المنشورات

الأسلوب التأويلي في التحقيق العلمي

لقد كانت المداخلة الأسوأ صيتا في المنهجية هي البحث الذي قدمه هيدلي بل عام 1996 في مجلة السياسة العالمية (World Politics) وعنوانه الحجة لمصلحة مقاربة كلاسيكية ("' the case for a classical approach')، وكما قيل عنها غالبا، فقد غلب عليها أنها حجة ضد التطبيق الصارم للأساليب العلمية، والتي شعر بل بأنها لن تولد معرفة ذات أهمية. في المقابل، غرفت المقاربة الكلاسيكية (classical approach) بأنها تلك المقاربة للتنظير والتي تستنبط من الفلسفة، والتاريخ، والقانون، والتي تتميز باعتمادها الصريح على ممارسة إصدار الأحكام (29). ومن المثير للسخرية في ما يتعلق بموقف بل في هذه المقالة أنه كان في السابق قد أمضى وقتا طويلا جدا في توبيخ زملائه في اللجنة البريطانية بسبب عدم اهتمامهم بموجة الكتابات العلمية الجديدة التي كانت تتطور في الولايات المتحدة الأميركية في أوائل الستينيات. 

وقد أدى الأسلوب الجدل الهجومي العنيف الذي اختار بل أن يتبناه إلى إضفاء الغموض على الحجة التي قدمها للمقاربة الكلاسيكية. وبعد بضع سنين، کتب بل تصورا عن الأمور التي ينبغي للمنهجية التأويلية أن تتضمنها، وقد لاقى هذا التصور قبولا أكبر (24). وتعد هذه المزاعم التي وضعها في هذا العمل الذي كتبه في عام 1972) بمنزلة دليل جيد لرؤية المدرسة الإنكليزية الحقل العلاقات الدولية، وكيفية دراسته.
1. موضوع الدراسة في تخصص العلاقات الدولية: جادل بل بأن الإطار المناسب لتخصص العلاقات الدولية ليس «العلاقات بين الدولة ولا تفاعلات أي اوحدات أخرى، وإنما بتعلق تخص العلاقات الدولية، في رأيه، بتشكيل مجموعة من المفترحات العامة حول المنظومة السياسية العولمية» global political') ('system والذي كان يعني به الدول وكذلك الأقاليم، والمؤسسات، والمنظمات غير الحكومية، والجماعات عبر القومية (transnational groups) والجماعات دون القومية (subnational groups)، والأفراد، والموطن المشترك الأوسع للجنس البشري (wider community of human kind). ومن خلال تتبع الروابط بين الجهات الفاعلة هذه، والأنماط التي تتولد من تفاعلاتها، أعطي بل قيمة كبيرة لدور نظرية العلاقات الدولية في تعريف المفاهيم وتنظير العلاقات بينها. ويشكل هذا التشديد على المفاهيم نوعا محددا من التنظير، وهو تنظير لهم ليسلط الضوء على التغيرات المعقدة في السياسة العالمية، ويتناقض هذا النوع من الفهم التأويلي للنظرية مع المسعى الوضعي لصوغ افرضيات قابلة للاختباره (29). 2. أهمية الفهم التاريخي: نحتاج المعرفة الأكاديمية إلى أن يكون لها عمق تاريخي، ويعطي بل مثالا ذا صلة وثيقة، وهو أن مجرد معرفة الحقائق المتعلقة بالتفوق الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية على منافسيها ليس بالأمر الكافي، فالأفضل هو أن نفهم كيف تعبر الولايات المتحدة الأميركية نفسها قوة استثنائية ولماذا، ويجب أيضا أن يتم فهم مؤسسات المجتمع الدولي، كالقانون و ميزان القوي، من خلال سياق تاريخي. فعلى سبيل المثال، هنالك فرق في ما إذا كانت حقوق الإنسان ثرى بعين أبناء عصر التنوير، أو ما إذا كان يعتقد بأنها تأويل القرن العشرين الفكر الحقوق الطبيعية. فلأوجه الفهم التاريخية هذه أهمية بالغة في دبلوماسية حقوق الإنسان والأساس المنطقي لتعزيز الحقوق خارج الحدود.
د. ليس هنالك مهرب من القيم: من الضروري أن يكون الفرد على وعي بالقيم الخاصة به ويجب أن يخضعها للفحص النقدي الدقيق. فالقيم تحدد اختيار المواضيع التي ستتم دراستها، وتاليا سيكون لكتابات الأكاديميين وتصريحاتهم تأثير في العملية السياسية. وعلى الرغم من إنكار إمكان فصل الحقائق المتعلقة بالعالم عن قيمنا، ينبغي للأكاديمين أن يهدفوا إلى موقف متجرد. وقد كان بل يستهدف بهذا أولئك الذين كانوا مهووسيين بأهمية الربط بين الدراسات البحثية ورسم السياسات العملية، فقد كان يؤمن بان السعي وراء النفوذ السياسي قد يؤدي بشكل كبير إلى تقليل احتمالات توليد أبحاث ذات أهمية بالنسبة إلى الممارسين. أما على الجانب الفكري المقابل، فإن السعي إلى دعم القضايا السياسية من المرجح أن يضعف نزاهة الموضوع والمشروع الأكاديمي الأوسع.
4. تخصص العلاقات الدولية هو في جوهره مشروغ معياري: للمعايير اهمية ليس من حيث العلاقة بين الباحث وموضوع المعايير فحسب، لكنها أيضا أساسية لموضوع تخصص العلاقات الدولية المدروس بطريقة صحيحة. ووفقا لبن، فقد كانت المشكلة الرئيسة في السياسة العالمية هي في كيفية بناء شكل من أشكال المجتمع الدولي الذي يكون منظما وعادلا في آن. وعن السؤال الفيبري
نسبة إلى عالم الاجتماع ماكس فيبر (Max Weber)] أما الذي يجب علينا أن نفعله، وكيف يجب علينا أن نعيش؟ كان جواب بل عدم الدخول في حيز النظرية المثالية، ونحن نعتمد على افتراضات خيالية ودول تخيلية وهمية (20). وبخلاف الفلاسفة الأخلاقيين، كان بل يؤمن بأنه يجب على منظر العلاقات الدولية الذي يقوم بالدراسات المعيارية أن يبقى قريبا من ممارسات الدولة. ولم يكن المهم هو الأفكار المعيارية في حد ذاتها وإنما الأفكار التي يؤمن بها ممارسو السياسة ويسعون إلى تطبيقها (2). ويتضمن هذا إعطاء توضيح مفصل للسياق الذي تتخذ من خلاله الجهات الفاعلة القرارات، وكذلك الفهم أن القيم غالبا ما تكون متضاربة في السياسة، وأنه يجب اتخاذ خيارات رهيبة.
خلال عقدي السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، أتى التزام المدرسة الإنكليزية بالأسلوب التأويلي في التحقيق إلى تهميشها عن التطورات التي كانت تحدث في أميركا الشمالية، معقل تخصص العلاقات الدولية. وقد تم تعزيز الموقف المهمش هذا بشكل إضافي من خلال حقيقة أن المدرسة الإنكليزية كانت صامتة أثناء الهجوم المعياري والتأويلي على الوضعية والذي بدأ في أواسط الثمانينيات (على الرغم من أنها كانت معارضة للوضعية لأكثر من ثلاثة عقود). وكان في طليعة هذه الحركة منظرو النقدية الغرامشية (نسبة إلى المنظر أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci)]، ومنظرو النسوية، وما بعد البنيوية (poststructuralists)، والبنائية (constructivists). ومن هذه النظريات، برزت البنائية اتجاها سائدا بديلا للواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة، وقد مكنت البنائية تخصص العلاقات الدولية من التشبث بمطلبه في أن يكون له موضوع جوهري متميز - بدور بشكل واسع حول تفاعل الجهات الفاعلة ذات السيادة والمؤسسات - من دون الانجراف وراء هوس الواقعية الجديدة بالقوة المادية والبني الدولية غير المنقولة. وكما أشرنا أعلاه، فقد بدأ البنائيون باستحسان التداخلات بين مقاربتهم في تخصص العلاقات الدولية وبين مقاربة المدرسة الإنكليزية الأكثر قدما هل كان الكتاب أمثال مانينغ، ووايت، وبل، بنائيين سابقين لأوانهم؟ اقرأ کتاب مانينغ بعنوان طبيعة المجتمع الدولي (3) Nature of International Society)، أو بالطبع كتاب بل وعنوانه المجتمع الفوضوي (Anarchical Society)، وستجد بوضوح درجة من التقارب مع البنائيين التقليديين أمثال جون روغي (John Ruggie) وألكسندر فندت (20). فكلاهما يعتبر أن المنظومة بين الدولية هي في أصلها ميدان امجال اجتماعي بجعل من الدول فاعلة (ممثلة)، ويكثفها لاتباع قواعده ومواثيقه، وكلاهما يرى أن المعايير والمؤسسات هي تعبير عن المعرفة المشتركة والقيم المشتركة. وعلى الرغم من هذه التداخلات، ففي إمكاننا أن تناقش بأنه في الوقت الذي تطور فيه هذان البرنامجان البحثيان، برزت اختلافات كبيرة. خذ على سبيل المثال وحدة التحليل الأساسية. يعتقد فندت بأن الدول هي الجهات الفاعلة الرئيسة وبأنها تشبه الأشخاص أيضا» (2). وعلى الرغم من أن الباحثين الأكاديميين في المدرسة الإنكليزية ينسبون الفاعلية أحيانا إلى الدول على سبيل الاختصار، فإنهم يعتقدون بأن الوكلاء الممثلين الحقيقيين في المجتمع الدولي هم الدبلوماسيون والزعماء الذين يفكرون ويتصرفون بالنيابة عن الدولة ومؤسساتها.
أما المعرفة المتعلقة بكيفية فهم الدبلوماسيين والزعماء العالم الخاص بهم، فيمكن تعزيزها من خلال الانتباه للمصطلحات التي يستخدمونها والمبررات التي يوظفونها، وهناك استدلالان مهمان يمكن استنتاجهما من هذه العلاقة بين المصطلحات اللغة المستخدمة والسلوك الاجتماعي. أولا، أن السلوك سيكون مقيدا إلى حد أنه لا يمكن تشريعه قانونيا» (2). وثانيا، أن نطاق الأشكال الممكنة من السلوك المبتكر مقيد بالأخلاقيات السائدة في المجتمع الدولي، وبالتالي لا يمكن الجهات الفاعلة أن تأمله في أن يتم تجاوز تطبيق القواعد الموجودة، وزخرفة المعاني القائمة بشكل لانهائي» (2). ويزودنا القانون الدولي بقاعدة لاختبار هذه الرؤى التأويلية؛ فما يبدو ظاهريا أنه سلوك عدواني، ژر دوما بأنه سلوك في الدفاع عن النفس، وما إذا كان يتم التغاضي عن هذا الشيء أم لا، يعتمد على مقدار الزخرفة المطلوبة للمفردات اللغوية المعيارية. فعندما وصفت إسرائيل هجومها على مفاعل العراق النووي بمصطلحات الدفاع عن النفس، فإن أكثرية الدول في المجتمع الدولي لم تقبل به، ومع ذلك، قبلت الأمم المتحدة حجة الحكومة الأميركية بأن استخدام القوة ضد حكومة طالبان في عام 2001 و 2002 كان مقبولا نظرا إلى الاعتداءات على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001. فقد كان الاختلاف الرئيس هو التغير في السياق المعياري للعلاقات الدولية بحيث إنه لم ينظر إلى مبرر الدفاع عن النفس على أنه زخرفة للمعاني بهذا القدر نفسه من بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وكما وضح سابقا الفكر الجديد في المدرسة الإنكليزية، فإن التعرف إلى القوة المقيدة للقواعد والمعايير وتتبعها هو توجه مثمر للمنهجية التأويلية (19).
من خلال قراءة المناقشات المتبادلة بين والتز ونقاده في ثمانينيات القرن العشرين، بعذر المرء لظنه بأن الثورة العلمية في تخصص العلاقات الدولية هي تطور حديث نسبيا. وعلى الرغم من ذلك، فمنذ أواخر الخمسينيات كانت اللجنة البريطانية لنظرية السياسة الدولية متشككة للغاية في قدرة مثل هذه الأساليب على توليد معرفة في السياسة العالمية. وبعد خمسة عقود تقريبا، ما زالت المدرسة الإنكليزية تقدم طريقة بديلة في دراسة تخصص العلاقات الدولية متأصلة في تاريخ منظومات الدول الحالية والماضية، وتسترشد باسئلة أخلاقية تتعلق بمدى ملاءمة النظام بين الدولي (inter
- state order) الحالي. أما التحدي الأخير الذي فرضته البنائية فقد جلب وضوخا أكبر في المفاهيم الكثير من الافتراضات الضمنية في تنظير المدرسة الإنكليزية. فعلى سبيل المثال، تزودنا أعمال فندت بتصور متطور يوضح كيف أن الجهات الفاعلة تتشكل من خلال البني المعيارية، متبحة في الوقت نفسه درجة معينة من التحديد المادي للمنظومة، ومثل هذا المزيج من الأفكار والقوى المادية واضح ايضا في فكر بل، ولو أنها في حالته هي مسألة بداهة أكثر من كونها تطبيقا نظريا للتنظير - meta) (theoretical application. ويعطى هذا النوع من التداخلات مكاسب مشتركة. أما الأعمال الجماعية للمدرسة الإنكليزية فلديها كثير لتقوله عن تقاطع التاريخ، والأخلاقيات، والفاعلية، فهي تتحدث عما تقوله الجهات الفاعلة، وكيف تقوم هذه الجهات الفاعلة بالتعلم أو التأقلم، وتحت أي الظروف نتصرف بعقلانية، وما إذا كانت تقول الحقيقة أم لا (وكيف نعرف ذلك)، والاحتمالات التي كانت لديها لتتصرف بطريقة مختلفة. ويمكن الإجابة عن هذه الأسئلة باستخدام المنهجية التأويلية التي تقتبس من البنائية، لكنها ليست مقتصرة تماما عليها. 










مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید