وجه معظم البنائيين شكلا من أشكال النقد إلى العقلانية. إلا أن هذا النقد، خلافا للنظرية ما بعد البنوية (poststructuralism) (انظر الفصل الحادي عشر)، لم يتضمن رفضا بالجملة للأسلوب العلمي. وسأقوم في ما يلي بتفحص الكيفية التي من خلالها تم صوغ معنى البنائية من الحوار الذي جرى مع العقلانيين. وستتم مناقشة أربع نقاط مركزية، تناول طبيعة الكينونة (الوجود) (being)، والعلاقة بين الهياكل (البني والوكلاء، وتركيبة (تكوين العالم المادي، ودور الإدراك المعرفي (cognition). |
الوجود الاجتماعي
الأنطولوجيا (ontology) (بمعنى أصل وجود الأشياء لا بمعنى الوجودية (existentialism)] هي كلمة منشؤها الأصلي في الماورائيات (الميتافيزيقا (metaphysics)، وهي تشير إلى طبيعة الوجود (being) وتركز على أنواع الأشياء التي يتكون منها العالم. ولدى النظريات العقلانية في تخصص العلاقات الدولية أنطولوجيا فردانية من حيث إن وحدة التحليل الأساس هي الفرد (سواء أكان الإنسان أم الدولة)، فالنظرية الواقعية الجديدة، على سبيل المثال، تعامل الدول على أنها أفراد يحاولون تحقيق أقصى قدر من هدفهم النهائي الذي هو البقاء. ويقدم الواقعيون الجدد امثال كينيث والتز)، الدول الفردية بوصفها الشرط المسبق الهيكل من الفوضى (anarchy) يقوم في ما بعد بتقييد طابع تلك الدول وسلوكها. وفي بيئة تنافسية تولدت جراء تصرف دول متعددة وفقا لمصلحتها الذاتية، ثمة من يجادل بأن اتباع منطق مختلف من التصرف سيكون انتحارا. وفيما يشدد والتز على الدولة المنفردة، وعلى توزيع القوة، فإنه بالفعل يجلب عنصرا من «التطويع الاجتماعي، (socialization)، من حيث إن تأثيرات البناء الهيكلانج من خلال التطويع الاجتماعي للجهات الفاعلة ومن طريق المنافسة بينهم أما الجدالات التي يقدمها الليبراليون الجدد، أمثال غولدشتاين وکيوهاين، الذين يركزون على دور الأفكار، فتضمن توترا مشابها بين الفردي والاجتماعي، فيتم التعامل مع الأفكار على أنها عوامل سببية يتم تبادلها من جانب افراد متشكلين كليا. وكما جاء في تعليق جون روغي، فإن
الأفراد الذين ورد ذكرهم في رواية (غولدشتاين وکيوهاين]، لم يولدوا | في داخل أي نظام من العلاقات الاجتماعية يساعد في تحديد الشكل الذي يصبحون عليه. وعندما نتعامل معهم لأول مرة، نجد أنهم متشكلون كليا وفي وضع الاستعداد لحل المشكلات (19)
وقد شكك البنائيون في توافر عنصر الأنطولوجيا الفردانية في العقلانية، وأكدوا في المقابل أنطولوجيا اجتماعية. ولأنهم كائنات اجتماعية بطبعها، لا يمكن فصل الأفراد أو الدول عن سياق ذي معني معياري يشكل ما هم عليه ويصوغ الاحتمالات المتاحة لهم. وبالتأكيد، فإن مفهوم السيادة هو اولا وأخيرا تصنيف اجتماعي وتاسيسي طالما أن الشرط المسبق للاعتراف بسيادة الدول المنفردة هو تفاهم و قبول مشترکان لهذا المفهوم.
إن العلاقة بين الهيكل الفردي والهيكل الاجتماعي مهمة بالنسبة إلى العقلانية والبنائية على حد سواء، إلا أن كل واحدة منهما [العقلانية والبنائية تنظر إلى هذه العلاقة بطريقة مختلفة. فبالنسبة إلى العقلانيين، يعد الهيكل محصلة للمنافسة وتوزيع الإمكانات المادية. وتقوم الهياكل أولا وأخيرا بتقييد أفعال الدول. والأفراد والتابعون] (subjects) في العقلانية يوجههم منطق النتائج (logic of consequences)، أي إن الفعل العقلاني هو ذلك الذي سينتج مخرجا يحقق أقصى قدر من مصالح الوحدة الفردية [الفرد). |
ويركز البنائيون أكثر على المعايير وطرائق الفهم المشتركة للسلوك المشروع، على الرغم من أن العوامل المادية لها دور أيضا، ومن وجهة نظرهم، فإن الهياكل لا تقوم بالتقييد فحسب، وإنما تقوم أيضا بتشكيل هوية الجهات الفاعلة. فالأفراد والتابعونا في البنائية يوجههم منطق الملاءمة (1) logic on appropriateness)؛ أي إن ما هو عقلاني هو محلة للشرعية، كما يعرف من خلال القيم والمعايير المشتركة ضمن المؤسسات أو الهياكل الاجتماعية الأخرى، وليس ضمن المصالح الفردية البحتة. وكما بصرح اوليه جاکوب سندنغ (12) (Ole Jacob Sending)، فإن الذات، وفقا لهذا المنطق، تصبح اجتماعية من خلال اكتسابها هوية مؤسسية وتحقيقها. وفي هذا الصدد، لا تقيد المعايير السلوك فحسب، وإنما تشكل أيضا هويات الجهات الفاعلة. فعلى سبيل المثال، ليست الاعتبارات المتعلقة بالقوة هي السبب الأكبر الذي يجعل معايير حقوق الإنسان مقيدة، وإنما ما يجعلها مقيدة يعود بشكل أكبر إلى أن حقوق الإنسان هي خاصية تأسيسية مكونة للدول الديمقراطية الليبرالية تحديدا، وهي تصبح أيضا وبشكل متزايد، خاصية تأسيسية مكونة لهوية الدول الشرعية على المستوى الدولي، إن التركيز على المعايير وعلى اتباع القواعد يمكن تمييزه من السلوك الذي هو في جوهره عقلاني، في أن الجهات الفاعلة تحاول أن تفعل الصوابه بدلا من زيادة تفضيلاتهم أو الاستفادة المثلى منها (1) التكوين المشترك
يترك الهيكل الاجتماعي مجالا أكبر ل الفاعلية» (agency)، أي أن يؤثر الفرد أو الدولة في بيئتهما، إضافة إلى تأثرهما بها. وقد لخصت هذه الفكرة في العنوان الذي وضعه ألكسندر فندت (14) لمقالته الشهيرة «الفوضي هي ما تصنعه
يترك الهيكل التهما، إضافة إلى تأثرهما بميرة الفوضى هي ما ته الدول من الفوضى (Anarchy is what states make of it). وهذا لا يعني أنه يمكن الدول في الفوضى أن تغير ظروفها على أهوائها، وإنما يعني أن العلاقات تتطور مع الوقت. وهي لا تتسم، بشكل عام، بالعداوة والأنانية. فقد نشأت علاقات الصداقة بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، بينما هنالك عداوات بين دول أخرى، وهنالك عديد من الدول ضمن الاتحاد الأوروبي كانت تربطها علاقات عداوة في السابق، ومن ثم تعلمت هذه الدول التعاون في ما بينها. فالعلاقات هي نتاج للعمليات التاريخية والتفاعلات التي تحدث عبر الزمن. ويوضح فندت (15) هذا الأمر في مثاله عن آلتر وإيغو (Alter and Ego) [أي الآخر والأنا] المخلوقين الفضائيين اللذين يلتقي أحدهما بالآخر لأول مرة، ويحدد كل واحد منهما ما إذا كان الآخر عدوا أم صديقا من خلال سلسلة من الإيماءات. ويمارس كل واحد منهما عنصرا من عناصر الاختيار، وبذلك فإنه يمارس الفاعلية، في الطريقة التي تتطور بها هذه العلاقة. إلا أن الخيارات ليست غير محدودة. فالتر وإيغو يتعايشان في علاقة اجتماعية، وخياراتهما تعتمد جزئيا على ردة فعل الطرف الآخر. لذا يمكن القول إن مساحة الخيار متشكلة تبادليا
(mutually constituted)
وبدلا من التشديد على الكيفية التي تقوم من خلالها الهياكل بالتقييد، وذلك كما يفعل العقلانيون، يركز البنانيون على الدور التأسيسي للمعايير والتفاهم المشترك، إضافة إلى تركيزهم على العلاقة بين الفاعلية والهيكل 1). فالأفراد (التابعونا في السياسة الدولية ليسوا أنانيين عقلانيين بشكل عمومي وموخد، وإنما لهم هويات مستقلة تأخذ شكلها من خلال الظروف الثقافية، والاجتماعية، والسياسية - وأيضا المادية - التي تضمهم على أنهم جزء لا يتجزأ منها. فهم ليسوا ساکنين، بل يتطورون باستمرار في تفاعلهم في ما بينهم ومع بيئتهم.
الحقائق الاجتماعية
يفترض العقلانيون عالما ساكنا من الأنانيين اللااجتماعيين (المحايدين اجتماعيا الذين يهتمون في الدرجة الأولى بالمصالح المادية. وعلى الرغم من أن البنائين لا ينكرون أهمية المصالح، فإنهم يربطونها، بشكل أكثر مباشرة، بهوية الفرد (التابع). ولا يمكن الهوية، ولا المصالح أن تنفصل بمعزل عن عالم من المعنى الاجتماعي، وكما اقترحنا في القسم الأخير، فإنه لا يمكن هوية الشخص الديمقراطي الليبرالي أن تكون بمعزل عن المصلحة في الامتثال لمعايير حقوق الإنسان. أما هوية الشخص الرأسمالي، فلا يمكنها أن تنفصل عن المصلحة في خلق الأرباح. وعلى النحو نفسه، يمكن على سبيل المثال تشكيل الهويات في الصراع كأعداء لديهم مصلحة في حماية أنفسهم. وبعيدا من كونهما منفصلتين عن العالم المادي، فإنه يمكن الهوية والمصلحة التي تتبعها أن تشكلا عالما تسكنه أنواع معينة من الأشياء، فالقذائف الصاروخية مثلا لا صنع في فراغ، حيث إن الإنتاجية الضخمة للأسلحة النووية من جانب الولايات المتحدة الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة، كانت استجابة للصراع الناشئ مع الاتحاد السوفياتي. وقد كانت هذه الأسلحة مرهونة بتكوين الاتحاد السوفياتي بوصفه عدوا، والذي يعرف من خلال التمييز بين الرأسمالي والشيوعي، ضمن غيرها من الاختلافات، والذي يتعلق بمصلحة في احتواء ذلك العدو.
معظم الأشياء في العلاقات الدولية، خلافا للأشجار، والصخور، والأنهار الجليدية، لا تنوجد إلا بفضل أفعال من صنع الإنسان تحدث في سياق ثقافي، وتاريخي، وسياسي للمعنى، وهي حقائق اجتماعية (social facts) تنوجد بسبب المعنى والقيمة اللتين تعزيان إليها، وليست حقائق مادية بحتة. ويحاج جون سيرل (1) (John Searle) بأن الحقائق الاجتماعية تعتمد على الاتفاق البشري، وطبيعيا فهي تتطلب مؤسسات بشرية من أجل وجودها. فمن دون إسناد القيمة ومن دون وجود مؤسسات مالية، لن تكون ورقة الدولار أو اليورو أكثر من مجرد قصاصة ورق عادية. وكما اقترحنا سالها، فإن السيادة أو الحدود التي تقسم الدول موجودة فقط بفضل الاتفاق البشري. كذلك، فإن السلاح النووي لا يوجد في الطبيعة، على الرغم من أن الأشياء في الطبيعة، كعصي الأشجار مثلا، يمكن استخدامها أسلحة. فالتصميم الذي يضعه الإنسان والمقصد [النية] من ورائه هما ما يعطيان الأشياء المادية شكلا له معني واستخدام محددان ضمن سباق معين، تكون فيه هويات و مصالح معينة معرضة للخطر.
الإدراك المعرفي الاجتماعي (Social cognition)
إن السؤال المتعلق بالمقصد من وراء التصميم الذي يوضع للأشياء المادية أو النية وراء تصميم المؤسسات يؤدي إلى إثارة قضية أخرى بشأن دور الاستدلال العقلي (reasoning) البشري. فقد بني عديد من البنائيين على مفهوم ماكس فيبر وهو «verstehen» أي الفهم (understanding) والذي يشير إلى الفكرة التأويلية الترجمية (hermeneutic) في أن «الفعل يجب أن يفهم من الداخل»، وبالتالي فالمعنى الاجتماعي هو محصلة لما هو في عقل الأشخاص، (10) إن التركيز البناني على الفهم (Verstehen) مثير للاهتمام بسبب أن ماكس فيبر كان أيضا من أوائل المصادر النموذج الإنسان الفاعل العقلاني، وفي حين يسلط العقلانيون الضوء على عقلانية القرارات من حيث المصلحة الذاتية، ما يؤدي إلى تقليل دور السياق، يعيد البنائيون جلب البعد الاجتماعي. فالمعاني بين الذاتية (intersubjective meanings) [المعاني الذاتوية البينية، أي بين الأفراد ليست مجرد تجميع لمعتقدات الفرد وإنما لها وضع مستقل على اعتبار أنها معرفة جماعية مبنية على فكرة أنه وعلى الرغم من أن كل واحد منا يفكر أفكاره الخاصة، لكن مفاهيمنا نشارك بها الأشخاص أمثالنا (19). والفهم (Verstehen) هو «التأويلات، والممارسات، والمؤسسات الجماعية الخاصة بالجهات الفاعلة ذاتها، (20)
أما التشديد على الفهم (Verstehen) فيسلط الضوء على تشابه وعلى اختلاف بين العقلانيين والبنائيين، والفرق هو أن العقلانيين يؤكدون الفردي، بينما يشدد البنانيون على الاجتماعي. إلا أن النظر بتمعن أكبر إلى دور المعقولية والمعرفة الفردية في البنائية، يظهر أن الاختلاف ليس صارخا إلى ذاك الحد، ويؤکد منطق الملاءمة الفردي (21). أما عمليات التفكير العقلاني الخاصة بشخصيتي فندت (12) وهما شخصية آلتر وشخصية إيغو، فهي تسبق التفاعل الاجتماعي، ويشدد الفهم (Verstehen) على المعرفة وعلى ما هو داخل العقل (23)
وكما هو موضح أعلاه، تضيف البنائية بعدا اجتماعيا غير موجود عند المقاربات العقلانية، إلا أنها تتضمن بعض التناقضات التي سنستكشفها في القسم التالي، وتنشأ هذه التناقضات من مزيج من الأنطولوجيا الاجتماعية مع إبستيمولوجيا ترتكز على فصل بين عالم خارجي وبين عمليات التفكير الداخلية عند الأفراد، والبنائية في هذا التصوير، مصوغة بلغة الوضعية المتعلقة بالسببية واختبار الفرضيات، ومكملة بتركيز على عقلانية الأفراد، على الرغم من أنها متضمنة بشكل أعمق في سياق اجتماعي. واحصر التأكيد على الوحدة الواحدة الفردية (individual unit)، سواء أكانت بشرا أم دولة، يخفق في التعامل بشكل وافي مع مواجهة إشكالية كيفية تكون الوحدة الواحدة. وبافتراض التركيز على الأنطولوجيا، فالنتيجة هي إلقاء الغموض على استقلالية الاجتماعي ودور اللغة من ناحية علاقتهما بالعالم المادي ومن حيث الإدراك المعرفي الفردي على حد سواء.
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)