المنشورات

دراسة حالة: حرب على الإرهاب أم إمبريالية القرن الحادي والعشرين؟

خلال ثمانية عشر شهرا من الحوادث المروعة للحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، اشتركت الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ومجموعة متنوعة من الشركاء الأصغر في غزو عسکري مكثف للعراق. وعلى الرغم من حقيقة أن العراق لم تكن له علاقة يمكن إثباتها بهجمات أيلول/ سبتمبر، فقد قامت إدارة بوش في تبريرها للحرب والذي أعلنته على الملا، بربط غزو العراق بما سمته لحربها على الإرهاب»، فكيف يمكن المقاربة الجدلية للتفسير المرتبطة بالماركسية والنظرية النقدية أن تساعدنا في إعطاء تفسير منطقي لهذا التحول الواضح نحو الإمبريالية المكشوفة؟ | او من خلال هذا المنظور، فإن أي تفسير ممرض يحتاج ليس إلى إدماج الهياكل التاريخية للرأسمالية العولمية (بجوانبها الاقتصادية، والسياسية، والثقافية) وحسب، بل يحتاج أيضا إلى الاشتمال على ايديولوجيات الوكلاء البشريين وأفعال هؤلاء الوكلاء الموجودين في هذه الهياكل. والتصور التفسيري متعدد الطبقات الذي ينتج عن هذا المنظور يشبه كعكة ديالكتيكية متعددة الطبقات تحاول تفسير ما يلي: (1) الكيفية التي تقوم من خلالها هياكل الحداثة الرأسمالية بخلق إمكان لأنواع معينة من السياسة الدولية؛ (2) والكيفية التي تحققت من خلالها تلك الإمكانات في الأشكال المحددة للنظام العالمي الرأسمالي في القرن العشرين، (3) والعلاقات الرئيسية بين الرأسمالية، والفوردية (Fordism)، والجغرافيا السياسية للنفط، ضمن تلك الهياكل التاريخية؛ (4) وأيديولوجيات الأمن الاقتصادي، التي أعطت الحياة لصانعي السياسة الأميركيين منذ الحرب الباردة حتى إدارة بوش. ولن يكون في استطاعتي في هذا السياق إلا أن أرسم تصميما اوليا للخطوط العريضة لما يمكن أن يبدو عليه هذا النوع من التفسيرات. وفي أي حال، سيكون هذا كافيا لإظهار كيف أن هذا النوع من التحليل يختلف عن المقاربات الأخرى لدراسة السياسة العالمية تذكر بأنه في صميم فكرة الرأسمالية، هنالك علاقة طبقية بين أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج وأولئك الذين يجب أن يبيعوا قوتهم في العمل لكي يتمكنوا من الوصول إلى وسائل الإنتاج تلك. ومن أكثر رؤي مارکس أهمية هي تلك التي ترى أن هذه العلاقة الطبقية تقتضي ضما وجود مجموعة أوسع من العلاقات الاجتماعية، والتي هي مجموعة من الهياكل الاجتماعية التي تجعل هذا النوع من العلاقات ممكنا. وقد اشتمل أحد هذه الهياكل التمكينية على تشكيل وسائل اجتماعية للإنتاج الملكية الخاصة، وتاليا، فقد اقتضت ضمنا خصخصة الحياة الاقتصادية ونزع الصبغة السياسية عنها (تذگر، من خلال المقارنة، كيف كانت الحياة الاقتصادية والحياة السياسية مذموجتين في ظل الإقطاعية). وقد اشتمل خلق الاقتصاد المخصخم وغير المسيس على استثناء الشؤون السياسية العامة من الاقتصاد، وربطها بمجال منفصل من المجتمع، وهو مجال تعودنا على ربطه بالدولة الحديثة. وتفهم الدول السياسية التي اصبحت جزءا لا يتجزا من الحداثة الرأسمالية، على أنها ذات سيادة على أراضيها الخاصة بها، ومن ثم فهي قادرة على أن تسن التشريعات والتنظيمات للشؤون المحلية». مع ذلك، فإن أنشطة الجهات الفاعلة الاقتصادية الخاصة تفيض باستمرار خارج تلك الحدود، والسبب ليس بذي شان قليل وهو ديناميات الراسمالية لكونها منظومة للتراكم من دون حدود، مدفوعة بضرورات المنافسة السوقية القاسية. عندئذ، فإن التضاريس الهيكلية للحداثة الرأسمالية تتضمن منظومة من السلطات السياسية محدودة جغرافيا [إقليميا، وفي الوقت نفسه، تتضمن تدفقات للنشاط الاقتصادي، لكنها غير محدودة جغرافيا بالطريقة نفسها. ويمثل هذا الهيكل حالة من الإمكان للإمبريالية - ممارسة الدول لقوة الإكراه في خدمة التراكم الرأسمالي - إضافة إلى تنظم القوة الهيمنية العولمية التي تكون
فيها القوة الإكراهية أقل وضوحا، أما السياسة الأيديولوجية المستندة إلى الموافقة فتحتل موقع الصدارة. 

القوة الإنتاجية للراسمالية الفوردية (2)
إن هياكل الحداثة الرأسمالية هذه ليست ذات استدامة ذاتية تلقائية، بل يتم باستمرار إنتاجها وإعادة إنتاجها وتحديها أو تغييرها من الوكلاء البشريين في ظل ظروف تاريخية خاصة. وهكذا، فإن هذه الهياكل قد تتخذ اشكالا مميزة خلال حقب تاريخية يمكن تحديدها. فخلال القرن العشرين، كانت الرأسمالية الصناعية الفوردية في الولايات المتحدة الأميركية تحدد المعايير العولمية للحركية لمذهب الديناميكية والإنتاجية (وهذا في حد ذاته لم يكن مجرد معطيات تاريخية، بل نتيجة صراعات سياسية طويلة ومعقدة) (9). ويعد الحرب العالمية الثانية، تشكل تحالف عابر للقوميات، متمرکز على رأس المال الصناعي الفوردي، وقام بالترويج لمشروع نظام عالمي هيمني ذي رؤية لاقتصاد عولمي مبني على التجارة الحرة، ولكن يكون مديرو الدولة فيه قادرين على توظيف سياسة الاقتصاد الكلي للمحافظة على استمرار النشاط الاقتصادي ومستويات الاستهلاك، وحيث يتم فيه تحمل النقابات والاتحادات العمالية، أو حتى أنه قد يتم تشجيعها بوصفها وسيطة للقبول الصناعي، والتي تضمن تعاون العمال ضمن الإطار الفوردي لصناعة الإنتاجية الضخمة (mass
- production) مقابل أجور حقيقية تزداد بزيادة الإنتاجية. وفي الولايات المتحدة الأميركية، وفي أنحاء معظم العالم الرأسمالي الصناعي، تم إدماج العمالة في تحالف هيمني سعى إلى
(0) الفوردية هي فكرة أطلقها الماركي الإيطالي غرامشي وهو في السجن الفاشي، وهي مشتقة من اسم هنري فورد مؤسس شركة فورد لإنتاج السيارات. وقد أطلقها غرامشي للتدليل على الاستغلالية الرأسمالية وتحويل المجتمع إلى مستهلك في كل شيء. والفوردية نصف العمليات الفنية التي توصل إليها فورد في إنتاج السيارات والأهداف الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها. فقد بني فورد سياسته على أساس النموذج تي (T Model) الذي اعتمد على التخصص التفصيلي والإنتاج السريع بالكميات الكبيرة ما خفض تكلفة السيارة ومن الشركة من دفع رواتب عالية للعمال كي يستطيعوا ان يحصلوا على سياراتهم الخاصة ويشتروا السلع الأخرى التي يحتاجونها، أي تحويل العمال إلى متهلكين فاعلين، وبهذا يتحرك الاقتصاد وتنمو الرأسمالية المترجمة إعادة بناء الاقتصاد العالمي طبقا لإطار هذا النموذج الشركاتي الليبرالي» (2) (' corporate - liberal model). ولقد قامت هذه المجموعة من الهياكل التاريخية بتأمين درجة من الاستقرار السياسي، وأسست تطابقا تقريبا بين الإنتاجية والاستهلاكية الضخمتين، وتاليا فقد أفسحت هذه الهياكل المجال لحقبة من النمو الاقتصادي والتراكم الرأسمالي غير المسبوقين، كما أسست ثقافة في الاستهلاكية الضخمة (mass consumerism)، وخصوصا في الشمال العولمي الثري. وقد مارس الاقتصاد السياسي للرأسمالية الفوردية دورا مركزيا في صراعات الأنظمة العالمية العظمى في القرن العشرين، فيمكن القول جدلا إن تلك القوى الإنتاجية غير المسبوقة للرأسمالية الفوردية هي التي مكنت من الانتصار الجغرافي - السياسي للحلفاء على الراسمالية التي تتسم بالاستبدادية وبالاكتفاء الذاتي للاقتصاد الوطني والتي تنتمي إلى قوي المحور، ما أدى بالنتيجة إلى انتصار الغرب المعاد توحيده في وجه الكتلة السوفياتية إبان الحرب الباردة.
ولم تعتمد الرأسمالية الفوردية فحسب على العمالة الصناعية القانعة والراضية سياسيا وعلى المستويات التي يمكن التنبؤ بها من الطلب الاستهلاكي على منتجات صناعات الإنتاجية الضخمة؛ لكنها احتاجت ايضا إلى الوقود وزيوت التشحيم لتشغيل الباتها، وإلى المواد الخام لصناعاتها البتروكيماوية المنتشرة، وإلى مدخلات لزراعتها التي اعتمدت بشكل متزايد على الآليات وعلى الاستخدام المكلف للمواد الكيماوية. باختصار، لم يكن هنالك غني عن النفط بالنسبة إلى نموذج الرأسمالية الفوردية المستهلكة للطاقة بكثافة، في صميم النظام العالمي للقرن العشرين. وعلى الرغم من أن صناعة النفط الأميركية كانت قادرة على أن توفر من الإنتاج المحلي الجزء الأكبر من النفط الذي استهلكه الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية فقد بدا واضحا في نهاية الحرب أن احتياطيات الولايات المتحدة من النفط لم تكن كافية لدعم إعادة بناء الاقتصاد العالمي الرأسمالي أو نموه خلال العقود التالية. الجغرافيا السياسية والفوردية
إن الاستراتيجية العولمية للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التي شكلت بمنطق الأمن الاقتصادي»، لم يكن هدفها مجرد
احتواء الاتحاد السوفياتي، بل هدفت ايضا إلى خلق عالم يرب بنمو الرأسمالية المتمركزة حول الولايات المتحدة (11). وقد كان لدى مخططي الاستراتيجية الأميركية رؤية صريحة لعلاقة تكافلية بين حيوية وصلابة العالم الحرة الرأسمالي وقوة الولايات المتحدة العسكرية المنتشرة عالميا. أما التركة الاستراتيجية للوثيقة 68 لمجلس الأمن القومي (68 - NSC
التي صدرت في عام 1950 واعيدت طباعتها في عام 1993) فقد قادت الولايات المتحدة الأميركية إلى استراتيجية كبرى في الاحتواء العسكري العولمي تبررها مناهضة الشيوعية والطرائق الاجتماعية في فهم الذات لدى الأميركيين في كونهم المدافعين عن العالم الحر». وقد ارتأت تلك الوثيقة بصراحة اقتصادا سياسيا يتكون من كينزية عسكرية (military Keynesianism)
الفكر المنسوب إلى جون مينارد كينز (John Maynard Keynes)]، يكون فيه النمو الاقتصادي القوي متوافقا مع إعادة التسليح المكثف، ومتوافقا مع مستويات غير مسبوقة من الاستهلاك الشعبي محليا (29). وعلى مدى عقود ما بعد الحرب، أصبحت شرعية المسؤولين الذين يشغلون المناصب الرسمية آنذاك مرتبطة بالمدركات الشعبية حول دفاع هؤلاء المسؤولين عن أسلوب الحياة الأميركية، ودعمهم له. وقد كان لدى مفكر الفلسفة الواقعية آندرو باسيفتش (19) (Andrew Bacevich) رؤية ثاقبة، حاج فيها بأن هذا التوجه قد انطوى على تحولات في الثقافة السياسية الأميركية جرى فيها، وبدرجة متزايدة، خلط الحرية بالاستهلاكية من خلال وسائل کانت لها نتائج عميقة على دور أميركا في العالم: لما طالب به الأميركيون من حکومتهم كان الحرية التي تعرف بأنها اختيارات أكثر، وفرص أكثر، وفوق كل شيء، وفرة أعظم تقاس بمعايير مادية ... وكان الهدف ضمانة الترف المتزايد دوما الذي يدعم المفهوم الأميركي الحديث عن الحرية». وبهذه الوسائل، أصبحت التركيبة العسكرية الصناعية والاستهلاكية الضخمة مندمجتين معا في الهياكل التاريخية التركيبة الدولة والمجتمع الأميركية وأصبح الأميركيون يفهمون أنفسهم ومكانهم في العالم من حيث الهويات الاجتماعية بوصفهم المدافعين عن الحرية وبوصفهم «مستهلكين، وعندما ننظر من خلال عدسات منظار هذه الرؤية الاستراتيجية، نرى أن حماية العالم الحر قد ارتبطت مباشرة بتعزيز اقتصاد عالمي رأسمالي متمرکز على الولايات المتحدة، وقد كانت هذه النظرة إلى العالم هي التي بررت على ما يبدو تدخلات الولايات المتحدة لكي تجابه القوى السياسية التي قد تمنع نمو راسمالية عولمية تسيطر عليها الولايات المتحدة، وتدعم تلك القوى التي تميل إيجابا نحو مثل هذا المشروع السياسي الجغرافي.
بقدر ما اعتمد النظام العالمي الفوردي على مصادر نفطية وفيرة رخيصة، وهو ما لم تستطع الولايات المتحدة الأميركية ذاتها توفيره، سعي استراتيجية الولايات المتحدة إلى بناء سيطرة لها في منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط. ومن أهم النقاط المحورية للسيطرة الاستراتيجية الأميركية في الخليج لحقبة ما بعد الحرب، كانت علاقتها بإيران والمملكة العربية السعودية. وكان فرانكلين روزفلت قد أسس شراكة استراتيجية مع الأسرة السعودية الحاكمة في عام 1945؛ فقد عقد روزفلت اتفاقا مع عبد العزيز بن سعود، مؤسس السلالة السعودية الحديثة، لحماية العائلة المالكة ضد أعدائها الداخليين والخارجيين مقابل تمتعها بامتياز الحصول على النفط السعودي» (2). وقد تم في إيران تأمين النفوذ الأميركي لمدة ربع قرن بواسطة انقلاب عام 1953 الذي رعته وكالة الاستخبارات الأميركية، حيث تمت الإطاحة عسكريا برئيس الوزراء المتخب ديمقراطيا محمد مصدق الذي ارتكب الخطيئة الكبرى بتأميم شركة النفط الأنكلو - إيرانية، ومن ثم قامت تلك القوى العسكرية بإعادة تثبيت السلطة الأوتوقراطية للملك الإيراني، الشاه الموالي للغرب والذي يحظى بثقتهم. وفي ضوء هذا التاريخ، ليس من الغريب أن الثورة الإيرانية التي أنهت أخيرا حكم الشاه في عام 1979 اشعلت حكما ثيوقراطيا (دينا) إسلاميا شيعيا بحمل مناهضة مرة للولايات المتحدة). ويجب أن لا يكون هناك غرابة ايضا في أن العلاقة السعودية - الأميركية فيها مشاعر مختلطة عميقة، حيث هناك امتعاض واسع من نفوذ الولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية (أضيف إليه امتعاض خلال العقد الأخير من الوجود العسكري الأميركي)، ويلاقي هذا الامتعاض صداه عند الشكل الوهابي الأصولي من الإسلام الشني المسيطر هناك، وقد تم إعلان «مبدا کارتر» (Carter Doctrine) في عام 1980 الذي عبر بصراحة عن التزام الولايات المتحدة بمنع أي قوة معادية من التمكن من وضع قدمها في الشرق الأوسط، وبالنتيجة فإن قدرة الولايات المتحدة على نشر قوتها العسكرية في المنطقة قد تعززت بصورة ملحوظة. وفي السنوات التي تلت، دخلت الولايات المتحدة في شراكة مع السعوديين والباكستانيين الدعم المجاهدين الإسلاميين الذين كانوا يقاومون التدخل العسكري السوفياتي في افعانستان، ما أدى إلى إرساء أساسات انطلاق الجماعات الجهادية العسكرية المناهضة للغرب كالقاعدة مثلا، وذلك بمجرد أن تم إخراج السوفيات خارج افغانستان). إذا، فالإسلاموية (Islamism) [الإسلام السياسية المسلحة لم تنبثق فجأة نتيجة الكراهية مجردة ل «الحريات الأميركية، بل هي مفهومة بدرجة كبيرة كتعبير عن المقاومة للمشروع الجغرافي السياسي (الجيوسياسي) الأميركي القائم منذ مدة طويلة للسيطرة
الأميركية في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه هي الخلفية الجيوسياسية العولمية وايديولوجية الأمن الاقتصادي التي نستطيع على أساسها تأويل غزو العراق تحت قناع الحرب على الإرهاب. أما العناصر الأكثر تأييدا للهجوم العسكري في إدارة جورج دبليو بوش فقد انتهزت مناخ العصبية والتطرف القوميين وأجواء الخوف التي ظهرت في الولايات المتحدة عقب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، لتضع موضع التنفيذ رؤيتها التي طالما حلمت بها في السيادة العسكرية للولايات المتحدة على مستوى العالم، وفي الأعمال العسكرية أحادية الجانب، وفي الاستعمال الوقائي للقوة العسكرية التي وظف لخلق عالم يصبح فيه نموذج الولايات المتحدة في الديمقراطية الرأسمالية مقبولا بشكل لا يقبل النقاش، وهي رؤية استراتيجية عرف الآن بمبدا بوش (The Bush Doctrine). وبالبناء على موقف غير مسبوق في القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي والسياسي العظيم - وهي حالة أحادية القطب أشار إليها بوش بوصفها «توازن قوي يعطي أفضلية للحرية» - استستخدم الولايات المتحدة لحظة الفرصة هذه كي تصبح المنافع التي نجني من الحرية ممتدة في أنحاء المعمورة. وستعمل بجد لإدخال أمل الديمقراطية، والتنمية، والأسواق الحرة، والتجارة الحرة إلى كل زاوية من زوايا المعمورة (39). وقد أتى تحدي الرئيس العراقي صدام حسين المستمر لقوة الولايات المتحدة في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الهائلة، إلى الاستهزاء بادعاءات إدارة بوش بأن السيادة الأميركية عالميا حقيقة لا تقبل الجدل. وتاليا، يجب ألا فاجا الكون إزاحة صدام شغلت أولوية عليا بالنسبة إلى أولئك الذين صاغوا مبدا بوش. وقد أملت الإدارة الأميركية أيضا أن يقوم في العراق بعد الحرب نظام حكم عميل للولايات المتحدة الأميركية، يوفر لها قاعدة عمليات في قلب منطقة الخليج تكون مفتوحة للقوات الأميركية بشكل أكثر موثوقية من القواعد السعودية. يضاف إلى ذلك أنه كان ثمة اعتقاد سائد بين من يسمون بالمحافظين الجدد في الإدارة الأميركية ومرشديهم الفكرين (كالمستعرب برنارد لويس (Bernard Lewis مثلا)، بأن «دمقرطة العراق بالقوة ستقود إلى انتشار الديمقراطية الليبرالية في أنحاء الشرق الأوسط، وبأنها ستجفف مستنقعات» السلطوية والفقر التي كان يعتقد بأنها مواطن تفريخ الإرهاب، وبأنها ستقلل من التهديدات المتصورة التي تتعرض لها إسرائيل. ففي خطاب له قبيل بدء غزو العراق، اقترح نائب الرئيس الأميركي تشيني أنه قد يكون في الإمكان الانتصار في الحرب على الإرهاب من خلال إظهار قوي للقوة والتصميم في قلب الشرق الأوسط العربي: «إني أومن قطعا ويشاركني الرأي رجال أمثال برنارد لويس الذي هو أحد أعظم دارسي ذلك الجزء من العالم، بأن الرد الأميركي الحازم والقوي على الإرهاب وعلى التهديدات الموجهة إلى الولايات المتحدة، سوف يؤدي بصراحة إلى قطع شوط كبير في تهدئة الوضع في ذلك الجزء من العالم» 10).
غير أنه لا يمكن فهم حرب العراق بصورة صحيحة بمعزل عن مسائل تتعلق بالنظام العالمي الذي أعقب الرأسمالية الفوردية. فالعراق يجلس على احتياطيات من النفط تقدر بأنها ثاني أكبر احتياطيات بعد المملكة العربية السعودية، وهكذا فإن سيطرة الولايات المتحدة في عراق ما بعد الحرب قد تعد بمصدر موثوق للتزود بالبترول، إضافة إلى قدرة كبيرة في التأثير على منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) Organization of Petroleum Exporing Countries) (OPEC) وعلى أسعار النفط العالمية. ويستمر اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد في الازدياد - وكذلك الحال بالنسبة إلى استهلاك البترول في اوروبا، واليابان، والدول التي تتحول سريعا إلى دول صناعية كالهند والصين - وليس هنالك احتياطيات بترولية ضخمة ومهمة لمستقبل القوة الاستراتيجية العالمية، في عالم بعد الفوردية، ضاهي تلك المتوافرة في منطقة الخليج. وقد قدر فريق عمل هيئة سياسة الطاقة القومية في إدارة بوش، والتي كان يراسها نائب الرئيس تشيني، أن منطقة الخليج سوف تغطي حوالي ثلثي احتياجات العالم من النفط بحلول عام 2020 10). وفي سعيهم إلى تحقيق السيادة العالمية والنظام العالمي الرأسمالي المواتي لمصالح الولايات المتحدة، ربما يكون المسؤولون في إدارة بوش قد اعتقدوا بان السيطرة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، والمبنية على قاعدة عسكرية، ووضع بد اميركية على صنابير النفط العالمية، ستكون بمنزلة ورقة للتفاوض ذات قيمة لا تقدر بثمن، يتم استخدامها عند التعامل مع الحلفاء الذين قد لا يمتثلون، ومع المنافسين الصاعدين وبخاصة الصين الذين يعتمدون على النفط المستورد بشكل أكبر من اعتماد الولايات المتحدة ذاتها عليه). ومن هذا المنظور، تظهر الحرب على الإرهاب بأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمحاولات الولايات المتحدة لتحقيق السيطرة الاستراتيجية في منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط، والتي هي منطقة متشابكة على نحو عميق بالهياكل التاريخية للرأسمالية الفوردية العالمية المتمركزة حول الولايات المتحدة. ومع أنه قد يكون من غير الممكن أن نقوم من خلال الاستدلال باستنتاج المغامرات الإمبريالية الراهنة للولايات المتحدة بالاعتماد على منطق جوهري وأساس يتعلق براس المال، فمن الممكن - وربما يجادل بعضهم بأنه من الضروري ايضا - أن نضع هذه الواقعة في سياق الهياكل التاريخية للراسمالية الفوردية، والمشروع الأميركي الجيوسياسي في الأمن الاقتصادي والسيادة العسكرية الذي صار ملازما لها. 

الاستنتاج
إن الماركسية ليست منشغلة بالاقتصاد أو بالعلاقات الداخلية وحسب، بل هي تهدف إلى فهم نقدي للرأسمالية في كونها طريقة تاريخية محددة لتنظيم الحياة الاجتماعية، وهي طريقة تشتمل على علاقات وممارسات سياسية وثقافية واقتصادية، لم تكن يوما محصورة ضمن حدود الدول الإقليمية، ولها مضامين
حاسمة لعمليات الإنتاج الذاتي الاجتماعي على نطاق واسع من موقع العمل والمنزل إلى النظام العالمي. إذا رجعنا إلى نصور مارکس للماركسية بأنها نظرية ديالكتيكية في العلاقات أثناء سيرورتها، نرى أن المضامين التمكينية للنظرية الماركسية قد تم تشويهها بتاويلات تصورها على أنها شكل من أشكال الحتمية الاقتصادية. وفي سعيها إلى استعادة قدرتها على تسليط الضوء على التوترات والإمكانات الجدلية، قامت الماركسية الغربية والنظرية النقدية بصوغ نقديات حادة للحتمية الاقتصادية والاشكال الوضعية في المعرفة بشكل عام. وقد قادت هذه التيارات إلى إعادة تأكيد السياسية، والثقافة، والأيديولوجيا ضمن فهم مادي للحياة الاجتماعية، مشيرة إلى مقاربة وصفها کوکس (2) بأنها «أسلوب في الهياكل التاريخية»، وبتطبيق مقاربة تحليلية شبيهة بتلك التي يقترحها کوکس، قد نفهم الحرب على العراق بأنها منتج لالتقاء العلاقات الاجتماعية والعمليات التي تخترق القوى الاجتماعية، والدول، والنظم العالمية، وتتداخل معها. وإن كلا من هياكل الحداثة الرأسمالية، والأشكال التاريخية التي اتخذتها تلك الهياكل في حقبة الفردية والنظام العالمي الهيمني الذي انبثق من ذلك السياق، والأيديولوجيات الاستراتيجية في الأمن الاقتصادي، وثقافة الاستهلاكية الفوردية، جميعها مدانة في هذه القصة.
أسئلة 1. ما الذي يعنيه الماركسيون عندما يتحدثون عن الفهم الجدلي (الديالكتيكي
للتاريخ؟ 

2. كيف تقوم رؤية كهذه بتسليط الضوء نقديا على النظريات الفردانية
الليبرالية، كنظرية آدم سميث مثلا؟ 3. ما هي تداعيات الفهم الجدلي للتاريخ على الطريقة التي نفكر من خلالها
في السياسة والحرية؟ وعندما نرى العالم من خلال مصطلحات النظرية
الجدلية، كيف علينا إعادة تعريف هذه المصطلحات؟. لماذا يعتقد الماركسيون بأنه لا يمكن فهم الرأسمالية بدقة عند اعتبارها
ظاهرة المحلية؟ وكيف انعكس هذا الاعتقاد في نظريات الإمبريالية؟ | 5. ما الذي يعنيه الماركسيون عندما يتحدثون عن الرأسمالية بوصفها أكثر من
مجرد اقتصاد؟ ومن أي ناحية تعتبر السياسة والثقافة أساسيين للرأسمالية
بوصفها أسلوب حياة؟ 6. كيف تقوم رؤى الماركسية الغربية بتسليط الضوء نقديا على الأشكال
الأكثر «اقتصادياتية» للماركسية؟. ما هو غرض النظرية النقدية؟ وكيف تختلف عن النظرية «الوضعية» أو
نظرية لحل المشكلات»؟ 8. على أي أسس تم توجيه النقد إلى النظرية والواقعية الجديدة» في العلاقات
الدولية من جانب مؤيدي النظرية النقدية المعاصرين؟ وما هي الحدود التحليلية والسياسية للواقعية الجديدة (أو الواقعية البنيوية والتي يسلط النقاد الضوء عليها؟ وما الذي يمكن النظرية النقدية للسياسة العالمية أن تفعله
والذي لا يمكن الواقعية البنيوية أو النظريات الوضعية الأخرى أن تفعله؟ و كيف يمكن الفهم النقدي للرأسمالية بوصفها أسلوب حياة يضم الجوانب
الاقتصادية، والسياسية، والثقافية أو الأيديولوجية، أن يساعدنا في إعطاء
تفسير منطقي للاستراتيجية العالمية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية؟ 10. كيف يمكننا مثل هذا الفهم من إعادة صوغ إطار للحرب على الإرهاب في
كونها مثالا على إمبريالية القرن الحادي والعشرين؟ 

مزيد من القراءات (باللغة الإنكليزية
Anievas, Alexander (ed.), Special Section: Global Capitalism and the States System. Cambridge Review of International Affairs: vol. 20, no. 4, 2007, pp. 531 - 637,
ألكسندر أنفاس (2007)، الرأسمالية العولمية ومنظومة الدولة، مجلة كامبردج في الشؤون الدولية.
مجموعة من الأبحاث التي يقدمها منظرون مارکسيون بارزون يجادلون في التنظيرات المادية للجغرافيا السياسية وأهمية الإمبريالية.

Brewer, Anthony. Marxis Theories of Imperialism: A Critical Survey. 2 ed. London: Routledge, 1990.
أنطوني برور (1990)، النظريات الماركسية في الإمبريالية: دراسة نقدية.
تحليل نصي مستفيض و نقد شامل للنظريات المختلفة في الإمبريالية والتي أتى الفكر الماركسي إلى ظهورها.
Colns, Alejandro and Richard Sault (eds.). The War on Terrorism and the American Empire after the Cold War. London: Routledge, 2006,
أليخاندرو کولاس، وريتشارد سول (2006)، الحرب على الإرهاب والإمبراطورية الأميركية بعد الحرب الباردة.
أبحاث من منظورات نقدية متنوعة، تشتمل على عدد من رواد الماركسية، وتفكر في التحول الإمبريالي الواضح في السياسة العالمية المعاصرة.
Cox, Roben and Timothy J. Sinclair, Approaches to World Order: Cambridge, MA: Cambridge University Press, 1996.
ريتشارد کوکس، وتيموثي سينكلير (1996)، مقاربات للنظام العام
العالمي تم في هذا الكتاب تجميع بعض من الأبحاث التي تعد أهم البذور الأساسية التي قدمها رائد في الفكر الغرامشي الجديد في الدراسات الدولية.
Kellner, Douglas, Critical Theory, Marxism and Modernity, Baltimore, . MD: Johns Hopkins University Press, 1989.
دوغلاس کيلنر (1989)، النظرية النقدية، والماركسية، والحداثة
يقوم هذا الكتاب بتأويل النظرية النقدية التي تقترن بمدرسة فرانكفورت في كونها تفرع من نقد للحداثة الرأسمالية، والمتأثر بشكل قوي بالماركسية، لكنه نقد تشعب من ماركسية أرثوذكسية على مر القرن العشرين.
Lacher, Hannes, Beyond Globalization: Capitalism, Territoriality and the International Relations of Modernity. London: Routledge, 2006,
مائز لاتشر (2006)، ما بعد العولمة: الرأسمالية، والجغرافية، والعلاقات الدولية للحداثة.
يعتمد هذا الكتاب على نظرية في علاقات الملكية الاجتماعية ليقدم إعادة تأويل للعلاقة ما بين الجغرافيا السياسية الحديثة والرأسمالية.
Robinson, William L. 4 Theory of Global Capitalism, Baltimore, MD; . Johns Hopkins University Press, 2004.
وليام روبنسون (2004)، نظرية في الرأسمالية العولمية.
يفترض روبنسون ظهور عملية معولمة من تراكم رأس المال، وطبقة رأسمالية عبر قومية، ودولة عبر قومية حديثة الولادة.
Rosenberg, Justin. Empire of Civil Society. London: Verse Books, 1994 ..
جستين روزنبرغ (1994)، إمبراطورية المجتمع المدني.
يضع روزنبرغ بأسلوب نقدي نظرية السياسة الواقعية (Realpolitik) وتطبيقاتها ضمن علاقات الحداثة الرأسمالية وعملياتها. 

Rupert, Mark and Hazel Smith (eds.). Historical Materialism and Globalisation: Essays on Continuity and Change London: Routledge, 2002.
مارك روبرت، و هيزل سميث (2002)، المادية التاريخية والعولمة.
مقالات لمجموعة متنوعة من الباحثين المؤيدين بشكل كبير للمادية التاريخية، لكن يفهمون أهميتها في عالم من الرأسمالية العلمية بطرائق مختلفة جدا.
Tomey, Simon, Anti-capitalism: A Beginner's Guide. Oxford: One world, 2004,
سايمون تورمي (2004)، مناهضة الرأسمالية: دليل للمبتدئين
يتميز هذا الكتاب بتأثره بما بعد الشيوعية، ويقدم نظرة نقدية شمولية النظريات وممارسات الفكر المعاصر المناهض للرأسمالية، من الاستقلالية (Autonomism) [الماركسية الاستقلالية إلى الزاباتية (Zapatismo)
Wallerstein, Immanuel. World-Systems Analysis. Durham, OH: Duke : University Press, 2004.
إيمانويل والرشتاين (2004)، تحليل المنظومة العالمية. نظرة شمولية تعريفية لنظرية والرشتاين.
Wood, Ellen M. Empire of Capital. London: Verso Books, 2003. •
إيلين وود (2003)، إمبراطورية رأس المال. إعادة تأويل معاصرة للنظرية الإمبريالية من منظر سياسي مارکسي ذي
اثير
مواقع إلكترونية مهمة باللغة الإنكليزية]
: أرشيف الماركسيين، مصدر إلكتروني ضخم يتضمن مختارات واسعة من النصوص (بلغات متنوعة، من ضمنها العربية)، لعديد من المنظرين الماركسيين البارزين، ومقالات عن تاريخ الماركسية، وموسوعة معرفية في الماركسية، <
http : / / www . marxists . org
> • السجل الماركسي هو موقع إلكتروني لدراسات استقصائية سنوية يحتوي على تحليلات مارکسية للرأسمالية العولمية، والإمبريالية الأميركية، ومجموعة متنوعة من الموضوعات الأخرى، <
http : / socialistregister . com
> • الماركسية الجدلية. كتابات الفيلسوف السياسي بيرتل أولمان Berell) (Ollman وهو أحد أبرز المفكرين في النظرية الجدلية على مستوى العالم. راجع باب «الصراع الطبقي» (class struggle)، وهي لعبة طاولة ماركسية طورها أولمان،
< http://www.nyu.edu/projects/ollman/index.php
قم بزيارة مركز المصادر الإلكتروني المرافق لهذا الكتاب للمزيد من المواد الإضافية الشائقة، <
http : / / www . oxfordtextbooks . co . uk / ore / dunne 2 e













مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید