المنشورات

المجتمع الدولي: بين المنظومة والمجتمع العالمي

لاحظ بل ووابت أن التحليل المتطور للسياسة العالمية يتطلب محتوي منظوماتيا، إلا أن مناقشتهما للديناميات الهو?زية في المنظومة (system) كانت تفتقد إلى التناسق والإقناع. ومن وجهة نظري، أرى أنه يجب تعديل هذا العنصر الفعال في تنظير المدرسة الإنكليزية للسياسة العالمية بدلا من إهماله كما طالب بعضهم). وقد عرف بل المنظومة بأنها ميدان عام يوجد فيه تفاعل بين المجتمعات ولكن ليس فيه قواعد أو مؤسسات مشتركة. ومن أجل أن تأتي منظومة ما إلى الوجود، ينبغي أن يكون هنالك كثافة كافية من التفاعلات لتجعل سلوك كل واحد منها عنصرا ضروريا في حسابات الأخرى» (1).
يؤدي مفهوم المنظومة ثلاثة أدوار مهمة في نظرية المدرسة الإنكليزية في السياسة الدولية. أولا، وكما نوقش أعلاه، فإن التمييز بين المنظومة والمجتمع (
system - society distinction) يعطي مؤشرا معياريا يمكننا من التطرق إلى السؤال عن مدى امتداد المجتمع الدولي). ثانيا، من خلال النظر إلى تكوين المنظومة، يمكن أن نستشف وجود آيات شكل المجتمعات الدولية والعالمية وتحت عليها. ثالثا، يمكن استخدام فئة المنظومة بطريقة مفيدة کي تلخص القوى المادية الأساسية في السياسة العالمية؛ كندفقات المعلومات والتجارة، ومستويات القدرة التدميرية، وقدرات الجهات الفاعلة في التأثير في بيتها. واسمحوا لي أن أدرس كل واحدة منها على حدة.
هنالك كثير من القواسم المشتركة بين هذه الرؤية للمنظومة الدولية (international system) - أو بالتعبير الأدق المنظومة بين الدولية inter
- state) (system - واستخدام نظرية المنظومات لنظرية الأنساق] (systems theory) في الفكر الواقعي، سواء الفكر الواقعي الكلاسيكي الفصل الثالث)، أو البنيوي الفصل الرابع). وما يميزهما هو أن المدرسة الإنكليزية كانت مهتمة بالمنظمة وذلك في الأساس نظرا إلى ما تخبرنا به المنظومة عن تاريخ المجتمع الدولي. وإذا ما اخذنا رؤية بل التطويرية في العلاقة بين المنظومة والمجتمع، يتضح عندئذ أن وجود المجتمع يفترض مسبقا وجود منظومة. ويمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى فتح سلسلة من النقاشات المثيرة التي تتعلق بمتى تصبح المنظومة مجتمعا، وما هو مستوى ونوع التفاعلات المطلوبين من أجل أن تعامل الوحدات بعضها بعضا على أنها غايات في ذاتها، وتحت أي الظروف يمكن المجتمع أن يعود إلى حالته السابقة بوصفه منظومة منتظمة تؤثر الأفعال فيها بعضها في بعضها الآخر، ولكن ليس فيها اعتراف أو قبول متبادلان الإطار عمل مشترك من القواعد والمؤسسات. وفي كتابات اللجنة البريطانية حول التحرر من الاستعمار، يتم التركيز على اشتمال العالم غير الغربي تدريجا في مجتمع عولمي من الدول ذات السيادة. ومن الضروري أيضا أن ندرك أن التفاعلات المنظوماتية تبقى ترتيبا مستقبليا محتملا إذا لم تعد الجهات الفاعلة المسيطرة في المجتمع الدولي تمتثل للقواعد، وتصرفت بطرائق تضعف الأمن الدولي. أما الحالة الافتراضية التي تتمثل في قيام مواجهة نووية عظمى، فقد تتحول إلى حقيقة فحسب في حال تصرفت القوى العظمى بطرائق كارثية على الأمن الدولي. ونتيجة لذلك، ينهار المجتمع مجددا في المنظومة
إن فكرة منظومة الدول مفيدة أيضا في التعرف إلى الحدود القائمة بين الدول الأعضاء وتلك الدول التي تجد نفسها منبوذة من المجتمع الدولي. وتجد الدول المنبوذة والدول الفاشلة نفسها في الخبايا المعتمة لمنظومة الدول. ولا يعني هذا أن الدول المنبوذة تقع كليا خارج إطار القواعد والمؤسسات، وإنما يعني فقط أن أفعالها عرضة لتمحيص أكبر بكثير. ويمكن أن يكون لدى الجهات الفاعلة في منظومة الدول تفاعلات منظمة مع أعضاء المجتمع الدولي - حتى أنها قد تمتثل للمعاهدات والقواعد أخرى - لكن هذه التفاعلات تبقى منظومانية إلا إذا منحت الأطراف بعضها بعضا احتراما متبادلا واشتمالا ضمن المجتمع الدولي
إن التفكير في إطار المنظومة لنظرية الظما نبهنا أيضا إلى الضغط إلى أسفل الذي يسيبه توزيع القوى المادية. ويمكننا أن نجد في عمل بل حادثتين مهمتين يؤثر فيهما النظام في المجتمع. أولا، يلاحظ بل كيف أن الحرب العامة هي المحدد أساس للشكل الذي تتخذه المنظومة في أي وقت من الأوقات (99). وحتى في الحرب الباردة، حين لم يطلق العنان للترسانات النووية الفخمة الخاصة بدول حلفي الناتو ووارسو، فقد كان وجود هذه الأسلحة مقيدا حاسما لا يتيح المجال أمام القوتين العظميين القيام بمناورات عسكرية. ولو لم يكن لدى الاتحاد السوفياتي آنذاك سوى الأسلحة التقليدية، فهل كانت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها سيتحملون او قرع» دول أوروبا الوسطى تحت نطاق النفوذ السوفياتي؟ وفي أمر ذي صلة وثيقة بظاهرة الحرب العامة والقدرات التدميرية في كونها عوامل محددة أساسية للمنظومة، يمكن أن نجد في المدرسة الإنكليزية وجهة النظر التي تقول إن هناك منطق توازن في منظومة الدول. وتحت ظروف الفوضى، حيث لا توجد قوة وحيدة فوق الجميع جزد الوحدات من السلاح وتطبق القواعد، يكون من مصلحة جميع الدول أن تحول دون ظهور قوة مسيطرة أو مهيمنة (94). أما أولئك الذين يأخذون توازن القوى على محمل الجد، فيشيرون إلى حوادث متكررة في التاريخ الحديث تم فيها صد الدول التي لديها أطماع في الهيمنة، وذلك من خلال تحالف من القوى يسعى إلى منع حدوث تغيير في المبدأ التنظيمي (الترتيبي للمنظومة. وحتى إن كان هذا التوجه يتطلب من الدول أن تصرف کي تدعم توازن القوى، إلا أنه يمكن تقديم حجة مقنعة بأن بقاء منظومة الدول يتطلب سلوكا من الموازنة نقوم به الدول، بحيث يصبح خاصية متأصلة في المنظومة. ويقارن هذا الأمر بإنشاء توازن للقوى في المجتمع الدولي، وهو ليس عملية آلية، وإنما هو الناتج الذي ينجم عن سياسة مقصودة تسعى إلى تحقيق استراتيجية للحفاظ على الذات في غياب حكومة عالمية (97).
إن النظر من خلال العدسة المنظوماتية يظهر لنا تنظيم وترتيب الوحدات المكونة للمنظومة؛ وليس هذا فحسب، وإنما يوجه انتباهنا أيضا إلى مستويات التكنولوجيا، وتوزيع القوى المادية، وقدرة الوحدات على التفاعل. وتخبرنا هذه العوامل مجتمعة معا الكثير عن قدرة الوحدات في التصرف وتخبرنا بشكل خاص عن نطاقها، (هل تعد الجهات الفاعلة محلية، أم إقليمية، أم عالمية؟). ويمكن النظر إلى مستويات التكنولوجيا على أنها صفات مميزة للوحدات، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك هو إن كان لدى الدولة تكنولوجيا الأسلحة النووية أم لا. وعلى الرغم من ذلك، فمن المجدي أيضا التفكير بالتكنولوجيا من الناحية المنظوماتية، ولا سيما في مجالات الاتصال، والنقل، ومستويات القدرة التدميرية. قارن، على سبيل المثال، منظومة دول تكون فيها وسيلة النقل السائدة في العربة التي يقودها حصان، مقابل منظومة يمكن فيها نقل الأفراد والبضائع من طريق الطائرات الأسرع من الصوت، والقطارات عالية السرعة وسفن بحجم ملاعب كرة قدم عديدة موضوعة الواحدة منها تلو الأخرى، فمع انتشار هذه الوسائل التكنولوجية، تتغير نوعية وخصائص ما يمكن أن يطلق عليه اسم القدرة التفاعلية (interaction capacity) للمنظومة ككل (10)
ما الذي يجعل هذه الصفات المميزة منظوماتية» (systemic)؟ إنها منظوماتية من حيث إنها غالبا ما تقع خارج الترتيب المؤسسي الذي طورته الدول لضبط النظام العام وتعزيز العدالة (justice). وللتوضيح، خذ على سبيل المثال مكانة بريطانيا في العالم ابتداء من أوائل الأربعينيات إلى بداية الحرب الباردة؛ فقد كانت بريطانيا خلال الحرب واحدة من القوى الثلاث الكبيرة العظمى التي كانت المصمم لنظام ما بعد الحرب. وبحلول عام 1948، تحولت الدولة إلى متلقية للسياسات على الساحة الدولية وليست صانعة لها، على الرغم من حقيقة أن شبكتها الدبلوماسية بقيت عالمية، وبقيت لغتها مسيطرة، وبقيت قيمها متفوقة، ولم تكن أي من ميزات القوى الناعمة تلك كافية لإعداد المنظومة في ظل تعددية قطبية، ومن دون أن نقصد الإشارة إلى كثرة المحددات، إلا أنه من المفيد حت المنظومة على إعطاء خصائص لتلك العوامل التي تبدو وكأنها راسخة من وجهة نظر الجهات الفاعلة، كموقعها الجغرافي، وقاعدتها السكانية، وقدرتها التكنولوجية / الاقتصادية. وبالطبع، فإن هذه العوامل ليست عديمة التغير على المدى البعيد، حتى المسافة الجغرافية يمكن أن تتغير مع الوقت، وذلك كما وضحت العولمة في العقود الأخيرة.
أما العنصر الثالث في ثلاثية المدرسة الإنكليزية فهو المجتمع العالمي (world society)، وهذا المفهوم مواز للمجتمع الدولي، إلا أن هنالك فارقا رئيسا واحدا، وهو أنه يشير إلى المصالح والقيم المشتركة التي تربط جميع أجزاء الموطن البشري المشترك (human community) (49). إن تعريف فنسنت للمجتمع العالمي يشبه اللائحة التي تشتمل على كل تلك الكيانات التي عادة ما تقع مخاوفها المعنوية خارج المجتمع الدولي: كمطالب الأفراد بحقوق الإنسان، ومطالب السكان الأصليين بالاستقلالية والحكم الذاتي، وحاجة المؤسسات عبر الوطنية إلى اختراق قشرة الدول ذات السيادة، ومطلب العدالة بأثر رجعي من أولئك الذين يتحدثون بالنيابة عن القوى الاستعمارية السابقة. ليس هنالك شك في أن حقوق الإنسان تقع في صميم فهم المدرسة الإنكليزية الكلاسيكية للمجتمع العالمي، وتقدم دراسة الحالة، التي نستعرضها لاحقا، تصورا عن تطور حقوق الإنسان. أما الآن، فمن الضروري أن نعطي تصورا موجزا عن كيفية قيام الثقافة الكوزموبوليتانية الخاصة بالحداثة الأخيرة المتأخرة بتشكيل ترتيب مؤسسي جديد في المجتمع العالمي
ومن المؤشرات على نشوء مجتمع عالمي ظهور القانون الإنساني الدولي. وقد كان ميثاق الأمم المتحدة يمثل مرحلة مهمة في هذا التطور، مشيرا بذلك إلى التفاعل الفعال بين المجال بين الدولي (inter
- state domain) ومجال المجتمع العالمي (world society domain). وقد أعطيت العدالة، والحقوق والحريات الأساسية، جميعها أهمية بارزة في الميثاق، وتاليا فقد تمت إضافة المعايير الكونية الجامعة المتعلقة بالمساواة العرقية، والحظر المفروض على التعذيب، والحق في التطوير (إضافة إلى غيرها). وقد أدت التغييرات المختلفة التي
طرات على قانون الجنايات الدولي إلى الحد بدرجة كبيرة من الظروف التي يمكن زعماء الدول فيها أن يطالبوا بحصانة ضد الجرائم الإنسانية التي ارتكبت أثناء توليهم إدارة الدولة. كذلك، فإن نظام روما لمحكمة الجنايات الدولية (The Rome Statute of the International Criminal Court) يضيف نطاقا إضافيا إلى السلطات القضائية الدولية يمكن فيه تحميل المسؤولية إلى وكلاء (ممثلي] الدول على جرائم الحرب المزعومة. وقد جادلت إحدى الهيئات في المدرسة الإنكليزية بأننا إذا أخذنا هذه العناصر کوحدة واحدة، يصبح في الإمكان تأويلها على أنها تتضمن تحولا واضحا من كونها مجتمعا دوليا بين دولي) لتصبح مجتمعا عالميا» (50). إلا أن مثل هذا الزعم لا يراعي مدى اعتماد تطور مؤسسات المجتمع العالمي على الدعم الفكري والمادي للدول الرئيسة في
المجتمع الدولي
إن لمفهوم المجتمع العالمي لا يقتصر فحسب على الأهمية المتزايدة اللقيم عبر الوطنية المتأصلة في المفاهيم الليبرالية عن الحقوق والعدالة، إذ يمكن للهويات عبر القومية أن تكون معتمدة على أفكار تتعلق بالكراهية والتعصب، ومن ضمن مجموعة كبيرة من استفتاءات الرأي العام العالمي، نجد أن أقوى الولاءات السائدة في الولاءات للعقائد الدينية وليس للدولة. وهذا يولد أيديولوجيات تعويضية في التحرر تسعى إلى تحقيق التوازن أو التعادل من جانب المسيحيين الأصوليين، ويولد حربا مقدسة من جانب المسلمين المتطرفين، ويمكن النظر إلى مثل هذه الديناميات في فكر المدرسة الإنكليزية من خلال سياق «الثورات السابقة ضد السيطرة الغربية التي كانت ظاهرة أثناء الصراع للتحرر من الاستعمار. 











مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید