بعد أن تفكرنا في مقاربة المدرسة الإنكليزية، سيخوض المحتوى الرئيس لهذا الفصل بعمق أكبر في فكرة أن الدول تشكل مجتمعا دوليا، وهو زعم قيل إنه يميز المدرسة الإنكليزية عن النظريات الأخرى في تخصص العلاقات الدولية، ومتوافقا مع العمل الأخير لباري بوزان، أعتقد الآن بانه يجب على المدرسة أن لا تعطي تصورا قويا عن كيف ولماذا تشكل الدول مجتمعا وحسب، بل ينبغي للمدرسة الإنكليزية أيضا أن تبين كيفية ارتباط هذا الحقل
العلاقات الدولية بفكرة المجتمع العالمي. وفي حين قام بوزان بإعادة المجتمع العالمي مجددا إلى أنطولوجيا (ontology) المدرسة الإنكليزية، فقد استمر في قصر المنظومة على الحواشي؛ وكما هو مبين في النقاش التالي، فقد آن الأوان لاستعادة المنظومة مجددا.
ما هي حالة (مكانة فئات المنظومة، والمجتمع، والمجتمع العالمي؟
كما ذكرنا بل، فإن هذه العناصرا موجودة في مكان ما هناك في السياسة العالمية ولا يمكننا التعرف إليها إلا من خلال التصميمات [الأطر التأويلية. وقد أشار عالم الاجتماع ماكس فيبر إلى هذه المخططات باسم الأنماط المثالية (ideal types). ولكي يظهر العلاقة بين الرأسمالية والمسيحية، فقد حاج فيبر بأنه يلزم في البداية استخلاص العلاقة في شكل مفهومي يمكننا من الحديث عن قيم ومؤسسات معينة تشترك فيها شعوب مختلفة أو أجيال متعاقبة. لذا، فإنها تتم من خلال المنظومة، والمجتمع، والمجتمع العالمي، وهي كلها محترم من الخصائص التي تسلط الضوء على بعض التمات المهمة، بينما تحد من أهمية ما بعتقد بانه ذو صلة أقل. ومن خلال سعي المدرسة الإنكليزية إلى توضيح المفاهيم التي تكشف عن أنماط امتمايزة في التاريخ العالمي، فإنها تتعامل مع مفهوم في «النظرية» يختلف تماما عن ذلك الموجود في المقاربات الأميركية السائدة، وبدلا من التعريف المفاهيم الغامضة بطريقة قابلة للقياس (operationalizing concepts» (بحيث تفهم من خلال المشاهدة الإمبيريقية)، وصوغ فرضيات قابلة للاختبار»، تتجه المدرسة الإنكليزية نحو التشديد على توضيح المفاهيم المتنافسة مدفوعة بمحاولة لتعريف الخصائص المشتركة التي عين الحدود الفاصلة بين الأنظمة التاريخية والمعيارية المختلفة (أي باتباعها منهجية تحليلية غير إمبيريقية، ما يجعلها مختلفة عن التقاليد الأميركية.
وقبل المباشرة، يجب أن نضع في الحسبان أحد الاعتراضات على تصوير نظرية المدرسة الإنكليزية بأنها محاورة بين ثلاثة حقول متداخلة؛ فحتى وإن كان المنظرون الكلاسيكيون في المدرسة الإنكليزية قد ألمحوا إلى وجود «ثلاثة نظم فكرية، (وفقا لوايت) أو ثلاثة عناصر، (وفقا لبل)، إلا أنهم، وعلى الرغم من ذلك، قد فضلوا مجال المجتمع الدولي في تصوراتهم. لذا، فإن معاملة الثلاثة وكان لها أهمية متساوية معناه إساءة فهم الصفة المميزة لفكر المدرسة الإنكليزية، وليس لدي شك في أن أحد المحركات الفكرية التي أطلقت المدرسة الإنكليزية إلى الوجود هو رفضها للواقعية والمثالية مفضلة حلا وسطا يعترف بأنه يمكن المؤسسات أن تهدئ من الأخطار المروعة المرتبطة بالحياة في الفوضى الدولية. كما أني أدرك أن عديدا من الأعمال المنشورة لمؤيدي المدرسة الإنكليزية في التسعينيات استمرت في تفضيلها المجال المجتمعي، وذلك جزيا بسبب الرغبة في إظهار أن المدرسة الإنكليزية ليست مجرد شكل مهذب للواقعية كما افترض كثيرون في الثمانينيات. ولا تقلل أي من هذه النقاط من شأن الزعم الذي عرضناه في هذا الفصل بأن أكثر الحجج إقناعا في الدفاع عن المدرسة الإنكليزية هي احتمال أن تكون هذه المدرسة أكثر توضيحا من الأبدال السائدة لأنها تسعى إلى إعطاء تصور توليفي (ترکيبيا للسياسة العالمية يتجنب سلسلة التقسيمات الزائفة التي تقيمها الاتجاهات البديلة كالقوة مقابل المعايير مثلا، والمادية مقابل المثالية، والفوضي مقابل التسلسل الهرمي، والأسباب مقابل المسببات. ومن أجل القيام بذلك، ينبغي لنا أن لا نفكر في المجتمع الدولي بوصفه العلامة المحددة للمدرسة الإنكليزية، وحسب، بل أيضا أن نظم النمطين المثاليين الآخرين لتوضيح حدوده وقيوده، وبعد مناقشة خصائص المجتمع الدولي وأنواعه، سيناقش الفصل كيف أن هذا المجال عرضة للضغوط المتجهة إلى أسفل والتي تولدها المنظومة، وللضغوط المتجهة إلى أعلى والتي تولدها القوي عبر الوطنية في المجتمع العالمي.
المجتمع الدولي: تعريفه، وخصائصه، وأشكاله المتباينة
وفقا لتعريف بل الكلاسيكي، يأتي المجتمع الدولي إلى الوجود عندما اتقوم مجموعة من الدول التي تدرك وجود مصالح مشتركة وقيم مشتركة معينة بينها، بتشكيل مجتمع، بمعنى أنها ترى نفسها ملزمة بمجموعة من القواعد المشتركة في علاقاتها بعضها بعض، وتتشارك في ما بينها في أعمال المؤسسات المشتركنا (4). وتقوم المناقشة التالية بالتدقيق في كل مكون من مكونات هذا التعريف
(36) على الرغم من مركزية المفهوم، يمكننا أن نجد في أدبيات المدرسة الإنكليزية استخدامات متعددة له. فهو يوجد المجموعة من الأفكار الموجودة في انان رجال الدولة، (وعة مانينغ من أنصار هذه الفكرة)، أو المجموعة من الأفكار الموجودة في أذهان المنظرين السياسيين، والتي يشبهها بمقارية مارتن وايت)، أو المجموعة من المفاهيم المفروضة من الخارج والتي تعزف الهياكل المادية والاجتماعة للنظام الدولي». وقد وضع بوزان تخطيطا لهذه الاستخدامات المتنافسة للمجتمع الدولي.
أما أول العناصر الرئيسة للمجتمع الدولي فهو الصفة الفريدة المتعلقة بالعضوية، والتي تقتصر على الدول ذات السيادة. والبارز هنا هو أن الجهات الفاعلة تقوم بأمرين؛ فهي تدعي السيادة، ويعترف بعضها بحق بعضها الآخر في الامتيازات نفسها (37). ومن الواضح أن سلوك الاعتراف (recognition) المتبادل يدل على وجود مراس اجتماعي؛ فالاعتراف أساس في علاقة الهوية، وهو الخطوة الأولى في بناء المجتمع الدولي، وإذا كنا سنشك ولو للحظة في الطبيعة الاجتماعية لعملية الاعتراف، فإن هذا الشك يتبدد بسرعة عندما ننظر تاريخيا إلى تلك الشعوب التي لم تمنح في السابق، أو ما زالت لم تمنح، عضوية في مجتمع الدول، ويتضمن تاريخ توشع المجتمع الدولي" قصة الحدود المتحولة للاشتمال والاستثناء. فلم يتم السماح للصين بإقامة دولة ذات سيادة لغاية كانون الثاني / يناير من عام 1942 عندما نبذت الدول الغربية اخيرا المعاهدات غير المنصفة، ولم كان الأمر كذلك؟ لقد أصبحت العضوية تعرف، ولا سيما في القرن التاسع عشر، من خلال «مقياس للحضارة» standard of) ('civilization حدد شروط الحكم الداخلي الذي يتوافق مع القيم والمعتقدات الأوروبية. وما نراه هنا هو مدى أهمية التمايز الثقافي بالنسبة إلى التجربة الأوروبية في المجتمع الدولي، ولم يتم الاعتراف بالصين عضوا شرعيا في المجتمع الدولي، وبذلك فقد ترفض منحها العضوية المتساوية. وإذا لم يعترف الغرب والصين بعضهما ببعض أعضاء متساوين، فكيف يمكننا عندئذ أن نصف علاقاتهما؟ نرى هنا كيف يمكن للديناميات الفاعلة بين المنظومة والمجتمع أن تلخص المحددات التاريخية للاشتمال والاستثناء. وخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حصل كثير من التفاعل بين الصين والغرب لكنه كان مدفوعا بأسباب استراتيجية واقتصادية. لكن الأهم هو أن أيا من الطرفين لم ير نفسه جزءا من القيم والمؤسسات المشتركة نفسها؛ فقد قاومت الصين على سبيل المثال، ولحقبة طويلة، وجود الدبلوماسيين الأوروبيين على أرضها إلى
جانب رفضها لولايتهم القضائية خارج الحدود الإقليمية لأولهم، ولقد وجدت تلك السيطرة منذ أمد بعيد عند القوي الأوروبية. وفي غياب قبول للقواعد والمؤسسات الخاصة بالمجتمع الدولي الأوروبي، فمن المنطقي أن نجادل بأنه ومنذ معاهدة نانکين (Treaty of Nanking) في عام 1942 وحتى عام 1942، كانت الصين جزءا من منظومة الدول لكنها لم تكن عضوا في المجتمع الدولي
وبمجرد أن يتم الاتفاق على من يحق له المطالبة بهوية العضو الشرعي في المجتمع الدولي، فإن الاعتبار التالي يتضمن التفكير في ما بعنيه الأمر بالنسبة إلى الدولة في أن تتصرف، وأن يكون لها حق التصرف. وتواجه المدرسة الإنكليزية هنا نقدا من الإمبيريقيين الذين يحاجون بأنه لا يمكن التركيبات الجماعية [كالدولة] أن يكون لها فاعلية. فما الذي يعنيه أن تعزي الفاعلية إلى جماعات کالدول؟ هنالك إجابة مباشرة عن هذا السؤال، هي أن الدول تتصرف من خلال الوسط الخاص بممثليها أو أصحاب المناصب. فكل دولة توظف مسؤولين يتصرفون خارجيا بالنيابة عنها، ابتداء من منصب القنصل البسيط، والذي يتعامل مع مواطني دولته، الذين فقدوا جوازات سفرهم، وصولا إلى رئيس الدولة». لذلك، ومن ناحية إمبيريقية ضيقة، تعد هذه النخبة من الدبلوماسيين وسياسيي الخارجية هي الوكيلة الحقيقية في المجتمع الدولي. وهذا هو المعنى الأصل الذي برز من خلاله مصطلح «المجتمع الدولي، إلى الوجود في القرن الثامن عشر. ففي عام 1936، حاج أنطوان بيكيه Antoine) (Pecquet بأن هيئة الوزراء تشكل مجتمعا مستقلا مقيدا با مجموعة من الامتيازات». فإذا كنا نبحث عن الوكلاء الحقيقيين للمجتمع الدولي، فعلينا إذا أن نلجا إلى الثقافة الدبلوماسية، ذلك الحقل من الأفكار والمعتقدات المشتركة بين ممثلي الدول الرسميين (40)
وبما أن الدول ذات السيادة هي الأعضاء الرئيسة في المجتمع الدولي، فمن الضروري التنويه إلى أنها ليست حصرا الأعضاء الوحيدة. فقد كانت دائما توجد حالات تاريخية شاذة، بما فيها الشبكة الدبلوماسية التي تنتمي إلى الكنيسة الكاثوليكية والسلطات السيادية المؤهلة التي منحت إلى الجهات الفاعلة من غير الدول، مثل الحق في بدء الحرب، والحق في الاستيلاء على الأراضي، والتي تم تسليمها إلى شركات التجارة الكبرى الخاصة بالحقبة الإمبريالية. وقد نجادل أيضا بأن المنظمات الدولية غير الحكومية International) (
Non - Governmental Organizations (INGOs
ذات النفوذ هي عضو من حيث إنها تعطي النصائح لمؤسسات الأمم المتحدة، وتشارك أحيانا في صوغ المعاهدات المهنة متعددة الأطراف. والحالة الشاذة المهمة الأخرى بالنسبة إلى العضوية في المجتمع الدولي هي حقيقة أن الحقوق السيادية تكون عادة مفيدة لأسباب اقتصادية أو أمنية. وقد نوه روبرت جاكسون (Rober Jackson)، وهو كاتب رائد في المدرسة الإنكليزية، إلى حقيقة أن دول ما بعد الاستعمار هي اشبهه سيادية الناحية الاعتراف بها من المجتمع الدولي، لكنها غير قادرة على المحافظة على حكومة فعالة داخليا (91). وهنالك تطور ذو صلة وهو التعليق الموفت للحقوق السيادية من مؤسسة دولية أو سلطة محتلة، وهي ممارسة انبثقت من حقبة من الصراع المدني أو التدخل العسكري الخارجي. وكانت هذه الممارسة في الحقبة الاستعمارية توصف غالبا بأنها وصاية (42)، أما في المجتمع الدولي المعاصر فيطلق عليها التسمية الأقل حساسية من الناحية السياسية وهي السلطة الانتقالية
على الرغم من أن عنصر الاعتراف المتبادل مهم جدا في فهم المدرسة الإنكليزية للمجتمع الدولي، فإنه ليس شرطا كافيا لوجوده؛ إذ ينبغي أن يكون لدى الجهات الفاعلة ولو حد أدنى من المصالح المشتركة كالتبادل التجاري، أو حرية التنقل، أو مجرد الحاجة إلى الاستقرار. ونرى هنا كيف تؤثر جوانب من المنظومة على احتمالات أن يتطور المجتمع. فكلما كانت مستويات الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة أعلى، زادت احتمالات أن تنشئ الدول مؤسسات بهدف تحقيق المصالح والغايات المستقبلية. إلا أن استقلال الدول ذات السيادة يبقى عاملا مقيدا مهئا في تحقيق الأهداف المشتركة. لذلك فقد كان للغايات التي اتفقت عليها الدول في معظم الحقبة الوستفالية (Westphalian) ميزة ضئيلة إلى حد ما، متمركزة حول بقاء المنظومة واستمرارية الوحدات السائدة ضمنها. وحالة الحرب العامة هي مثال على انهيار النظام العام (order)، لكن بل أشار سريعا إلى أنه حتى خلال الحرب العالمية الثانية قد تم احترام قوانين حرب معينة، وربما الأهم من ذلك هو أن حقبة الحرب الشاملة قد أتت إلى محاولة بناء نظام عام (order) جديد مبني إلى حد كبير على القواعد والمؤسسات نفسها التي كانت فاعلة خلال حقبة ما قبل الحرب. وكان هذا هو ما قاد بل إلى الزعم بأن «عنصر المجتمع كان دوما موجودا في منظومة الدول الحديثة. ويثير مثل هذا الافتراض انزعاجا بين الباحثين الأكاديميين في تخصص العلاقات الدولية المتعودين على أساليب متطورة في العلوم الاجتماعية. فإذا كان المجتمع يفتر وجود النظام العام، فكيف له أن يكون ذا حضور دائم في المنظومة السياسية العالمية؟ وإحدى الإجابات عن هذا السؤال، وهي إجابة ينبغي للمدرسة الإنكليزية أن تطورها حتى تكتمل، تشير إلى توفير مؤشرات معيارية أوضح تتيح تقويما لمدى حضور المجنمعه في النظام بين الدول. أنواع المجتمعات الدولية
إن النقد الموجه إلى ميل كتابات المدرسة الإنكليزية إلى التعامل مع المجتمع الدولي بوصفه كبانا لا يتغير هو نقد بمكن دحضه جزئيا من خلال محاولة تحديد أنواع مختلفة من المجتمعات الدولية. وعلى النهاية الأدنى من
طيف المجتمعات الدولية، نجد ترتيا مؤسسيا مقصورا فقط على الحفاظ على النظام العام (order). ففي العالم المتنوع ثقافيا، الذي تكون فيه للدول الأعضاء تقاليد وأنظمة سياسية مختلفة، فإن المشروع المشترك الوحيد الذي يمكن هذه الدول أن تتفق عليه هو الحفاظ على النظام العام الدولي. ومن دون النظام العام، سيتم التشكيك في استقرار المنظومة ومعها التشكيك في بقاء الوحدات. إلا أن مدى تشكيل الدول المجتمع دولي كان محدودا ومقيدا بحقيقة الفوضى. ولهذا السبب كان يجب عدم المساواة بين المجتمع الدولي والنظام العام المتناغم، وإنما مساواته بنظام عام يمكن تحمله، وسيكون أفضل مما يتوقعه الواقعي، لكنه أسوأ بكثير مما يرغب فيه الكوزموبوليتاني)
يكون إطار العمل المؤسسي في المجتمع الدولي التعددي pluralist) international society موجها نحو حرية الدول والحفاظ على النظام في ما بينها، ويتم الامتثال للقواعد لأنها، مثلها مثل قواعد السير على الطرقات، لا يكلف الالتزام بها شيئا نسبيا، لكن الفوائد الجماعية الناجمة تكون مائلة. وتعد القواعد المفصلة التي تعني بامتيازات السفراء والدبلوماسيين مثالا جيدا
على ذلك، فقبول أن يكون ممثلو الدولة غير خاضعين لقوانين الدولة المضيفة الهم هو مبدا قوبل بالامتثال الواسع طوال قرون عدة. وهذه حالة واحدة من بين عديد من الحالات التي أصبحت فيها قواعد التعايش المشترك تعلو فوق ممارسات الدولة، وتقوم القواعد والمعايير التعددية «بإعطاء هيكل للتعايش المشترك، مبني على الاعتراف المتبادل بالدول بوصفها عضوا في المجتمع مستقلة وذات حقوق متساوية، وهذا الهيكل مبنى ايضا على الاعتماد الأكيد على الحفاظ على النفس والمساعدة الذاتية، وهو مبني كذلك على حرية الدول في تعزيز أهدافها الخاصة والتي تكون مرهونة بحد أدنى من القيود» (99). ومن أجل استيعاب النظام التعددي بشكل كامل، ينبغي لنا أن نتذكر فحسب أن المدرسة الإنكليزية كانت ترى أن القوى العظمى، والحرب المحدودة، وتوازن القوى هي مؤسساته. ومن خلال هذا المصطلح، كان بل وزملاؤه يشيرون إلى الممارسات التي ساعدت في الحفاظ على النظام العام، وهي ممارسات تطورت عبر قرون عدة. فعلى سبيل المثال، إذا كان توازن القوى ضروريا للحفاظ على حرية الدول (وهي محاجة اشتركت فيها المدرسة الإنكليزية مع الواقعيين الكلاسيكيين، انظر الفصل الثالث)، فينبغي إذا لقوى الوضع الراهن (status quo powers) أن تكون مستعدة للتدخل بقوة لكبح القوة المتنامية للدولة التي هددت التوازن العام.
إلى أي حد تعة القواعد والمؤسسات التعددية ملائمة لعالمنا المعاصر؟ لقد أثار هذا السؤال ردود فعل شديدة الاختلاف في المدرسة الإنكليزية. فمن ناحية، يعتقد التقليديون أمثال روبرت جاكسون (Robert Jackson) بأن المجتمع الدولي التعددي هو تكييف مؤسسي عملي على مبدأ التنوع البشري؛ أي إن الميزة العظمى لمجتمع ما، وفقا لمعايير السيادة وعدم التدخل، هي أنه يرجع المثل هذا الترتيب أن يحقق القيمة المعنوية للحرية (19)
لقد كان نقاد التعددية يتهمونها بأنها لا تفي بوعودها. وتشير استمرارية الحروب بين الدول طوال القرن العشرين إلى أن معايير السيادة لم تكن كافية الردع الدول ذات الأطماع، علاوة على ذلك، فقد كانت قاعدة عدم التدخل، والتي كانت أساسية بالنسبة إلى التعددية، تخول النخب الدولتية أن سيء معاملة مواطنيها بعنف من خلال حصانتها. ولهذه الأسباب، فقد كان بل وفنسنت متوجهين نحو تصور مختلف عن المجتمع الدولي تقوم فيه القيم الشاملة للجميع حقوق الإنسان بوضع حدود على ممارسات سيادة الدولة. والفكر الموجه هنا، وهو فكر يلخصه مصطلح التضامنية (solidarism)، هو أن الروابط التي تربط الأفراد بمجتمع الجنس البشري الكبير هي أعمق من القواعد والمؤسسات التعددية التي تفرق بينهم
ما الذي ينطوي عليه المجتمع الدولي التضامني solidarist international) (society؟ لقد عرفه بل في الأصل بأنه التطبيق الجماعي للقواعد الدولية وكذلك وصاية حقوق الإنسان، وهي تختلف عن الكوزموبوليتانية في أن الثانية لا تكترث بالترتيبات المؤسسية لتحقيق القيم العالمية. ويعتقد بعض الكوزموبوليتانيين بأن الحكومة العالمية هي الأفضل، وبأن الآخرين يرغبون في التخلي عن التسلسلات الهرمية الرسمية كليا. وعلى النقيض من ذلك، عذ التضامنية امتدادا للمجتمع الدولي وليست تحولا له، وهي كالتعددية في كونها تعرف من خلال القيم والمؤسسات المشتركة، وفي كونها متماسكة في ما بينها من خلال قواعد قانونية ملزمة. إلا أنها تختلف عن التعددية من حيث محتوى القيم ومن حيث طبيعة القواعد والمؤسسات. أما من حيث القيم، فإن الأفراد في المجتمع الدولي التضامني يستحقون الحقوق الأساسية. وهذا بدوره يتطلب تعديل معايير السيادة بحيث يكون هنالك واجب على أعضاء المجتمع الدولي بالتدخل مستخدمين القوة من أجل حماية تلك الحقوق. وعند هذه النقطة، كان بل مترددا بشأن ما يتضمنه مصطلح التضامنية. فقد اعتقد بخطورة أن يهدد تطبيق مبادي حقوق الإنسان بالتقليل من شأن النظام العام الدولي. وإلى أن يصبح هناك إجماع أكبر على المعنى الذي ينسجم مع المطالبات الحقوقية وعلى الأولوية التي تتفق معها، فإن محاولات تطبيقها - وهو ما وصفه بل بأنه اتضامن عولمي غير ناضجه (' premature global solidarism*) - ستؤدي إلى ضرر أكبر من نفعها.
الكتاب المنتقي الكتاب المنتقي کتاب آندرو هوريل بعنوان حول النظام العام العولي:
القوة، والقيم، وتشكيل المجتمع الدولي) يرى كثير من منظري المدرسة الإنكليزية أن كتاب هيدلي بل المجتمع الفوضوي (The Anarchical Society) هو التعبير الكلاسيكي عن وجهة نظرهم، وهم على حق في رؤيتهم تلك. فكتاب بل مصوغ ببراعة دقيقة، وهو يزود القارئ بصورة عن المجتمع الدولي ويطرح في الوقت نفسه أسئلة جوهرية عن كيفية تنظيم المنظومة السياسية العالمية، وما إذا كان يمكن الدفاع أخلاقيا عن هذا الترتيب.
وقد كتب آندرو هوريل، وهو تلميذ سابق لئل، کتاب المجتمع الفوضوي لعصرنا الحالي. فهو يعيد تقديم أفضل ما في كتابات المدرسة الإنكليزية الكلاسيكية وفي الوقت نفسه يحدثه ليواكب أوائل القرن الحادي والعشرين. فكتاب المجتمع الفوضوي كان قد كتب قبل الحرب الباردة الثانية، وطبعا قبل هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر على الولايات المتحدة الأميركية، والحرب العالمية على الإرهاب التي تلت تلك الهجمات.
أما الجزء الافتاحي في كتاب هوريل فيعيد تأويل ما نفهمه من مصطلح النظام العام (order) العالمي، واستنادا إلى أفكار بل، يحاج هوريل بان النظام العام يحدد من خلال السلوك الموجه نحو تحقيق هدف. وتلخص الفقرة التالية هذه الحجة بعناية:
القد ركزت دراسة بل الكلاسيكية للنظام العام في السياسة العالمية على الإطار المشترك للقواعد والمؤسسات التي تطورت ضمن مجتمع الدول الفوضوي. وقد كان يتميز بالفوضى من حيث إنه لم تكن ثمة قوة مشتركة
طبق القانون او تضمن التعاون، لكنه كان مجتمعا من حيث إن الدول كانت تدرك القواعد والقيم المشتركة، وتتعاون في عمل المؤسسات المشتركة وترى أن تحقيق المصالح المشتركة يتم من خلال احترام هذه القواعد والعمل ضمن هذه المؤسسات. إلا أنه كان بالتأكيد مجتمعا ضعيفا وهشا، كانت فيه الأهداف الثلاثة الأساسية للحياة الاجتماعية الدولية مقتصرة على الحفاظ على مجتمع الدول ذاته، وعلى المحافظة على استقلال الدول المنفردة، وعلى ضبط الحروب وأعمال العنف - ولكن ليس القضاء عليها - في ما بين الدول والمجتمعات (7)
ويستعرض هوريل بعدها ثلاثة أطر تحليلية متنافسة لفهم ما هو النظام العام وكيف يتحقق. وبالنسبة إلى الفئات التقليدية المتمثلة بالتعددية والتضامنية، يأخذ هوريل إطار الحوكمة المركبة (complex govemance). أما طريقة التفكير هذه في النظام فإنها تتحدى النموذج بين الدولي inter
- state) (model على أصعدة عدة. فمن حيث القانون الدولي، نرى الجهات الفاعلة من غير الدول وهي تشترك في وضع القوانين وفي أساليب تطبيقها. ونري القوة الخاصة (private power) - أو قوة الشبكات (network power - وهي
مارس بطرائق تميز بعض الدول والطبقات الاجتماعية بينما تهمش دولا وطبقات اجتماعية أخرى. وإلى جانب هذه الخصائص المستحدثة، تبقى هناك اسئلة مهمة تتعلق بالسلطة الدائمة للدولة، ويتعلق الشعوب حول العالم بالاختلافات الثقافية، وبشرعية المؤسسات العامة التي تعتمد عليها.
ينظر الجزء الأوسط من الكتاب في قضايا وتحديات عدة معاصرة، من بينها القومية، وحقوق الإنسان، والأمن، والاقتصاد السياسي، والبيئة. ويتم النظر إلى كل واحدة منها من حيث المعايير التحليلية الثلاثة وهي التعددية، والتضامنية، والنظام العام العولمي (global order). فعلى سبيل المثال، يقوم الفصل المتعلق بالاقتصاد السياسي بتفحص التفاعل المركب للأسواق في النظام بين الدولي (التعددية)، وإلى أي مدى يشكل الإجماع على القيم الليبرالية أساشا للنظام الاقتصادي العولمي، وما إذا كان هذا يخضع لتحة من القوى الناشئة (التضامنية)، فضلا عن التفاعل المركب للجهات الفاعلة العامة والخاصة، من الدول ومن غير الدول، في إدارة الأسواق العالمية نموذج الحوكمة المركبة).
ومن القواسم المشتركة مع كتاب المجتمع الفوضوي، أن هوريل يختتم كتابه بطرحه لا بديلة للوصول إلى النظام العام العولمي. وأحد السيناريوهات المطروحة هو ذاك الذي تصبح فيه الأقاليم مجموعة دول متجاورة هي الجهات الفاعلة المسيطرة، ويزعم مؤيدو هذا المنظور بأن الأقاليم تزودنا بالميزان اللازم لازدهار الرأسمالية؛ فهي أيضا قوية إلى ح يجعلها قادرة على ضبط الأسواق بما يضمن درجة من الاستقرار والإنصاف.
أما إذا لم تكن الإقليمية مقنعة، فماذا عن الفكرة العصرية في «ولادة الإمبراطورية من جديده؟ (8). وفي فقرة لافتة، يقتبس هوريل من المفكر والمسؤول الرسمي الفرنسي ألكسندر كوجيف (Alexandr Kojeve) الذي
جادل في عام 1945 بأن الدول القومية، والتي كانت لا تزال قوية في القرن التاسع عشر، قد باتت تفقد صفتها كواقع سياسي». وعوضا عن ذلك، لا يمكن الدولة أن تكون دولة «بالفعل، إلا إذا كانت إمبراطورية (49). وعلى الرغم من أن هذه الرؤية لاقت استحسانا عند المحافظين الجدد خلال ولايتي جورج دبليو بوش، إلا أن مدى إمكان اعتبار الدول، وحتى الولايات المتحدة الأميركية، إمبراطورية بالمعنى التقليدي، هو أمر مختلف
عليه، ويبقى مهئا بالنسبة إلى كتاب المدرسة الإنكليزية أمثال هوريل أن نظل منفتحين على المسارات البديلة التي تقودنا إلى النظام العولمي. وبناء
عليه، فإن المجتمع الدولي، إلى الآن، قد وجد ليبقى. والتحدي هو في ترسيخ الشرعية وتوسيع القيم المشتركة في حقبة لا تكون فيها التعددية قابلة للتطبيق إمبيريقيا ومعياريا
لقد كان الحوار المعياري ضمن المدرسة الإنكليزية، وطوال معظم حقبة ما بعد الحرب الباردة، منشقا ضمن انقسام حول محوري التعددي - التضامني. وعلى أحد جوانب الانقسام، قام جاکسون (50) بإعطاء برهان قوي على تأييده للمعايير التعددية، بينما قام ويلر (2) بإعطاء حجة مقنعة في الدفاع عن التصور التضامني للحقوق والواجبات. ويبدو هذا الخلاف من وجهة النظر الحالية ضيقا نوعا ما، وفي عالمنا الذي أصبح مؤلما، أصبحت ديناميات الحوكمة تتخطى تلك الفئات التقليدية الخاصة بالمدرسة الإنكليزية. وتبدو التعددية مستندة إلى نموذج بين دولي للمجتمع الدولي لا يرتبط بتدفق البضائع والخدمات عبر الدول، ولا حتى بالهويات المشتركة. وتركز التضامنية في كثير من الأحيان على تطبيق القيم الليبرالية عبر الوطنية من خلال المؤسسات الحكومية الدولية - inter) (governmental institutions، وبذلك فإنها تلغي الشبكات المكثفة المكونة من الجهات الفاعلة والمؤسسات التي تغلغلت في المجتمع الدولي. وهذا الفهم الثالث للمجتمع الدولي يتلخص بعناية بتسمية الحوكمة المركبة complex) (governance والذي ناقشه هوريل في الكتاب المتقي
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)