هنالك تفسير واقعي بنيوي بسيط للسبب الذي يجعل الدول تتنافس في ما بينها على القوة، وهو مبني على خمسة افتراضات مباشرة وواضحة تتعلق بالنظام الدولي، ولا يزعم أني من هذه الافتراضات بمفرده بأنه يجب على الدول أن تحاول الحصول على القوة، بعضها على حساب بعضها الآخر. لكن عند إقران بعض هذه الافتراضات ببعضها الآخر، فإنها تصور عالما من المنافسة الأمنية التي لا تتوقف.
الافتراض الأول هو أن القوى العظمي في الجهات الفاعلة الرئيسة في السياسة العالمية، وأنها تعمل ضمن منظومة) فوضوية (anarchic system). وهذا لا يعني أن المنظومة تتسم بالشواش (chaos) أو باختلال النظام. فالفوضى (anarchy) هي مبدا في النظام العام (order)؛ وهي ببساطة تعني أنه لا توجد سلطة مركزية أو وسيط محگم وحيد يقف فوق الدول. أما عکس الفوضى فهو التسلسل الهرمي، وهو مبدأ التنظيم (ordering) في السياسة الداخلية.
أما الافتراض الثاني فهو أن جميع الدول تمتلك قدرة عسكرية هجومية معينة؛ أي إن كل دولة لديها القدرة على إلحاق الأذى بجاراتها، وتختلف هذه القدرة من دولة إلى أخرى بالطبع، كما أنها قد تتغير من وقت إلى آخر بالنسبة إلى أي دولة كانت
والافتراض الثالث هو أن الدول لا يمكنها مطلقا أن تتيقن من نوايا الدول الأخرى. فالدول في النهاية تريد أن تعرف إن كانت الدول الأخرى عازمة على استخدام القوة لتغيير توازن القوى الدول التعديلية) (nevisionist states)، أو كانت قانعة به إلى حد أن لا رغبة لديها في استخدام القوة لتغييره (دول الوضع الراهن) (status quo states). إلا أن المشكلة هي أن من المستحيل تقريبا معرفة
(0) استخدمنا في هذا الفصل كلمة المنظومة، للإشارة إلى systemo لتميزها عن النظام العام الذي هو «order ه، والنظام العام هنا يعني على سلامة الوضع الاجتماعي - السياسي من حيث توافر سيطرة الدولة على الحالة العامة ومدى غياب الاضطرابات والصراعات وتوافر درجة من الأمن والسلم الاجتماعين [المترجمة نوايا دولة أخرى بدرجة عالية من اليقين. وعلى خلاف الإمكانات العسكرية، فإن النوايا لا يمكن معرفتها تجريبيا. فالنوايا هي في عقول شناع القرار، واستشعارها أمر صعب للغاية.
قدياني من بجيب بأن صانعي القرار يصرحون بنواياهم في الخطابات وفي وثائق السياسات العامة التي يمكن تقويمها. والمشكلة في هذه المحاجة هي أن صناع القرار يكذبون أحيانا بشان نواياهم الحقيقية، أو يخفونها. ولكن حتى إذا استطعنا تحديد نوايا دولة أخرى اليوم، فإنه لا يوجد سبيل على الإطلاق إلى تحديد نواياها المستقبلية. فمن المحال معرفة من الذي سيدير السياسة الخارجية في أي دولة بعد خمس أو عشر سنوات من الآن، ولا حتى إن كان سيكون لديهم نوايا عدوانية حينئذ. وهذا لا يعني أن في إمكان الدول أن تكون متيقنة بأن لدى جاراتها أهدافا تعديلية أو أنها سيكون لديها أهداف تعديلية في المستقبل، بل على العكس من ذلك، فالمحاجة هي أنه لا يمكن أبدا لصناع السياسة أن يكونوا متيقنين مما إذا كانوا يتعاملون مع دولة تعديلية أم مع دولة وضع راهن.
الافتراض الرابع هو أن الهدف الرئيس للدول هو البقاء. فالدول تسعي إلى الحفاظ على سلامة أراضيها وعلى استقلال نظامها السياسي المحلي. ويمكنها أن تسعى إلى تحقيق أهداف أخرى كالازدهار وحماية حقوق الإنسان، لكن يجب دائما أن يكون الهدف البقاء أولوية على هذه الأهداف، لأنه إذا لم تتمكن الدولة من البقاء، فإنها لن تتمكن من السعي نحو هذه الأهداف الأخرى.
أما الافتراض الخامس فهو أن الدول هي أطراف فاعلة عقلانية، وهذا يعني أنها قادرة على ابتكار استراتيجيات سليمة تضخم من احتمالات بقائها. وهذا لا يعني أننا ننكر أن الدول نخطئ التقدير من وقت إلى آخر. ولأن الدول تعمل بمعلومات منقوصة في عالم معقد، فهي ترتكب أخطاء جسيمة في بعض الأحبان
نكرر بأن أيا من هذه الافتراضات بمفرده لا يزعم أن الدول ستنافس، أو أن عليها التنافس، بعضها مع بعض من أجل الحصول على القوة. لكن الافتراض الثالث يترك بالتأكيد الباب مفتوحا أمام إمكان وجود دولة تعديلية في النظام. إلا أن هذا الافتراض لوحده، وفي معزل عن الافتراضات الأخرى، لا يخبرنا مطلقا عن السبب الذي يدعو جميع الدول إلى السعي للحصول على القوة، وحينما يتم تجميع كل الافتراضات ما، عندئذ تبرز الظروف التي من خلالها تصبح الدول منشغلة بتوازن القوى، وليس هذا فحسب، وإنما تكتسب الدول أيضا محفزات قوية للحصول على القوة بعضها على حساب بعضها
الآخر
بداية نقول إن القوى العظمي بخشي بعضها بعضا، وهناك ثقة قليلة في ما بينها، وهي تقلق بشأن نوايا الدول الأخرى، وذلك في أغلبه لأنه يصعب جدا التنبؤ بها، وتكمن أكبر مخاوفها في إمكان أن تكون لدى دولة أخرى القدرات إضافة إلى الدافع لمهاجمتها. ويجتمع هذا الخطر مع حقيقة أن الدول تعمل في منظومة من الفوضى السياسية، ما يعني أنه لا يوجد هنالك حارس ليلي يمكنه أن ينقذها إذا ما هددتها دولة أخرى. وعندما تطلب دولة ما رقم هاتف خدمات الطوارئ طالبة المساعدة، لن يكون هنالك أحد في النظام الدولي ليرد على المكالمة
يتفاوت مستوى الخوف بين الدول من حالة إلى أخرى، لكنه لا يمكن خفضه البتة إلى مستوى غير منطقي. فالمخاطر، ببساطة، أكبر من أن تسمح لذلك بالحدوث. والسياسة الدولية تجارة قد تكون قاتلة، حيث احتمال نشوب الحرب حاضر دوما فيها، ما يعني عادة القتل الجماعي داخل أرض المعركة وخارجها، والذي يمكنه أن يقود حتى إلى دمار الدولة.
وتدرك القوى العظمى أيضا أنها تعمل في عالم من المساعدة الذاتية. فعليها أن تعتمد على ذاتها لتضمن البقاء لنفسها، وذلك لأن الدول الأخرى تشكل خطرا محتملا، ولأنه ليس ثمة سلطة عليا يمكن الدول اللجوء إليها إذا ما تمت مهاجمتها. وهذا لا يعني إنكار قدرة الدول على تشكيل التحالفات التي غالبا ما تكون مفيدة في التعامل مع الخصوم الخطرين، إلا أنه في التحليل الأخير، لا تمتلك الدول خيارا سوى أن تضع مصالحها قبل مصالح الدول الأخرى وكذلك قبل مصالح ما يسمى المجتمع الدولي
ولخوفها من الدول الأخرى، ومع علمها بأنها تعمل في عالم من الاعتماد على الذات، سرعان ما تدرك الدول أن أفضل طريقة لها للبقاء هي أن تكون قوية على نحو استثنائي. والمنطق هنا واضح ومباشر: فكلما كانت الدولة أقوى مقارنة بمنافسيها، قل احتمال أن تهاجم. فعلى سبيل المثال، لا تجرؤ دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية على توجيه ضربة إلى الولايات المتحدة الأميركية، بسبب عظمة قوتها مقارنة بجاراتها.
بدعو هذا المنطق البسيط القوى العظمي إلى البحث عن فرص من أجل تحويل ميزان القوي لمصلحتها. فالدول تريد، في الأقل، أن تتأكد من ألا تحصل الدول الأخرى على القوة من حسابها هي. وبالطبع، فإن كل دولة في النظام تدرك هذا المنطق، ما يقود إلى منافسة متواصلة على القوة. وتجبر طبيعة بنية النظام كل قوة عظمى - حتى تلك التي ستكون راضية بالوضع الراهن في غياب التهديد - على التفكير والتصرف كدولة تعديلية عندما يكون ذلك مناسباء
وقد نظن بان السلام قد يكون ممكنا إذا ما كانت جميع القوى الرئيسة فانعة بالوضع الراهن. لكن المشكلة هي أنه يستحيل على الدول أن يتأكد بعضها من نوايا بعضها الآخر، ولا سيما النوايا المستقبلية. فقد تبدو إحدى الجارات في ظاهرها وكأنها قوة وضع راهن، لكنها تكون في الحقيقة دولة تعديلية، أو أنها قد تكون دولة وضع راهن اليوم، لكنها تغير لونها غدا. وفي نظام سياسي فوضوي، حيث لا يوجد وسيط محكم قوي، ليس لدى الدول التي تريد البقاء خيار إلا افتراض الأسوأ في ما يتعلق بنوايا الدول الأخرى والتنافس معها على القوة. وهذه هي تراجيديا (مأساة سياسة القوى العظمي.
تنعكس المقتضيات البنيوية التي تم وصفها آنفا في المفهوم الشهير الذي يعرف باسم المعضلة الأمنية (4) (security dilemma). وجوهر تلك المعضلة هو أن معظم الخطوات التي تتخذها أي قوة عظمى لتعزيز أمنها الخاص بها تقلل من أمن الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، أي دولة تحسن وضعها في ميزان القوى العالمي، تقوم بذلك على حساب الدول الأخرى التي تفقد قوتها النسبية. وفي عالم الغالب والمغلوب (zero - sum) الربح الكلي لأحد الأطراف في مقابل الخسارة الكلية للطرف الآخر يصعب على الدولة أن تحسن من احتمالات بقائها من دون أن تهدد بقاء الدول الأخرى. وبالطبع، فإن الدول المهددة تفعل حينئذ ما هو لازم التحرص على بقائها الذي يهدد بدوره دولا أخرى، وكل هذا يقود إلى منافسة أمنية دائمة.
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)