المنشورات

البناء الاجتماعي للواقع

يمكن النظر إلى فكرة أن العلاقات الدولية هي بناء اجتماعي social) (construction من منطلق بسيط جدا. فأن تبني شيئا، فهذا فعل يحضر إلى الوجود موضوعا أو شيئا لن يكون له وجود لولا ذلك الفعل. فعلى سبيل المثال، توجد المادة الملموسة كالخشب مثلا، في الطبيعة، لكن في الإمكان تشكيلها في عدد كبير جدا من الأشياء، كالدعامات التي تستخدم في بناء البيوت، أو في صنع بندقية صيد، أو آلة موسيقية، أو تماثيل خشبية. وعلى الرغم من أن هذه تمثل أشياء مادية في حد ذاتها، فإنها غير موجودة في الطبيعة بل أنت إلى الوجود من خلال أفعال من صنع الإنسان. وبمجرد أن يتم بناؤها، يكون لكل واحد من هذه الأشياء معنى محدد واستخدام معين ضمن سياق ما. فهي تعد بني اجتماعية بقدر ما يكون شكلها وهياتها مشبعين بالقيم، والمعايير، والافتراضات الاجتماعية بدلا من اعتبارها نتاجا للفكر الفردي أو المعنى الفردي بشكل بحت. وعلى هذا النحو، فإن الظواهر الاجتماعية الواضحة، كالدول أو التحالفات أو المؤسسات الدولية، وهي المواضيع الجماعية للعلاقات الدولية، قد تبني على المادة الأساس التي هي الطبيعة الإنسانية، ولكنها تأخذ أشكالا تاريخية، وثقافية، وسياسية معينة هي نتاج للتفاعل البشري في عالم اجتماعي.
سلط البنائيون الضوء على أفكار رئيسة عدة. أولا، تقترح فكرة البناء الاجتماعي وجود اختلاف عبر السياق بدلا من وجود واقع موضوعي منفرد وقد سعى البنائيون إلى تفسير أو فهم التغير على المستوى الدولي. فالنظريات التقليدية في العلاقات الدولية والتي غالبا ما افترضت تماثل الدول، على سبيل المثال، عبر الزمان والمكان، قد حددت الأولوية لعملية التعرف إلى الأنماط المنتظمة، وذلك بهدف التعميم وبناء النظرية. أما التغييرات الجوهرية التي ظهرت مع نهاية الحرب الباردة وفي أعقابها، فقد كشفت عن أهمية السياق التاريخي وأثارت تساؤلات عن الانتقال من الصراع إلى التعاون أو التحول من السلام إلى الحرب.
ثانيا، أكد البنائيون الأبعاد الاجتماعية للعلاقات الدولية، وأظهروا أهمية المعايير، والقواعد، واللغة على هذا المستوى. أما أهمية فكر غورباتشوف
التفكير الجديده (New Thinking) في وضع حد للحرب الباردة، وفي ازدياد أهمية معايير التدخل الإنساني (humanitarian intervention)، وفي انتشار القيم الديمقراطية الليبرالية، فقد أدت إلى إثارة تساؤلات نقدية حرجة حول تأكيد النظرية الواقعية حصريا المصلحة المادية والقوة. وقد شدد البنائيون على أن الواقعيين كانوا غير قادرين على إعطاء تفسير لبعض القضايا الأساسية المتعلقة بالسياسة الدولية لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وأنهم سعوا إلى إعطاء تفسير أكثر كمالا، أو تفسير «أفضلة، مبني على تحليل للكيفية التي تجتمع فيها العوامل المادية مع العوامل الأفكارية في بناء احتمالات ومخرجات مختلفة
ثالثا، حاج البنائيون بأن السياسة الدولية، وبعيدا من الواقع الموضوعي، في عالم من صنعناه). وردا على كثرة محددات البناء في النظرية الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة، قدم البنائيون احتمال الفاعلية (agency) وشددوا على عمليات التفاعل، ولا يعني ذلك أن لدى الجهات الفاعلة حرية تامة في اختيار ظروفها، وإنما أنها تتخذ خيارات أثناء عملية تفاعلها مع الآخرين، ونتيجة لذلك، فإنها تجلب إلى الوجود وقائعه متميزة تاريخيا، وثقافيا، وسياسيا. وفي هذا الصدد، تعد العلاقات الدولية بناء اجتماعيا بدلا من وجودها مستقلة عن المعنى والسلوك البشريين. ولا تقوم الدول والجهات الفاعلة الأخرى بمجرد إعطاء ردة فعل كأفراد عقلانيين، لكنها تتفاعل في عالم ذي معنى
تشير الأفكار الرئيسة المركزية المتعلقة بالتغيير، والنزعة الاجتماعية، وعمليات التفاعل، إلى القيمة المضافة للبنائية ضمن مجال شدد على التعميم عبر الزمن، وعلى المادية، وعلى الاختيار العقلاني. إلا أن البنائيين، وكما راينا سابقا، لم يعزفوا على الوتر نفسه في تصريحاتهم، وقد جرى على مر الأزمان تحول لمعنى البنائية في تخصص العلاقات الدولية. وساتعمق في ما يلي في نقاش الأفكار الرئيسة التي تم طرحها أعلاه من خلال البحث في الكيفية التي تم من خلالها صوغ معنى البنائية من طريق حوارات معينة في تخصص العلاقات
الدولية 













مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید