لدى معظم الواقعيين جواب مباشر عن مشكلة النظام العام (order)، وهو: السلطة المركزية الفعالة. فالحكومات التي تدافع عن الحدود، وتفرض تطبيق القوانين، وتحمي المواطنين، تجعل السياسة الداخلية أكثر سلمية، ومختلفة نوعيا عن السياسة الخارجية. وتبقى الساحة الدولية نظاما من الفوضى السياسية والمساعدة الذاتية، واساحة من العنف تبحث فيها الدول عن فرص لاستغلال بعضها بعضا» (2). ويعتمد بقاء الدولة على قدراتها المادية وتحالفاتها مع الدول الأخرى). إن ثوسيديدس ومورغنتار ليسا غير مكترثين بنتائج الفوضى السياسية، لكنهما لا يجريان هذا الشكل من التمييز النوعي بين السياسة الدولية والسياسة الداخلية، ويرى الواقعيون الكلاسيكيون أن كل السياسة هي تعبير عن الدوافع البشرية نفسها، وأنها عرضة للأمراض نفسها. فهم يرون تباينات في النظام العام والاستقرار ضمن الأنظمة المحلية والدولية أكثر من التباينات التي يرونها بين هذه الأنظمة، ويفترون ذلك بالرجوع إلى تماسك المجتمع، المحلي أو الدولي، وإلى القنوات التي وجه من خلالها الدوافع الإنسانية.
يكرس ثوسيديدس اهتماما متساويا للتطورات الداخلية في أثينا والتطورات الخارجية على ساحات الحرب المتنوعة. كما يصف تطورات موازية تحدث على كلتا الساحتين وشجعنا على أن نفهمها كمخرجات للعمليات المشابهة التي يعزز بعضها بعضا. والدول المدن أو المدن المستقلة ذات السيادة] city) (states التي يتحدث عنها ثوسيديدس تغطي كل سلسلة المدن، من تلك البالغة النظام والتوافق، إلى تلك التي تعصف بها الفوضى والحرب الأهلية، وليس لهذه الاختلافات أي علاقة بوجود اللوياثانه (Leviathan أو غيابه، وإنما لها علاقة بتماسك المجتمع (homonoia) [مفهوم النظام والوحدة، مأخوذ من أسم آلهة التوافق والإجماع ووحدة العقل]. فعندما تكون روابط المجتمع المحلي قوية، كما هو الحال في اثينا البريكليسية (نسبة إلى القائد الإغريقي الجنرال بريکليس (Pericles)]، وكذلك في اليونان عموما قبل الحرب البيلوبونيزية، فإن الناموس القانون (نوموس nomos) (90) يضبط الجهات الفاعلة، سواء أكانت أفرادا أم دولا مدا، وعندما ينهار المجتمع بنهار معه النظام، كما هو الحال بالنسبة إلى جزيرة كركيرا (Coreyra) في عشرينيات القرن الرابع قبل الميلاد
جزيرة كرگيرا هي التي يطلق عليها اليوم اسم جزيرة كورفو، والتي كانت تسمى ايضا کورسايرا عند الإغريق القدماء]. وكان ثوسيديدس سيتفق مع رأي ارسطو (Aristotle) الذي يقول إنه «ليس للقانون سلطة في الإجبار على الانصياع سوى قوة الشرف (4).
إن فهم مورغنتاو للعلاقة بين السياسة المحلية والسياسة الدولية هو انعکاس الفهم ثوسيديدس لتلك العلاقة، وقد قدم مورغتتار في افتتاحية كتابه الشهير السياسة بين الأمم (Politics Among Nations)، تمييزا دقيقا وفاصلا بين السياسة الدولية والسياسة المحلية، ليقوض من ثم أساس صحة هذا التمييز بطريقة منهجية، ويصر مورغتاو على أن كل السياسة هي صراع على السلطة التي هي
جزء لا يتجزأ من الحياة ذاتهاه. وتعمل القوانين، والمؤسسات، والمعايير في عديد من الدول، على توجيه الصراع على السلطة نحو قنوات مقبولة اجتماعيا تكون بمنزلة الطقوس. ولا يمكن ترويض الصراع بتلك السهولة على الساحة الدولية، لكن طبيعة العلاقات الدولية ظهر نبايا واضحا عبر الحقبات التاريخية. فقد كانت أوروبا في القرن الثامن عشر الجمهورية عظمي واحدة» لها مقايسها المشتركة في التهذيب والثقافة»، ومنظومتها المشتركة من الفنون والآداب، والقوانين، والأخلاق). وعلى الرغم من أن مورغنتاو لم يجر المقارنة التشابهية كتابة، إلا أنه تحدث غالبا عن التماثل بين العلاقات الدولية في القرن الثامن عشر والعلاقات الدولية في اليونان في حقبة ما قبل الحرب البيلوبونيزية. وفي كلتا الحقبتين الزمنيتين أدى «الخوف والخزيه وبعض من بداهيات الشرف والعدالة» إلى حض الزعماء على الاعتدال والتوسط في مطامحهم). وقد تفكك الحس المجتمعي نتيجة للثورة الفرنسية، واستعيد ظاهريا فحسب في أعقابها، وقد انهار تماما في القرن العشرين عندما أصبحت القوى الرئيسة منقسمة بالأيديولوجيات، وبالمصالح أيضا. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، قامت أربع قوي رئيسة في ألمانيا والاتحاد السوفياتي واليابان وإيطاليا، برفض مسلمات النظام الدولي ذاتها، واستمر الاتحاد السوفياتي في هذا الرفض في عصر ما بعد الحرب، ما جعل السياسة الدولية تختزل إلى المشهد البدائي الذي يصور اثنين من العمالقة، يناظر بعضهما بعضا بتشكك حذره.
وقد راي مورغنتاو التباين نفسه في السياسة المحلية. ففي المجتمعات القوية كبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، هدأت المعايير والمؤسسات الصراع على السلطة، لكن في المجتمعات الضعيفة كألمانيا النازية، والاتحاد السوفياتي في عصر ستالين، انهارت تلك المعايير والمؤسسات. وقد كانت السياسة في هاتين الدولتين الأخيرتين صارمة وغير مقيدة، تماما كحالها في أي حقبة من حقب العلاقات الدولية. وبالنسبة إلى مورغتاو، كما هو الحال بالنسبة إلى ثوسيديدس أيضا، عذ المجتمعات، والهويات والمعايير التي تساعد في خلقها واستدامتها، اخطر محددات النظام في الداخل والخارج.
توازن القوى
بري الواقعيون المعاصرون أن القدرات العسكرية والتحالفات العسكرية هما الركيزتان الأساسيتان للأمن. ولم يكن الإغريق آبهين، بأي شكل من الأشكال، بقيمة التحالفات. فقد لاحظ أرسطو أنه عندما يكون الناس أصدقاء فليس لديهم حاجة إلى العدالة، لكنهم حينما يكونون عادلين، فإنهم كذلك في حاجة إلى الأصدقاء،9). ويعترف ثوسيديدس، والواقعيون الكلاسيكيون بشكل عام، بأن القوة العسكرية والتحالفات العسكرية هي سيوف ذات حذين؛ فهي قادرة على إثارة الصراع مثلما هي قادرة على منعه.
لا يترك المجلد الأول من كتاب ثوسيديدس تاريخ الحروب البيلوبونيزية (History of the Pelopomnesian Wars) مجالا للشك في أن الجهد الأثيني الرامي للحصول على توازن في القوى لمصلحتها، كان سببا رئيسا للحرب. فقد قاد التحالف مع کر کيرا (والتي تسمى حاليا كورفو (Corfi)) إلى مواجهة عنيفة مع الأسطول الكورنثي، وزاد من احتمال وقوع حرب أوسع مع اسبارطة (Sparta). عندئذ، اتخذت أثينا إجراء قطعيا ضد ميغارا (Megara) وبوتيدايا (Potidaea)، وجعلت من الحرب أمرا تصعب الحيلولة دون وقوعه. أما تحالف اسبارطة مع کورنث (Corinth) فقد جزها بدوره إلى حرب مع أثينا والتي ربما كان كثير من الاسبرطيين يفضلون تجنبها. ولا يقدم نوسيديدس في أي جزء من كتابه ولو مثالا واحدا على تحالف دع الحرب، ووفقا لمنطق توازن القوى، كان يجدر ببعض من هذه التحالفات أن تعمل على ردع الحرب. وتطرح الرواية التي قدمها ثوسيديدس عن الجدال الميتيليني (Mytilenean Debate) والحوار الميلوسي (Melian Dialogue) (نسبة إلى جزيرة ميلوس الإغريقية Melos] أسبابا عدة لهذا النمط التام من الفشل في الردع. ومن أهم هذه الأسباب هو السعي وراء اهداف غير واقعية، مدفوعا بشهوة وروح معنوية، تشجعان التمني أو التفكير الرغبي) الذي يتمثل في التقليل من شأن المخاطر والمبالغة في احتمالات النجاح. وقد قاد هذا الأمر، في حالة اسبارطة، إلى فشل تام تقريبا للتكتل الحربي الاسبارطي في تقدير حصانة الأثينيين ضد الغزو (1)
وقد تم إفشال الردع أيضا من خلال انهيار المجتمع والأعراف التي احتفظ بها، فقد انقاد الأثينيون بشكل متزايد لنزوات تعظيم الذات وتفخيمها (pleonexia) (بليونكسيا هو مفهوم إغريقي فلسفي يعني الرغبة الجعة في الحصول على ما هو حق للآخرين. ويحاول نيکياس (أو نيشياس) (Nicias) العقلاني والحذر، في الجدال الصقلي، أن يعلم الأثينيين بحجم صقلية (Sicily) وعدد سكانها، والجاهزية العسكرية الأكبر مدنها سيراكوزة (Syracuse)، ريحذر من مخاطر الإبحار ضد جزيرة شديدة البعد بينما يوجد أعداء لم يهزموا بالقرب من الدار. ويرفض الكيبيادس (Alcibiades) دونما تفكير الإقرار بهذه المخاطر مستجيبا لجشع جمهوره. ولأن نيکياس يدرك أن النقاشات المباشرة بشان الحملة الحربية لن تنجح، بحاول في خلال ذلك أن يثني المجلس من خلال إصراره على تجهيز قوة أكبر بكثير واستعدادات أوسع مما كان قد خطط له سابقا. وما أثار دهشته هو أنه كلما زاد بمطالبه، زادت لهفة أعضاء المجلس إلى دعم الحملة، مقتنعين بأن قوة بهذا الحجم ستكون منيعة لا تقهر. وأصبح الأثينيون حصينين ضد صوت العقل والمنطق، ومنجرفين وراء آمال بجني المغانم، مرتکبين ثاني سوء تقدير محم - حيث إن تحالفهم مع کر کيرا کان في المنزلة الأولى - والذي قاد في النهاية إلى هزيمة أثينا (1)
پري مورغتتار أن عمومية دافع القوة عند البشر يعني أن توازن القوى هو ظاهرة اجتماعية عامة تجدها على جميع مستويات التفاعل الاجتماعي (12) وأن الأفراد، والجماعات، والدول تتوحد حتما لحماية أنفسها من المعتدين. وقد كان التوازن القوى على المستوى الدولي مضامين متناقضة بشأن السلام. فيمكن التوازن القوى أن يردع الحرب إذا تفونت قوى الوضع الراهن status) (quo power على قوة تحذيها الإمبريالين، وأظهرت عزمها على خوض الحرب دفاعا عن الوضع الراهن، لكن التوازن قد يزيد من حدة التوترات أيضا ويزيد من احتمالات وقوع الحرب وذلك بسبب استحالة تقويم دوافع الدول الأخرى، وقدراتها ونواياها، بشكل قاطع ومؤكد. ويسعى الزعماء، بشكل مفهوم، إلى تحقيق هامش من الأمان (margin of safety)، وعندما تتصرف دول عدة، أو تحالفات معادية، على هذا النحو، فإنها تصعد التوترات الدولية. وفي هذا الوضع، قد تميل القوى الصاعدة إلى الدخول في حرب عندما تعتقد بان لديها ميزة، وقد تميل قوى الوضع الراهن إلى شن حروب وقائية ضد القوى الصاعدة المتحدية لها. ويعلل مورغنتاو أنه حتى عندما يفشل توازن القوى في منع الحرب، فإن في إمكانه أن يحد من عواقبها ويحافظ على وجود الدول التي شكل النظام السياسي، صغيرة كانت أم كبيرة. وقد أعطى مورغتار الفضل للتوازن في كونه خدم هذه الغايات في معظم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (1)
ويرى مورغتنا و أن نجاح توازن القوى في الجزء الأكبر من قرنين من الزمان، لم يكن نتيجة لتوزيع الإمكانات والقدرات، بقدر ما كان نتيجة الوجود المجتمع الدولي، ولقوة ذلك المجتمع الذي ربط أهم الجهات الفاعلة في النظام معا. وعندما انهار ذلك المجتمع، مثلما حصل منذ التقسيم الأول لبولندا إبان الحروب النابليونية (Napoleonic Wars)، لم يعد توازن القوى يؤدي وظيفته في المحافظة على الوضع السلمي أو الحفاظ على وجودية أعضاء النظام). وقد أصبح المجتمع الدولي أكثر ضعفا من ذلك في القرن العشرين، وكان انحداره هذا من المسببات الأساسية لكلنا الحريين العالميتين. وقد خشي مورغتتار من أن يكون استمرار غياب المجتمع الدولي في الحقبة التي تلت الحرب مباشرة، قد أدى إلى إزالة جميع الضوابط التي قيد المنافسة بين القوى العظمى. وبحلول سبعينيات القرن العشرين، أصبح مورغنتار أكثر تفاؤلا بشأن فرص إحلال السلام. وقد أدى انفراج العلاقات الدولية، والاعتراف الواضح بالوضع الإقليمي الراهن في أوروبا، وما قابله من تراجع في المواجهة الأيديولوجية، وبروز اليابان والصين والمانيا الغربية بوصفها قوى ثالثة محتملة، وتأثيرات فيتنام على القوة الأميركية، إلى جعل كلتا القوتين العظميين أكثر حذرا وتعايشا مع الوضع الراهن (1). لكن ربما الأهم هو أن اتصالاتهما اليومية، ومفاوضاتهما، والاتفاقات التي جرت بينهما أحيانا، قد اتجهت بطريقة ما نحو تطبيع علاقاتهما وخلق قاعدة الإحساس متجدد بوجود مجتمع دولي.
لقد فهم ثوسيديدس ومورغنتاو السياسة بأنها صراع على القوة وعلى المصالح أحادية الجانب، وكانت الفروق بين السياسة المحلية والعلاقات الدولية فروق في الدرجة، لا في النوع. وقد كانت القدرة العسكرية والتحالفات العسكرية وسائل حماية ضرورية في عالم العلاقات الدولية المضطرب والمتقلب، لكنها لم تكن أساليب يعتمد عليها للحفاظ على السلم أو على استقلال الجهات الفاعلة. وفي النهاية، اعتمد النظام محليا ودوليا على قوة المجتمع. فعندما كانت الدول وزعماؤها مرتبطين بثقافة مشتركة وأعراف مشتركة وروابط شخصية مشتركة، كانت المنافسة على القوة مقيدة من حيث غاياتها ووسائلها. وتحت هذا النوع من الظروف، قد يؤدي توازن القوى إلى منع بعض الحروب، والتخفيف من حدة بعضها الآخر. وفي غياب المجتمع المحلي، لم تكن القدرة العسكرية والتحالفات العسكرية تشكل ضمائا للأمن، بل كان يمكنها أن تستثير الحروب التي كان يراد منها أن تمنع نشوبها. ولم يكن في الإمكان ردع دول كأثينا، وقادة أمثال نابليون (Napoleon) وهتلر (Hitler). فكما رأي مورغتاو، فإن توازن القوى يعمل بشكل أفضل عند أقل الحاجة إليه.
المصلحة والعدالة
يعرف الواقعيون المعاصرون المصالح من حيث القوة؛ فهم بارون، إلى حد بعيد، القوة بالإمكانات المادية. ويري کينيث والتز (19) «أن النفوذ السياسي للأمم يرتبط ارتباطا وثيقا بقوتها الاقتصادية وجبروتها العسكري، ويؤمن عديد من الواقعيين المعاصرين أيضا بصدارة المصلحة الشخصية على المبدأ الأخلاقي، ويرون أن اعتبارات العدالة هي أسس غير مناسبة، أو حتى خطرة، البني عليها السياسات الخارجية، وفي أفضل الأحوال، يمكن أن يكون اللجوء إلى العدالة ذريعة لتبرير السياسات المدفوعة بمصالح مادية معينة، أو وسيلة التمويه تلك السياسات والتغطية على الدوافع الحقيقية وراءها. أما الواقعيون الكلاسيكيون فيرون أن الإمكانات هي مصدر واحد فقط للفوة، كما أنهم لا يساوون القوة بالنفوذ. فالنفوذ بالنسبة إليهم علاقة سيكولوجية، وككل العلاقات، فهو مبني على روابط تسمو فوق المصالح اللحظية. وتدخل العدالة في الصورة لأنها أساس العلاقات وأساس الحس المجتمعي الذي يعتمد عليه النفوذ والأمن في النهاية.
صور المستوى الأول من تاريخ ثوسيديدس التوتر بين المصلحة والعدالة، وكيف أن التوتر يصبح أكثر حدة استجابة لمقتضيات الحرب. ويظهر أيضا كيف أن المصلحة والعدالة متلازمنان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، وكيف أن كل واحدة منهما أساسية في تكوين الأخرى على المستوى الأعمق. وفي خطبة المرئاة التي ألقاها بريکليس (Pericles التكريم الأثينيين الذين قتلوا في سبيل مدينتهما، بصف بريکليس أثينا بأنها ديمقراطية (demokratia)، لكن ثوسيديدس (1) يرى أن الإصلاحات الدستورية في العامين 462 و 461 قبل الميلاد، قد خلقت شكلا مختلطا من أشكال الحكومات (xumkrasis). ويخبرنا أنه خلف قناع الديمقراطية بكمن حكم رجل واحد، هو بريكليس "). وقد هدأت الأيديولوجيا الديمقراطية التي ربط بريكليس نفسه بها علانية، من حدة التوترات الطبقية، واستمالت الشعب (demos) إلى المصلحة الاقتصادية والسياسية للنخبة. وعندما انكشفت الفجوة بين الأيديولوجيا والتطبيق من خلال سلوك الزعماء الغوغائيين الديماغوجيين (demagogues) في حقبة ما بعد الحكم البريكليسي، أصبح الصراع الطبقي أكثر حدة، وأصبحت السياسة أكثر وحشية، ما قاد إلى الإطاحة العنيفة بالديمقراطية من جانب نظام حكم الثلاثين Regime of the) (Thirty في عام 404 قبل الميلاد، ومن ثم استعادتها بالقدر نفسه من العنف في العام الذي أعقبه، وقد كانت العدالة، أو في الأقل الإيمان بالعدالة، هي القاعدة
الأساس للمجتمع
وقد خضعت الإمبريالية الأثينية لتطور تحولي مشابه. فقد كانت الإمبراطورية متوجة بالنجاح عندما كانت السلطة القوة] مارس بالتوافق مع الأعراف الاجتماعية التي تحكم الخطاب والسلوك اليونانيين. وقد فضلت أثينا القوة على المبدا بشكل منتظم في عهد ما بعد بريكليس، وخسرت هيمنتها (hegemonia)، ونفرت حلفاءها، وأضعفت قاعدة القوة الخاصة بها. وفي عام 425 قبل الميلاد، وخلال الجدال المينيليني، أشار کليون (Cleon) على المجلس أن يعترف بأن إمبراطوريتهم (arche) (ذات القوة والسيادة والسيطرة هي طغيان (turnnis) مبني على القوة العسكرية وعلى الخوف الذي تبثه تلك القوة). وفي عام 416، قسم المفوضون الأثينيون في الحوار الميلوسي الناس إلى أولئك الذين يحكمون (arche) [السيطرة)، وأولئك الذين هم تابعون لخاضعون أو رعية (20) (hupikool). ومن أجل تخويف الحلفاء والخصوم على حد سواء، صرحوا بحاجتهم إلى التوسع، فأتي هذا النوع من الإمبرياليات الجامحة إلى توسعة مواردهم حتى وصلت بهم إلى نقطة انهيارهم. فالمصالح التي تعرف خارج لغة العدالة هي غير عقلانية وهدامة اللذات.
تشير التصورات الموازية التي وضعها ثوسيديدس عن السياسة المحلية الأثينية وسياستها الخارجية، إلى اعتقاده بأن الإكراه هو أساس غير كفء البتة في النفوذ ويقود في النهاية إلى هدم الذات وهزيمتها. وقد قام الفيلسوف السفسطائي غورجياس (Gorgias) (حوالي عام 430 قبل الميلاد) بشخصنة logos
الكلمات اللغة) من خلال وصفها بأنها «زعيم عظيم الذي على الرغم من شدة ضالة جسده وصغر حجمه يحقق أكثر الأعمال روعة (21). وبتوظيف هذه اللغة (logos) جنبا إلى جنب مع الإقناع المنطق، فإنها تشكل روح الأفراد كما تهوى». ويقودنا ثوسيديدس إلى الاستنتاج نفسه؛ إذ يمكن الإقناع (peith 6) أن يدعم موقف «المواطن الأول (9) (stratages) في أثينا مقابل الجماهير، وأن بدقم أيضا موقف الزعيم المهيمن مقابل إمبراطوريته، وأن يموه بأسلوب فقال ممارسة السلطة لإخفاء الدوافع الحقيقية وراءها. ومن أجل أن يتمكن الزعماء والمهيمنون من إقناع الجماهير، ينبغي لهم أن يلبوا توقعات الأيديولوجية الخاصة بهم، وقد كان هذا الأمر بالنسبة إلى أثينا يعني منح الامتيازات للمواطنين والحلفاء، وتعزيز مبادئ النظام التي كانت تبنى عليها المدينة (polis) الدولة المدينة وإمبراطوريتها
لعل أكثر عبارة اقتبست من كتاب السياسة بين الأمم Politics Among) (nations هي التأكيد الذي كر في صفحاته الافتتاحية، على أن «مفهوم المصلحة (interest) التي تعرف من خلال القوة، يميز السياسة بكونها مجالا مستقلا للفعل، وذلك بدوره يجعل النظرية السياسية ممكنة (77). ويمضي مورغتاو في هدم هذه الصيغة ليضع مفهوما أكثر دقة للعلاقة بين المصلحة والقوة. ويمكن التوفيق بين هذه التناقضات إذا اعترفنا بأن مورغتناو ميز بين مجالي النظرية والتطبيق. فقد سعى مجال النظرية إلى خلق مثل أعلى تجريدي وعقلاني مبني على الديناميات الكامنة والثابتة للسياسة الدولية. وقد كان هذا النوع من النظريات يمثل أقل النماذج نضوجا؛ فقد كانت السياسة (policy) وتحليلها ملموسين، ولم يكونا دائما عقلانيين، وكان ينبغي لهما أن يضعا في الحسبان اعتبارات عديدة خارج نطاق السياسة (politics). |
إن التباين بين النظرية والتطبيق واضح ايضا في التصور المفاهيمي للقوة الذي وضعه مورغنتار. فقد رأي مورغنتاو القوة بوصفها خاصية غير ملموسة تحتوي على عديد من المكونات المتنوعة التي يفهرسها بشيء من التفصيل. ولكن في العالم الحقيقي، كانت الاستراتيجيات والتكتيكات التي يستخدمها الزعماء لتحويل الخصائص الأولية للقوة إلى نفوذ سياسي، بأهمية الخصائص نفسها. ولأن النفوذ علاقة سيكولوجية، يجب إذا على الزعماء لا أن يعرفوا أي الأزرار هي التي تقع تحت تصرفهم وحسب، بل يجب عليهم أيضا أن يعرفوا أيها يضغطون في أي ظرف من الظروف. ولم تكن هنالك أي مقاييس مطلقة القوة الدولة، لأنها كانت دائما نسبية وخاصة بالموقف ومحددة به. وقد تكون المحركات الرافعة للنفوذ، والتي يمكن ل (أ) أن تستخدمها ضد (ب)، غير فعالة إطلاقا ضد (ج). وتتطلب الممارسة الناجحة للسلطة فهما ذكيا لأهداف الحلفاء والخصوم والأطراف الثالثة، وكذلك فهما لنقاط قوتهم وضعفهم. لكنها فوق كل شيء، تتطلب حساسية ومراعاة سيكولوجية لحاجات الآخرين في احترام الذات والثقة بالنفس
يسعى الناس إلى السيطرة، ولكن ينتهي بهم المطاف غالبا إلى أن يكونوا تابعين لغيرهم. ويحاولوا كتم هذه الحقيقة غير المرضية، ويقوم أولئك الذين يمارسون السلطة بتوظيف فقال للتبريرات والأيديولوجيات التي بشر
هذه العملية. ويحاولون، متى أمكن، أن يقنعوا أولئك الذين يجب أن يخضعوا الإرادتهم بأنهم يعملون من أجل مصالحهم أو مصالح أولئك الذين ينتمون إلى المجتمع الأوسع (34). وقد أصر مورغتار على أن المطلوب من أجل إتقان السياسة الدولية ليس عقلانية المهندس، وإنما حكمة رجل الدولة وقوته المعنوية (25)
وقد فهم مورغنتار، كما ثوسيديدس، أن التقيد بالمعايير الأخلاقية كان المصلحة أولئك الذين يمارسون السلطة، بقدر ما كان لمصلحة أولئك الذين
مارس عليهم هذه السلطة. وقد أوضح هذه النقطة في نقده للتدخل الأميركي في شبه جزيرة الهند الصينية، حيث جادل بأن التدخل سيفشل ويفتت نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في العالم، وذلك لأن غايات السياسة الأميركية ووسائلها قد خرقت أخلاقيات العصر. وقد ووجه موقف مورغتار المعارض بشيء من السخرية، حيث إنه كان قبل عقدين من الزمن قد ألف كتابه السياسة بين الأمم، والذي كان في معظمه موجها إلى فئة مؤثرة من النخبة الأميركية لكي يحررها من إيمانها الساذج في أن الأخلاق موجه مناسب للسياسة الخارجية واعتقادها بأنه يمكن إيجاد حل للصراعات الدولية من خلال تطبيق القانون. وقد راي بان التدخل في شبه جزيرة الهند الصينية يدل على أن صناع السياسات الأميركية قد تعلموا الدرس بتفوق؛ أي إنهم تبنوا السياسة الواقعية (realpolitik) وانتقلوا إلى الجانب الآخر على الخط الاستمراري من طرفي النقيض. وقد كان مورغنتاو مصرا على أن الأخلاقيات التي تعرف من خلال أعراف العصر، تفرض محددات على الغايات التي تسعى إليها القوة وعلى الوسائل التي وظف في تحقينها (20)
يرى الواقعيون الكلاسيكيون - حيث يعد مكيافيلي بمنزلة واحد منهم - أن هناك مجموعتين مختلفتين ومترابطتين من الأسباب التي تجعل العدالة مهمة. فهي مفتاح للنفوذ، وذلك لأنها تحدد كيف يفهمك الآخرون ويستجيبون لك. والسياسات التي تكون مفيدة بمبادئ أخلاقية مقبولة، والتي أيضا تكون مؤيدة لها بشكل عام، تعطي هالة قوية من الشرعية وتساعد في استمالة الجهات الفاعلة إلى مكانتها كتابع أو رعية. ويمكن أيضا أن يشترى النفوذ من خلال الرشوات أو أن يتم فرضه بالقوة، لكن النفوذ الذي يتم الحصول عليه بهذه الطريقة مكلف للمحافظة عليه، وضعيف المفعول والتأثير، وعادة ما يكون عمره قصيرا. في المقابل، فإن الالتزام المؤكد بالعدالة [الذي يمكن التحقق منه بالأدلة] يمكنه أن يخلق ويحافظ على ذلك النوع من المجتمع الذي يسمح للجهات الفاعلة أن تترجم القوة إلى نفوذ بطرائق فعالة.
والعدالة مهمة بطريقة أساس ثانية؛ فهي توفر المنصة المفاهيمية التي يمكن الجهات الفاعلة أن تبني عليها المصالح بطرائق ذكية. وفوق كل شيء آخر، فإن الالتزام بالعدالة مصدر قوي في ضبط الذات، وبالتأكيد فإن ضبط النفس يتناسب طرديا مع قوة الفرد. وينبغي للدول الضعيفة بشكل عام أن تتصرف بحذر بسبب القيود الخارجية. أما الدول القوية فليست ملزمة بالطريقة نفسها، والنجاحات السابقة التي جعلت منها سلالة قوية متغطرسة، تشجع زعماءها على وضع تقديرات مضخمة لقدرتها على السيطرة على الحوادث وتغريهم في تبني مشاريع محفوفة بالمخاطر. وكما هو الحال في التراجيديات الإغريقية، فإن الحسابات الخاطئة هذه عادة ما تقود إلى الكوارث، مثلما فعلت بأثينا، ونابليون، وهتلر. لذا فإن ضبط النفس الداخلي والنفوذ الخارجي وثيقا الارتباط. أما ضبط الذات الذي يحفز السلوك الذي يتوافق مع مبادئ العدالة المعترف بها فإنه يؤدي إلى تحقيق الهيمنة (hegemonia
) (higemonia) والمحافظة عليها في آن واحد، تلك الهيمنة التي تجعل النفوذ الفعال ممكنا.
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (1)
Zaproxy alias impedit expedita quisquam pariatur exercitationem. Nemo rerum eveniet dolores rem quia dignissimos.