المنشورات

ما هي معوقات التعاون الدولي؟

سيكون من الخطأ أن تصف الليبرالية الجديدة بأنها تحاج بسهولة إحراز التعاون لمجرد أن الاعتمادية المتبادلة قد ازدادت. فقد تكون بين الدول مصلحة مشتركة في السيطرة على انتشار فيروس قاتل، والأسلحة النووية، وحمائية التجارة (trade protectionism)، والتلوث البيئي. لكن مجرد وجود مصالح مشتركة في الوصول إلى حل فعال لا يقود بسهولة أو تلقائيا إلى ذلك الحل. فقد نخفق الدول في التعاون في ما بينها لأنها تفتقر إلى المعلومات المتعلقة بالأولويات الحقيقية عند غيرها من الدول. وقد تخشى الدول من أن تستغل دول أخرى ترتيبا تعاونا معينا من خلال الغش والخداع. وقد تقلق الدول من أن تركب دول أخرى مجانا على ظهر جهدها التعاوني. وقد تعتقد الدول، باختصار، بأنه حتى ولو كان ثمة احتمال بأن يكون اتفاق ما مفيدا، فإن تكاليف التعاملات، أو العواقب والعقوبات غير المعروفة المترتبة عليه، أكبر من أن تخاطر الدول ببذل جهد فيه. لذلك فحتى عندما توجد مصلحة مشتركة بين
جميع الجهات الفاعلة، وحتى في حال كانت جميع الجهات الفاعلة ستجني ثمارا من الجهد التعاوني، فإن هناك معوقات بارزة تحول دون قدرة الجهات الفاعلة التي تعنى بمصلحتها الذاتية على التعاون
ووفقا للواقعيين البنيويين آنسبة إلى البنية وليس إلى البنيوية، تعد هذه المعوقات مستعصية لأنه، حتى عندما يكون لدى الطرفين مصالح مشتركة وحتى في حال كان كلاهما سيجني فوائد من وراء التعاون، فإنهما يخشيان من أن يتم توظيف المكاسب الأكبر نسبيا، في أغراض تنافسية. وبما أنه لا يمكن أن نتنبا الجهات الفاعلة بالنوايا المستقبلية لشركائها التعاونيين، فإنها ستتجنب الاتفاقات المحتملة إذا كانت تتضمن مستويات مختلفة من المكاسب. في المقابل، يجادل علماء الليبرالية الجديدة بأن الخوف من هذه المكاسب الأكبر نسبيا لا يقوم بالضرورة بتثبيط التعاون؛ فقد يعمل ذلك على حق الدول على التعاون من أجل تحقيق مكاسب مطلقة (أو تحقيق المكاسب الكلية التي تجنيها بغض النظر عن المكاسب الأكبر التي يجنيها الآخرون) وذلك إذا كان في الإمكان التخفيف من قلقها بشأن النوايا المستقبلية. صحيح أنه ينبغي لأي اتفاق في وضع الفوضى أن يكون ذاتي التنفيذ، لكن ذلك لا يجعل الدول غير قادرة على التمييز بين الأوقات التي يكون في مصلحتها التقليل من الخداع أخيانة أحد الأطراف للآخر، أو الأوقات التي يمكنها فيها أن تثق بالأفعال المستقبلية للآخرين. إن معوقات التعاون مثبطة وجديرة بأن يتم تفخصها، لكنها ليست منيعة إلى حد لا يمكن التغلب عليها كما يريدنا الواقعيون البنيويون أن نعتقد. 

الكتاب المتقي
کتاب کينيث أوي بعنوان التعاون في ظل الفوضى (19) على الرغم من أن نظرية اللعبة (game theory) غير مستخدمة من جانب جميع الباحثين الأكاديميين الليبراليين الجدد، فإن مفاهيم نظرية اللعبة ومصطلحاتها تتغلغل في التحليل الليبرالي الجديد. تستخدم نظرية اللعبة مزيجا من الرياضيات والمنطق لتحليل التفاعل الاستراتيجي بين صناع القرار، ومن النصوص الأولى التي شجعت على استخدام نظرية اللعبة في الليبرالية الجديدة كان الكتاب الذي يتضمن مجموعة من الأبحاث تحت عنوان التعاون في ظل الفوضى (Cooperation Under anarchy الذي حرره کينيث أوي (20)
وقد طفت الألعاب وفقا لكونها تعاونية أو غير تعاونية. فالألعاب غير التعاونية ذات مجموع ثابت (constant
-
sumn) أو ذات محصلة صفرية (zero - sum)، بحيث إن الربح الذي يحققه أحد الخصوم يعني تلقائيا خسارة مساوية بالقيمة للخصم الآخر. ولعبة الشطرنج هي مثال نموذجي على هذا النوع من الألعاب، وقد وصفت القضايا العسكرية - الأمنية (كذلك) بأنها ذات محصلة صفرية. أما الألعاب التعاونية فقد أطلق عليها اسم العاب ذات مجموع متغير (variable - sum)، أو مجموع إيجابي (positive
-
sum)، أو مجموع متزايد (increasing - sum). وفي هذه الألعاب، يجني كلا الخصمين مكاسب او يخسرها بنسب متفاوتة نتيجة لتفاعلهما. ويميل هذا النوع من الألعاب أيضا إلى أن يكون اذا دوافع مختلطة، ذلك أن أولويات اللاعبين (أو الفوائد التي يكسبونها لم تكن مصنفة ضمن ترتيب واضح، وكانت تشتمل على دوافع تعاونية وغير تعاونية في الوقت ذاته. وتعد لعبة معضلة السجينين (The Prisoner ' s Dilemma) مثالا نموذجيا عليها، وقد وصفت قضايا التبادل التجاري بأنها ذات مجموع متغير. وقد حدث خلاف في الرأي بين مؤلفي الكتاب في ما إذا كانت القضايا العسكرية - الأمنية فعليا ذات محصلة صفرية أم لا. إلا أن روبرت اکسلرود (Robert Axelrod) وروبرت کيوهاين في نهاية المطاف جادلا في الفصل الختامي بأن «القضايا الاقتصادية تبدو عادة وكأنها تتضمن هياكل ربحية أقل تناقضا من تلك الخاصة بالقضايا العسكرية الأمنية» (21)
وفي مجالات القضايا التي توصف بأنها ذات دوافع مختلطة ومجموع متغير، تتحدد مكاسب اللاعب من طريق المساومة الاستراتيجية strategic) (bargaining. وبناء عليه فقد أتاحت نظرية اللعبة الفرصة أمام علماء الليبرالية الجديدة لتسليط الضوء على صعوبات التفاوض على حل يرضي الطرفين. ويشار إلى هذا النوع من الحلول بأنه متوافق مع «أمثليات باريتو - pareto) (optimal، ذلك أنها نتائج لا يمكن من خلالها أحدا أن يجني منافع إضافية من دون أن يجعل أحدا ما في حال أسوأ نسبيا. وإذا لم يتنصل (defection) أي من اللاعبين، يمكن هذه الحلول أيضا أن تتطور إلى النتائج توازنية»، بمعني أن اللاعبين قد منعوا من تحسين النتيجة أحاديا لتكون في خدمة مصلحتهم الذاتية [أي إن التفاعل والتفاوض ضروريان في هذه الحال]
وقد جودل بأن شرط الاعتمادية المتبادلة مهم لأنه في الوقت الذي لا يمكنه تغيير المنفعة المرتبطة بالألعاب ذات المحصلة الصفرية، فإنه يستطيع أن يحث على تحول الألعاب ذات الدوافع المختلطة إلى ألعاب ذات مجموع متزايد. وقد شجعت الاعتمادية المتبادلة على التكرار (iteration) (أو أدوار اللعب المتكررة)، متيحة بذلك المجال أمام اللاعبين لتوظيف استراتيجيات مثل «العين بالعين (' Tit
- For - Tat) [أي استراتيجية الانتقام المتكافي equivalent) (retaliation]، واستراتيجية ربط القضايا (issue
- linkage) من أجل مكافاة التعاون ومعاقبة التنقل، وبمجرد أن تبدا أي من العاب المجموع المتزايد، يصبح من غير الممكن لأي من اللاعبين تحقيق مصالحهم في غياب موافقة الآخرين. وكما جادل مؤلفو الكتاب، فإن صعوبات المساومة بشأن الحل الذي يتوافق مع أمثلية باريتو تبقى موجودة، لكن تفضيل التعاون على الأحادية يصبح أمرا ضمنيا.
لطالما قام علماء الليبرالية الجديدة بتوظيف نظرية اللعبة من أجل تحليل هذه الصعوبات التعاونية، وأشهر لعبة توضيحية هي لعبة معضلة السجينين (Prisoner ' s Dilemma التي يتم فيها احتجاز سجيئين اثنين في حبس انفرادي من الشرطة التي تخبر كل واحد منهما أنه في حال قام بتقديم الأدلة التي تدين الآخر فإنه سيتلقى عقوبة مخففة. وسيكون كلاهما أفضل حالا إذا ما التزم الإثنان الصمت ويكونان تاليا قد تعاون أحدهما مع الآخر، إلا أن هيكل المكاسب يشجع كل واحد منهما على أن ينقلب ضد الآخر أو أن ينشق عنه، ما يعني أن كليهما سيتلقى مدة عقوبة أطول. وإحدى المعوقات الواضحة أمام التعاون الفعال في هذه اللحظة هي عدم كفاية المعلومات أو نقص الشفافية المتعلقة بالمكاسب المحتملة، وبذلك فإن القيمة الحقيقية للتعاون أو التنصل تكون أيضا غير واضحة. وهنالك عائق آخر هو الدافع وراء اخيانة» الشريك الشريکه [الغشا، أو بدلا من ذلك، خشية الشريك من خيانة شريکه له، الأمر الذي يتضمن انعدام ثقة أساسا بشأن النوايا الحقيقية للآخرين.
ولقد أتاح اختبار معضلة السجينين وألعاب أخرى الفرصة أمام الباحثين الليبراليين الجدد، وبشكل أكثر فعالية، أن يعزلوا ويحللوا هذا النوع من العوائق التي تقف في وجه العمل الجماعي الدولي في ظروف الاعتمادية المتبادلة (22) فعلى سبيل المثال، اكتشف الباحثون الليبراليون الجدد أن التكرار، أو توقع التفاعل المستقبلي، يجعل احتمال تنل الجهات الفاعلة عن الترتيبات التعاونية أقل من احتمال تنل الجهات الفاعلة التي تدخل في علاقات لمرة واحدة وتقوم القدرة المتكررة على تبادل المعلومات، وعلى مراقبة سلوك الطرف الآخر، بتقليل المخاوف المتعلقة بالنوايا الحقيقية والنتائج المتأتية من التعرض للخيانة
تشجع المؤسسات الدولية، في مستواها الأساس، على التكرار من خلال تأكيدها إجراء اجتماعات مستمرة ومنتظمة بين زعماء الدول وصناع السياسات. وهذا يتيح للدول أن تتعرف أولويات غيرها، وأن تكتشف أن في ما بينها مصالح مشتركة وقيودا، وأن تضع في الحسبان مجموعة متنوعة من الحلول للمشکلات الجماعية، وتشجع المؤسسات الدولية أيضا تبادل المعلومات بشأن نوايا الدول بعضها نحو بعض، ويمكنها أيضا أن تكشف عن المخاوف المشتركة المتعلقة بالخيانة، والركوب المجاني، وتكاليف أخرى تنجم عن تعاملات الدول بعضها مع بعض، والتي يمكن عندئذ التطرق إليها مباشرة من جانب المفاوضين وصناع القرار. وبذلك تتعزز الشفافية، ما يخفض القلق الذي قد يحول دون عقد اتفاق ذي منفعة متبادلة.
ولأن المؤسسات تمارس دورا أساسا كهذا في التقليل من هذا النوع من معوقات التعاون الدولي، فإن الطريقة التي تصمم بها بنية هذه المؤسسات، والأشخاص الذين يستخدمونها والأسباب التي يستخدمونها من أجلها، هي أمور جوهرية في أجندات البحث الليبرالي الجديد. فقد يعود فشل الدول في التعاون، ولو جزئيا، إلى التصميم غير الفعال للمؤسسات التعاونية. وبما أن هناك كثير من الترتيبات ذات المنفعة المتبادلة التي تمتنع عنها الدول بسبب خشيتها من خيانة الآخرين أو استغلالهم لها»، فقد أبدى روبرت جيرفس (Rober Jervis) ملاحظة صحيحة، هي أن الباحثين الليبراليين الجدد يرون أن ثمة مكاسب مهمة يمكن تحقيقها من خلال الترتيبات الأكثر إتقانا للسياسات (29). إن هذا الاهتمام، بما بسمي با التصميم العقلاني للمؤسساته (national design of institutions) (29) هو بمنزلة السياق التأسيسي للتحليل الليبرالي الجديد وهو يحدد شكل أجنداته البحثية. 











مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید