكن أن يسمح بمثل هذه الأفعال (حتى ولو كان مصادفة) هو جدال غير مقبول. إلا أنه يمكن توجيه النقد إلى النتائجية لكونها متطلبة بشكل زائد عن اللزوم: فجميع الأفعال تعتبر إما محظورة وإما مرغوبة أخلاقيا، ويمكن عملية حساب النتائج المحتملة الكل فعل أن تكون عملية شاقة للغاية، أو حتى مستحيلة. تخيل أنك في حاجة إلى إصدار الحكم على كل خيار بأنه إما صائب وإما خاطي، بناء على نتائجه المتعددة التي ربما تكون بعيدة المدى.
ووفقا لتصنيف مختلف تماما في صنع القرارات، بعد بعض الأفعال خاطئا في حد ذاته، بغض النظر عن نتائجه. فقتل شخص بريء، أو المشاركة في التعذيب، على سبيل المثال، هي أفعال خاطئة بشكل مطلق ولا يمكن تبريرها حتى ولو كان الفعل سينقذ ألف شخص آخرين. وجهة النظر هذه تسمى «ديونطولوجية، أي أخلاقية (deontological)، وهي نسمية مستمدة من الكلمة الإغريقية (deon)، وتعني «الواجبات، [أو المسؤوليات] 22). بالنسبة إلى الديونطولوجيين، بعد التعذيب وقتل الأبرياء، على سبيل المثال، وسائل غير مقبولة للوصول إلى أي نهاية كانت (بغض النظر عن مدى بلها). فالأخلاقية تتطلب أن تكون دوافع الفرد والوسائل التي يجدها الفرد خيرة. وتقدم الأخلاقيات الكانطية (نسبة إلى الفيلسوف كانط)، وكذلك فكر القانون الطبيعي (natuml law imdition)، أمثلة مهمة في التحليل العقلي الديونطولوجي، ويجد بعض الناس هذا النوع من الالتزام الصارم با «إبقاء الأيادي نظيفة» (حتى عندما يمكن أن تنتج عنه عواقب وخيمة) أنه ذو إشكاليات جسيمة. وهناك أيضا مسألة مدى الإصرار على الخضوع المطلق لمبادئ معينة، كالحظر المفروض على قتل الأبرياء، ماذا عن ظروف الحرب، عندما يبدو قتل بعض المدنيين أمرا لا مفر منه؟ ويقودنا واحد من الردود الديونطولوجية (المثيرة للجدل إلى حد كبير) على هذه المشكلة إلى مبدأ الأثر المزدوج (doctrine of double efect
(DDE
). إن مبدأ الأثر المزدوج (DDE) هو حوار معقد متوافق مع بعض المواقف الديونطولوجية وغالبا ما تتم مناقشته من جانب منظري المعمارية في العلاقات الدولية في سياق أخلاقيات الحروب. وينص مبدا الأثر المزدوج على أنه من الجائز القيام بفعل حتى وإن نتج عنه أذى متوقع، طالما أن ذلك الأذى ليس مقصودا بشكل مباشر. إن فكرة المقصده أو النية] (intention) لها دور كبير هنا، فيتم الحكم على الخير في الفعل أو السوء فيه وفقا للقصد من ورائه. إلا أن مفهوم النية يستخدم على نحو أضيق مما قد نستخدمه في حديثنا اليومي. وهذا الأمر يتطلب بعض التفسير، كما قد يكون المثال مجليا هنا أيضا. فالقتل المتعمد لغير المقاتلين أو غير الجنود محظور في الحروب، وهو حظر مطلق. إلا أن تطبيق مبدا الأثر المزدوج ينبع للفرد التمييز بين القتل المباشر، ' direct') 

(killing للمدنيين، والذي هو محظور، وما يسمى بالقتل الجانب، ' collateral) (killing للمدنيين، والذي هو مباح (أو جائز) بشكل مشروط (33). إذا، قد يكون قتل المدنيين نتيجة متوقعة لهجوم على هدف عسكري مثلا. بعبارة أخرى، نحن نعرف أننا إذا قمنا بضرب الهدف العسكري، فإن بعض المدنيين الذين يقطنون في الجوار سيقتلون أيضا. مع ذلك، فوفقا لمبدأ الأثر المزدوج، يعد تنفيذ هذا الفعل مباحا إذا كانت وفيات هؤلاء المدنيين غير مقصودة. ومن الضروري أن نؤكد من
جديد أن لعبارة اغير مقصودة هنا لا تعني أننا لا نعي أن هذه العواقب محتملة، لكنها تعني ببساطة أن قتل المدنيين ليس جزءا من مقصدنا [أو غايتنا). وهذا ما يجد فيه عدد من النقاد صعوبة في القبول. فهل يعقل حقا أن نقول إننا نعرف أن أفعالنا سوف تنتج بعض النتائج المؤذية، وأن هذه النتائج هي مجرد «آثار جانبية (side - effect)، لا نقصدها» فعليا؟ يشكو بعضهم من أن مبدا الأثر المزدوج يعطي ذريعة مريحة أكثر مما ينبغي، لأي هجوم على المدنيين، وعلى الرغم من ذلك، ثمة قيود صارمة على الأوقات التي يمكن فيها استدعاء مبدأ الأثر المزدوج؛ إذ من أجل أن عد النتائج السيئة المتوقعة حقا غير مقصودة (وتاليا مباحة)، لا يمكن هذه النتائج أن تكون وسيلة لتحقيق غاية الشخص. وهذا يعني أن قتل المدنيين بهدف تحقيق منفعة عسكرية من خلال إحباط الروح المعنوية، على سبيل المثال، أمر لا يمكن تبريره من خلال مبدأ الأثر المزدوج. علاوة على ذلك، فإن تطبيق مبدأ الأثر المزدوج في الحروب مقيد بمبدأ التناسبية (proportionality) الخاص بالنتائجية، ويفترض هذا المبدأ وجوب أن تؤدي الأفعال المسموح بها إلى تجاوز العقبة الإضافية المتمثلة في إحداث خير أكثر من الضرر.
كان لا بد من عرض مقدمة في الحوارات المتقدمة المركبة التي تدور حول المفاهيم الخاصة بالنتائجية والديونطولوجيا من أجل الإلمام بالمواقف
(33) لاحظ أن المدنيين، ليسوا الوحيدين الذين يندرجون تحت فئات اغير المقاتلين. فالجنود المسلمون او المصابون، على سبيل المثال، هم ايضا قتات من غير المقاتلين، لذلك فهم أهداف منع الهجوم عليها، إلا أنه في هذا الفصل، سيتم تحري المثال المحدد والمتعلق بالوفيات من المدنين من خلال مقارنته بمبدا حصانة غير المقاتلين البارزة في نظرية العلاقات الدولية المعيارية (34)، ومن أجل فهم وتقويم الأحكام الأخلاقية الكامنة وراء سياسات معينة في السياسة الدولية (05. إلى جانب الكوزموبوليتانية والمجتمعية، فإن الديونطولوجيا والتائجية هي أمثلة مهمة على الفئات والأدوات المفاهيمية التي يجلبها منظرو المعيارية في العلاقات الدولية إلى البحوث المتعلقة بالعلاقات الدولية. ومع ذلك، إضافة إلى تقديم نبذة عن الجذور النظرية والمفردات التي تميز نظرية العلاقات الدولية المعيارية من باقي التخصص، فالتعرف إلى نقاط الالتقاء التي تتشارك بها نظرية العلاقات الدولية المعيارية مع المقاربات الأخرى في تخصص العلاقات الدولية يكشف أمورا لم تكن ظاهرة من قبل. وهذا سيكون هدف القسم اللاحق. 













مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید