إن الغرض من منظمة التجارة العالمية World Trade Organization) ((WTO) هو أن تكون بمنزلة منتديات للدول للمفاوضة في اتفاقات التجارة الحرة والتوصل إلى تسوية الخلافات التجارية. وقد بدأت عملها رسميا في عام 1995، وهي جزء من نظم دولية للقرار الجماعي (international regimes) راسخة في مجال التجارة الحرة الرأسمالية العالمية. وتتكون نظم القرار الجماعي هذه من كثير من المنظمات والاتفاقات التي تتعلق بالتجارة الحرة وتعتمد على مجموعة متنوعة من المؤسسات الفكرية والقانونية، وترتكز هذه بدورها على افتراض مسبق بأن المشاركة في النشاط العالمي للتجارة الحرة الرأسمالية هو أمر قيم ومفيد معياريا (بالمقارنة بالمنظور الماركسي مثلا، والذي تم شرحه في الفصل الثامن). والتركيز حصرا على الإجراءات الرسمية لمنظمة التجارة العالمية وهيكلها يغفل عن هذه العناصر الأساسية المهمة، وهو أحد الأسباب التي دعت العلماء الليبرالين الجدد إلى تطوير مفهوم نظم القرار الجماعي الدولية (international regimes). |
إلا أن التطور المؤسسي لمنظمة التجارة العالمية يمثل دراسة حالة مثالية توضح أهمية التصميم المؤسسي للأهداف الجماعية في بيئة من الفوضى (anarchy)، وقد طورت الدول منظمة التجارة العالمية من ترتيب سابق وأقل رسمية، يعرف باسم الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة [غات] The) (General Agreement on Tariffs and Trade
(GATT
، وذلك كي تحقق مصالحها الاقتصادية الجماعية بطريقة أفضل. وقد انبثق التصميم المؤسسي لمنظمة التجارة العالمية عن تجربة الدول الجماعية مع اتفاقية الغات. وكان قد تم مسبقا تعديل بعض الجوانب المؤسسية الرئيسة لمنظمة التجارة العالمية استجابة لظروف جديدة وأوجه قصور مؤسسية. هذا وقد أصبحت منظمة التجارة العالمية مثار عديد من التحليلات الليبرالية الجديدة.
أصول منظمة التجارة العالمية
نظرا إلى طبيعة التجارة الدولية، فإن الحافز إلى تطوير مؤسسة رسمية كمنظمة التجارة العالمية كان موجودا منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من الفوائد الجماعية التي يمكن تحقيقها من خلال إزالة الحواجز التجارية، إلا أن التنسيق اللازم لتحرير التجارة قد يكون تحقيقه والمحافظة عليه صعبا نسيا، إذ غالبا ما يمارس المتجون المحليون ضغوطا على الحكومات من أجل الحمائية (protectionism)، ولا سيما في أوقات الأزمات الاقتصادية، ومن الصعب على صناع القرار تجاهل هذه الضغوط. وهناك لعبة مناسبة لتوضيح الصعوبات ذات الصلة وهي لعبة صيد الظبي) Stag) (Hunt. في هذه اللعبة، ينبغي للصيادين أن يتعاونوا من أجل الإيقاع بالظبي ما سيزودهم جميعا بمكاسب كبيرة. مع ذلك يمكن لأي صياد أن ينجرف وراء التنقل من البقية من خلال سعيه منفردا للحاق بارنب، ما سيؤدي إلى فشل عملية صيد الظبي. وسيزود التنقل الصياد بمكاسب مباشرة ينفرد بها الوحده، لكنها في النهاية قصيرة الأمد وقليلة نسبيا.
يعمل تحرير التجارة وفقا لمنطق مشابه، ذلك أنه يمكن جميع المشاركين أن يجنوا مجموع ثروة أكبر نسبيا إذا ما قاموا بتقليل الحواجز على التجارة. إلا أن الدولة ستفضل في مواجهة الضغوط المحلية المباشرة اللجوء إلى الحمائية، ما يقود الدول الأخرى حتما إلى أن تحذو حذوها. والنتيجة النهائية أنه من خلال سعي الدول وراء المكاسب الفردية قصيرة الأمد، ينتهي المطاف بها جميعها إلى أن تكون في حال اقتصادية أسوا على المدى البعيد حيث تتضاعف تأثيرات الحمائية من خلال النظام الاقتصادي. ويمكن ملاحظة نمط السلوك هذا خلال حقبة الكساد الكبير، في سياسات مثل سياسة سموت وهاولي للتعرفة الجمركية لعام 1930 (Smoot - Hawley Tarif) التي أدت بالنتيجة إلى إغلاق الأسواق الأميركية أمام البضائع المستوردة وجعلت الدول الأخرى تحذو حذوها. وقد اشتملت الرؤية الهيمنية لنظام اقتصادي عالمي جديد، والتي طرحها الأميركيون والبريطانيون أثناء الحرب العالمية الثانية، على منتدى يسهل التفاوض بشأن تحرير التجارة،
لكن وعلى خلاف صندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD)، ثبت أن ثمة جوانب محددة مثيرة للجدل تخص منظمة التجارة الدولية (International Trade Organization
(ITO
المقترحة قبل الغات وقبل منظمة التجارة العالمية، وقد فشلت عملية إنشاء المنظمة بعد
Scott Gales and Brian D. Hums, Games, Information, and Polities: Applying Gan 1 (51)
, 89 - 90 .Political Science
(Ann Art ,
MI: University of Michigan Mess , 1997) , pp
ما Theoretic Models
أن سحبت الولايات المتحدة دعمها. إلا أن الحاجة إلى إطار للمفاوضات التجارية ومتلي له بقيت موجودة، وبدلا من منظمة التجارة الدولية، لجأت الولايات المتحدة ودول تجارية أخرى إلى اتفاقية الغات (GATT التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1948، بانتظار تأسيس منظمة التجارة الدولية. وقد كانت اتفاقية الغات بمنزلة أول جولة في المفاوضات التجارية والتخفيضات على التعرفة الجمركية بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن اتفاقية الغات لم تكن في حد ذاتها منظمة حكومية دولية رسمية، إلا أنها أنشات مجموعة من القواعد التجارية الموقتة، ووضعت آليات لحل النزاعات المتعلقة بالتجارة
وقد كانت هذه الاتفاقية التجارية في النهاية بمنزلة العمود الفقري المؤسسي لدورات المفاوضات التجارية اللاحقة التي تعاملت مع تحديات
جديدة في التجارة كالتكنولوجيا، والممارسات الاقتصادية، والحوادث السياسية التي انبثقت خلال حقبة الحرب الباردة (51). وكانت كل دورة تدوم سنوات عدة، حيث توصل المفوضون إلى التفاصيل المتعلقة بتقليل حواجز تجارية معينة (غالبا المنتج مقابل المنتج الخاص بكل دولة من الدول الأعضاء)، وتطرقوا إلى أنواع جديدة من الحواجز والممارسات. وقد ركزت دورة كينيدي في أواسط الستينيات على ممارسات مكافحة الإغراق (
anti - dumping practices) لمكافحة إغراق السوق بالبضائع، عندما تدعم الدول الصناعات المحلية التي تقوم بعدها بتصدير منتجاتها بسعر أقل من تكلفة الإنتاج. وقد ركزت دورة طوكيو في السبعينيات على الحواجز التجارية غير المتعلقة بالتعرفة الجمركية، كالدعم الحكومي للصناعات الناشئة، وحصص الاستيراد. أما دورة الأورغواي في أواخر الثمانينيات فقد كانت من أكثر الدورات شمولية، حيث اشتملت على مفاوضات حول كل شيء ابتداء من الزراعة إلى حقوق الملكية الفكرية.
بهذه الطريقة، كانت اتفاقية الغات القاعدة المؤسسية والقانونية لإدامة التجارة الحرة وتوسعتها. وقد نمت العضوية فيها بثبات بدءا بعشرين عضوا تقريبا في أواخر الأربعينيات، حتى وصل العدد إلى أكثر من مئة عضو في أوائل الثمانينيات. وكانت أهداف هذه الاتفاقية مدعومة من مجموعة متنوعة من المؤسسات الدولية والإقليمية الأخرى، كصندوق النقد الدولي الذي مارس الرقابة على نظام سعر الصرف الثابت، أو الاتحاد الأوروبي الذي كان يعزز التكامل الاقتصادي الإقليمي. وقد تطورت أيضا مؤسسات غير رسمية، كمجموعة السبع مثلا، كي يتمكن زعماء الديمقراطيات الصناعية الكبرى من الاجتماع سنويا لمناقشة المجالات ذات الاهتمام المشترك، وقد كانت المؤسسات الدولية في جميع هذه المساعي بمنزلة منتديات للتفاعل المتكرر، مؤكدة بذلك النوايا والسلوكات الجماعية. وقد سمحت للدول بان تتبادل المعلومات، وبان تتطرق إلى المشكلات الجديدة حين تظهر، وبان تخفض تكاليف التعاملات التجارية التي كانت سترتبط بالترتيبات التجارية ثنائية الأطراف، وليس من المفاجئ أن أصبحت أسواق الدول الأعضاء في هذه الاتفاقية ذات اعتمادية متبادلة على نحو متزايد مع تقدم الحرب الباردة
في الوقت ذاته، كانت القدرة النسبية للولايات المتحدة على التحكم في المخرجات الاقتصادية بمفردها قد بدأت بالتضاؤل. وأعلنت الولايات المتحدة في عام 1971 أنها لم تعد تدعم نظام سعر الصرف الثابت. وفي أثناء الصعوبات الاقتصادية لحقبة السبعينيات، ومن ضمنها سلسلة من الأزمات النفطية، واجهت الولايات المتحدة الأميركية صعوبات متزايدة في فتح سوق حرة ضمن حدودها لمنتجات شركائها والحفاظ على ذلك السوق. وعلى الرغم من أنه ينبغي عدم تضخيم هذا التراجع النسبي، حيث إن الاقتصاد الأميركي، وفقا لمعظم التقديرات، ظل من أكثر الاقتصادات نفوذا وثراء، فإن الشعور بأن الولايات المتحدة تراجعت عن مكانتها كمهيمن، وذلك مقارنة بشركائها التجاريين، قد كان له تأثيره في السياسات. وبدات الولايات المتحدة الأميركية بممارسة الضغط على شركائها التجاريين ک? يتحملوا مزيدا من أعباء المحافظة على نظام التجارة الحرة، وأصبحت على نحو متزايد غير راضية عن اتفاقية الغات، وعن غياب آليات أقوى في الامتثال.
وقد بدا الهيكل المؤسسي لاتفاقية الغات يتحول إلى مشكلة بطرائق أخرى أيضا. فطالما أن العضوية في الغات كانت محدودة بالاقتصادات الصناعية المتقدمة وبعدد قليل من الدول الأخرى، فقد كان الترتيب غير الرسمي مواتيا للمفاوضات. أما مرونة التصميم المؤسسي لاتفاقية الغات، ومرونته في التفويض، فقد أتاحتا الفرصة أمام الدول الأعضاء للتطرق إلى قضايا تجارية جديدة عند ظهورها، وأحجم عديد من الدول حديثة الاستقلال عن الانضمام إلى اتفاقية الغات لأنها كانت تسعى نحو سياسات تنموية انكفائية. ثم بدأ هذا الأمر بالتغير مع أوائل الثمانينيات عندما أصبحت الاقتصادات النامية في آسيا وجنوب أميركا عضوا في الغات. وقد وضع هذا التوجه نحو أعداد أكبر من الأعضاء، والذي تزايد مرة أخرى بعد الحرب الباردة، ضغطا كبيرا على الهيكل المؤسسي لاتفاقية الغات وإجراءاته المتعلقة بالمفاوضات. ومع وجود عدد أكبر من الأعضاء، ومجموعة أكثر تنوعا من المشكلات على الطاولة، أصبحت كل دورة مفاوضات، إضافة إلى لجان الأعضاء التي كانت تمارس الرقابة عليها، أكثر تعقيدا على نحو متزايد. وعليه، ففيما كانت اتفانية الغات بمتزلة إطار مؤسسي مناسب لمفاوضات التجارة الحرة خلال معظم الحرب الباردة، فإن تصميمه المؤسسي اصبح
غير عملي بحلول الثمانينيات. هذه المشكلات مجتمعة، مضافة إلى ازدياد الشعور بعدم الرضا عن سياسات الامتثال والتنفيذ الخاصة باتفاقية الغات، قادت إلى الإصلاح المؤسسي وإلى إنشاء منظمة التجارة العالمية بوصفها بديلا لاتفاقية الغات.
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)