لقد كانت أدبيات التعددية في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين من أولى المؤثرات في الليبرالية الجديدة. وقد تحدت التعددية افتراضات الواقعية بأنه يمكن من الناحية التحليلية التعامل مع الدول على أنها جهات فاعلة عقلانية وحدوية، وعلى خلاف ذلك، فقد حاجت التعددية بأن مجموعة متنوعة من العمليات والجهات الفاعلة من غير الدول، هي التي تحطم الحواجز بين الشؤون المحلية والدولية، ولأن «الحدود الدولية باتت أكثر نفاذية بشكل متزايده، على ما وضح ريتشارد ليتل (3)، فقد جادل التعدديون بأنه لم يعد في الإمكان فهم العلاقات الدولية بمجرد دراسة التفاعلات بين الحكومات). ووفقا للأعمال الأولى لروبرت کيوهاين (Robert Koohane) وجوزيف ناي، فإن مصطلح «العلاقات عبر الوطنية» (transnational relations) قد أعطى وصفا أفضل للتفاعل متزايد الاتساع في ما بين القوميات والذي بشأ بين الدول. وقد اعتبر هذا التفاعل تحديا لسلطة الحكومات الوطنية واستقلاليتها، والتي لم تعد قادرة على السيطرة على المخرجات أو تحقيق المصالح من خلال اتباع سياسات أحادية الأطراف.: وفي الوقت الذي قامت فيه هذه القاعدة التعددية باعطاء شكل لجوانب عدة من الليبرالية الجديدة، اختلف في أن الليبرالية الجديدة تبنت افتراضات متمركزة حول الدولة، وذات جهة فاعلة وحيدة (unitary actor). وقد شكلت الأدبيات الأولى الخاصة بالليبرالية الجديدة في ثمانينيات القرن العشرين مواجهة تحليلية متجددة مع الحجج الواقعية البنيوية وتحديدا مع تلك الخاصة بكينيث والتز). فقد سعى الباحثون الأكاديميون الليبراليون من خلال سلسلة من النصوص التأسيسية الليبرالية الجديدة، بدءا بكتاب روبرت کيوهاين وجوزيف ناي بعنوان القوة والاعتمادية المتبادلة) (Power and Interdependence)، إلى مهاجمة تشاؤمية الواقعية وفقا لشروطها الخاصة من خلال استخدام افتراضات واقعية، وفي خطوة تحليلية جريئة نسيا، حاجت الليبرالية الجديدة بأن بيئة الفوضى، ذات الجهات الفاعلة المتمركزة حول ذاتها والتي تسعى إلى مصلحتها الذاتية، لم تفرض بالضرورة قيودا واقعية منهكة على التعاون.
طورت هذه الحجج بشكل أكبر في الكتاب الذي حرره ستيفن کراستر (Steven Krasner) وعنوانه نظم القرار الجماعي الدولية (International Regimes)، والذي أعطى شرخا مجملا لمفهوم نظم القرار الجماعي (regimes) وطبقه على مجالات متنوعة من القضايا. وقد تم إعطاء تفصيل كامل لمعتقدات الليبرالية الجديدة في كتاب روبرت کيوهاين بعد الهيمنة) (After Hegemony) الذي وصف فيه المؤلف حججه بأنها شكل من اشكال الواقعية. وقد أثار هذا الوصف حوارات كثيرة في أدبيات البحث الأكاديمي الخاصة بعقد الثمانينيات وأوائل التسعينيات بين روبرت کيوهاين (کليبرالي جديد) وجوزيف غريکو Joseph) (Grieco (كواقي جديد حول ما إذا كان قد تم تبني الافتراضات الواقعية وتطبيقها بصورة صحيحة. وهذا الحوار الذي أطلق عليه اسم حوار الجدد والجدد (neo - neo debate) (والذي تتم مناقشته بإسهاب أكثر في الفصل الخامس عشر لأوليه وايفر)، يفسر السبب الذي يدعو في بعض الأحيان إلى تصنيف الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة منا في كونهما مقاربتين عقلانيتين.
نطة الالتقاء التحليلية بين الواقعية البنيوية والليبرالية الجديدة الجميع. فقد جادل عدد من النقاد بأن تبني الافتراضات نفسها المتمركزة حول الدولة يعني أن تبقي ديناميات مهمة في السياسة العالمية غير حاضرة في كلتا النظريتين (19). وقد بقي افتراض الجهة الفاعلة الوحيدة يمثل إشكالية لكلتا المقاربتين اللتين واجهتا تحديات بشان الدور الذي تؤديه السياسة المحلية في تحديد المصالح والسياسات الخارجية". وأشار التقاد أيضا إلى أن افتراض الجهة الفاعلة العقلانية بجعل فصل الآثار السيبية المستقلة لنظم القرار الجماعي عما قامت به الدول أو ارادته، أمرا مستحيلات). وقد حاج فريدريش کراتوكفيل (Friedrich Kratochvil) وجون روغي (13) بأن هذه المشكلة قد سببها التضارب التحليلي بين الإبستيمولوجيا التي اختارتها الليبرالية الجديدة وبين أنطولوجينها. وقد كان هذا النوع من النقد بمنزلة قاعدة نظرية مهمة لتطوير البنائية (constructivism)، بتركيزها على العمليات، والهوية، والتفاعل الاجتماعي (انظر الفصل التاسع). |
على الرغم من هذه الاعتراضات، ومن نقطة الالتقاء التحليلية التي تسببت بردود الأفعال هذه، فقد وجدت فروق جوهرية مهمة بين الواقعية البنيوية والليبرالية الجديدة أبقتهما على مسارين نظرين متوازيين لكن منفصلين بشكل واضح، ويتعلق احد الاختلافات المركزية بكيفية تعريفهما لمفهوم الفوضى anarchy) وتحليلهما له (19). فالواقعيون البنيويون يرون أن الفوضى في ظرف أو بيئة شاملة لا تتغير يخضع لها البشر. وعدم القدرة على التحكم بالمخرجات وضمان البقاء يولد الذعر، والخوف، والرغبة في السلطة، والتي هي أساس للتحليل الواقعي، وعلى الجانب الآخر، يرى الليبراليون أن الفوضى هي فراغ ملا تدريجا بعمليات ومؤسسات من صنع الإنسان (1). وقد بدأت هذه العمليات والمؤسسات بإبطال عدم القدرة على التحكم بالمخرجات وضمان البقاء، ما يعني أن الذعر (البارانويا، الذهان الهذائي، والخوف، والرغبة في السلطة، الناجمين عن الفوضى قد تم تخفيفها مع الوقت أيضا.
والنتيجة هي أن المنظورين بقرآن السجل التاريخي الوستفالي (Westphalian) بطرائق مختلفة تماما. فيشير الواقعيون البنيويون إلى أن الحروب المستمرة والمنافسة العسكرية التجارية بين الدول هي تأكيد خاصية الفوضى في كونها لا تتغير، ويعترف الباحثون الأكاديميون الليبراليون الجدد بأن معظم تخصص العلاقات الدولية قبل القرن العشرين يبدو متوافقا مع توقعات الواقعية. لكنهم يسلطون الضوء على تطورين تاريخين في القرن العشرين جعلا الواقعية، وعلى نحو متزايد، وصفا غير دقيق للسياسة العالمية المعاصرة.
أما التطور التاريخي الأول فقد كان الاعتمادية المتبادلة (interdependence) المتزايدة في مجالات متنوعة من القضايا العالمية والتي تسبب بها التقدم التكنولوجي والصناعي الحديث. وتتضمن الاعتمادية المتبادلة علاقة من الاعتماد المتبادل تتضافر فيها الأفعال والمصالح. وقد ولد هذه العلاقة نتائج غير مقصودة، وغير مرغوب فيها، وعكسية، لكن الجهات الفاعلة المشاركة تحصل أيضا على فوائد ومنافع من خلال ترابطها المتبادل بعضها مع بعضها الآخر، ولهذا السبب فإن التهديد بإنهاء العلاقة أو إنهاءها فعليا يضر بمصالح الدولة نفسها. إن مفهوم الاعتمادية المتبادلة بوصفه إجراء مهدئا محتملا في بيئة من الفوضى له أصوله العميقة في الفكر الليبرالي لتخصص العلاقات الدولية. تقوم الاعتمادية المتبادلة في التحليل الليبرالي الجديد بتمهيد الطريق أمام التطور التاريخي للمصالح المشتركة التي لا يمكن تحقيقها إلا إذا تعاونت الدول في ما بينها بطريقة ناجحة.
على سبيل المثال، لدى الدول مصلحة مشتركة في منع استنزاف المصادر البيئية الذي يحدث بمعدل سريع بسبب سرعة تقدم التصنيع واتساع نطاقه على مستوى العالم. والمشكلة ليست محصورة ضمن حدود دولة معينة، ولا يمكن حلها من طريق سياسات القوة التقليدية، أو العنف، أو الإجراءات أحادية الجانب. فجميع الدول لديها مصلحة مشتركة في الوصول إلى حل للمشكلة التي سببها نشاطها الجماعي والمتداخل. وهي أيضا مشكلة لا يمكن حلها إلا من خلال جهد تعاوني في ما بين الدول. ويمكن العثور على الديناميات نفسها في مجالات قضايا أخرى يشار إليها في بعض الأحيان، على نحو الاستخفاف بها، بمصطلح السياسة «الدنياه (low
" politics ') (مقابل السياسة «العلياه " high" politics المتعلقة بالأمن القومي)، كالاقتصاد العالمي، أو الرعاية الصحية، أو اللاجئين، أو الهجرة، وقد أصبحت مجالات القضايا هذه مهمة للدول بشكل متزايد؛ ولأنها تتميز بالاعتمادية المتبادلة، فهي أيضا المجالات التي فيها أكبر احتمال للتعاون الدولي
أما التطور التاريخي الثاني الذي جعل من الواقعية وصفا غير دقيق التخصص العلاقات الدولية المعاصر فهو حقبة الاستقرار الهيمني hegemonic) (stability التي أوجدتها الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. فقد بدا صناع السياسة الخارجية الأميركيون والبريطانيون بالتخطيط لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى قبل أن تتحدد نتيجة الصراع. ونظرا إلى تأثر الأميركيين والبريطانيين بالكساد الكبير، ونشأة الفاشية في أوروبا، والحرب العالمية التي أصبحوا في ما بعد طرفا فيها، فقد قام الأميركيون والبريطانيون بوضع رؤية لمرحلة ما بعد الحرب تهدف إلى استقرار الشؤون العالمية وفقا التفضيلاتهم الذاتية. وقد اشتملت هذه الرؤية على نظام الأمم المتحدة، الذي كان يراد منه أن يكون مظلة للعلاقات التعاونية عبر مجالات متعددة من القضايا.
وقد أولي اهتمام خاص لنظام الاقتصاد الرأسمالي والتجارة الحرة الذي دعمنه سلسلة من المؤسسات الرسمية كصندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) الذي أصبح يعرف باسم نظام بريتون وودز (Bretton Woods system). وقد كانت هذه المؤسسات مدعومة بموارد اقتصادية أميركية، ومن خلال قيام الولايات المتحدة الأميركية بذلك، فإنها كانت تتصرف على أنها قوة مهيمنة (hegemon)، أو دولة بالغة القوة توفر استقرارا عالميا أو إقليميا يصب في مصلحتها الذاتية. ويجادل عديد من الباحثين الأكاديميين في مجال الاقتصاد السياسي الدولي (IPE) بان وجود دولة مهيمنة ضروري كي يكون لدى الدول ثقة بالتجارة الحرة حتي تمارسها في بيئة من الفوضى، ومن خلال دعمها للنظام الاقتصادي بهذه الطريقة أوجدت الولايات المتحدة الأميركية حقبة من الاستقرار الهيمني في النصف الأخير من القرن العشرين الذي برزت خلال نظم قرار جماعي دولية واسعة وشاملة من أجل الاقتصاد الرأسمالي.
وفي حين كانت المصلحة الاقتصادية الذاتية إلى جانب القدرة) هي الدافع الكامن وراء هذه الحقبة من الاستقرار الهيمني، فإن هذه الحقبة كانت أيضا بمنزلة قاعدة مهمة لتطور الاعتمادية المتبادلة في مجال الاقتصاد ومجالات أخرى، والأهم من ذلك أن الليبرالية الجديدة تفترض أنه حتى إذا تراجعت القوة النسبية للولايات المتحدة، فإن الاعتمادية المتبادلة تشكل حافزا استراتيجيا عقلانيا للدول کي تستمر في التعاون في ما بينها (14)، وذلك لأن نسبة عالية جدا من الثروات الاقتصادية لهذه الدول قد أصبحت الآن تعتمد على وصول الدول بعضها إلى أسواق بعضها الآخر وإلى المستهلكين فيه. إضافة إلى ذلك، فإن المؤسسات التي تنشئها المهيمن نعمل بوصفها منصات فعلية ومعيارية للحفاظ على الجهد التعاوني وتوسيعه أيضا في ما بين الجهات الفاعلة التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية، وبناء عليه فقد بات في الإمكان نظريا إحراز التعاون، ولا سيما التعاون الاقتصادي، في الفوضى عند غياب مهيمن أو تراجعه.
خلق هذان التطوران التاريخيان معا - الاعتمادية المتبادلة والاستقرار الهيمني - الفرصة السانحة اللازمة لتطوير المصالح الجماعية المشتركة والتي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التعاون الدولي، وليس مدهشا إن تعرضت مزاعم الليبرالية الجديدة بشأن هذين التطورين للتمحيص المكتف. وقد أثيرت أسئلة مهنة عن كيفية قياس الاعتمادية المتبادلة، وعما إذا كان يحتمل أيضا أن تولد الاعتمادية المتبادلة عنها، وعن كيفية عزل تأثيرات الاعتمادية المتبادلة عن المسببات الأخرى المحتملة (1). وعلى نحو مماثل، تساءل النقاد عن التحيز المعياري لنظرية الاستقرار الهيمنى (hegemonic stability)، وإن كانت مكانة الولايات المتحدة الأميركية بوصفها مهيمنا قد تراجعت فعليا، وإن كان وجود مهيمن ضروريا أصلا). وتشير هذه الانتقادات إلى أن العلاقة المفترضة بين العمليات التاريخية، والمؤسسات الدولية، والتعاون الدولي، والتي تعمل قاعدة الليبرالية الجديدة، لا تخلو من الإشكاليات
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)