المنشورات

البنائية في كونها موقعا متوسطا

كما نوقش آنها، فقد احتلت البنائية موقعا متوسطاء بين المقاربتين العقلانية وما بعد البنيوية في تخصص العلاقات الدولية، وهو موقع تتشارك فيه مع المدرسة الإنكليزية، مثلما نوقش في الفصل السابع). عندما قام نيکولاس أونوف (20) Nicholas Onun) في البداية بتقديم المصطلح إلى تخصص العلاقات الدولية، كانت الكلمة تشير بشكل واسع إلى طيف من منظورات ما بعد الوضعية، التي اشتركت في ما بينها بنقدها للافتراضات الساكنة للاتجاه السائد في نظرية العلاقات الدولية، ومنذ ذلك الحين، أصبحت البنائية موضع خلاف حيث أصبح المفكرون بميزون بين البنائية التقليدية، والتي يقال عنها إنها تحتل المكان المتوسط، والأشكال الأخرى للبنائية ذات الطابع النقدي (3)، بما فيها ما بعد البنيوية، ولم يرفض البنائيون التقليديون الافتراضات العلمية للعلم الوضعي، بالدرجة نفسها التي رفضتها المقاربات الوضعية بشكل أكثر وضوحا. وفي هذا الصدد يجادل جيف تشيكل 20) (Jeff Checkel) بأن الشقاق مع العقلانيين ليس معرفيا وإنما هو أنطولوجي (2)
الإبستيمولوجيا (epistemology) هي فرع من فروع الفلسفة يتعامل مع أصل المعرفة وطبيعتها، وتبدا بالسؤال عن كيف تصبح لدينا معرفة عن العالم. يتبنى البنائيون أنطولوجيا بين ذاتية تشدد على المعايير، والوكلاء الاجتماعيين، والهياكل، وعلى التشكيل المتبادل للهوية، لكنهم يقبلون إبستيمولوجيا تدين للوضعية (20)، وتتضمن اختبار الفرضيات، والسببية، والتفسير. ويحاج نبد هويف (29) Ted Hopt بأن التشديد على الأنطولوجي هو جزء من جهد يبذل للتغلب على بعض التشكك الذي يحيط بالبنائية - والذي ينشأ من الخلط بينها وبين مقاربات ما بعد الحداثة - وهو تشكك سببه الافتراض بان البنائيين منقسمون بشأن أساليب العلوم الاجتماعية السائدة. ويميز هوبف البنائية التقليدية، من خلال بعدها عن النظرية النقدية. ويشير إلى البنائية التقليدية بأنها مجموعة من المبادئ المستنبطة من النظرية الاجتماعية، لكن من دون الالتزام بالمتابعة النظرية والمعرفية الأكثر اتساقا والمرتبطة بالنظرية الاجتماعية (10). ويزعم العقلانيون والبنائيون على حد السواء بأنه ليس هنالك فروق إبستيمولوجية أو منهجية عظيمة تفرق بينهما).
وقد اكتسب البنائيون شرعية كبيرة من خلال قبولهم بالإبستيمولوجيا الوضعية، بحيث أصبح الحوار مع العقلانيين يحتل مكانا مهما في التخصص (92). ومن الموضوعات المختلف عليها في هذه الحوارات طبيعة العلم الاجتماعي ذاته، وطبيعة تخصص العلاقات الدولية تاليا، أي الاختيار بين الزعم بأنه علم «ذو نزعة طبيعية [كالعلوم الطبيعية]» (يرتبط بالوضعيين) أو أنه ذو طبيعة اجتماعية (3). إن أكثر ما يشغل البنائيين التقليديين هو إعادة الاجتماعي مجددا إلى تخصص كان العنصر الاجتماعي فيه قليل الشان لمدة طويلة (94). ويختلف تشديد البنائيين على السبية، واختبار الفرضيات، والحقائق الموضوعية (بين الذاتيات)، عما يتجه نحوه منظرو ما بعد البنيوية الذين لا يهتمون على وجه الخصوص بالفحص الدقيق لحالات أو مواقع معينة بهدف فهمها من خلال المصطلحات المميزة الخاصة بهم،9). وكما يصرح آدلر (1)، فإن البنائيين يهتمون بإعطاء تفسير أفضل، وليس بالتحرر من القيود في حد ذاته (2)
تحول الموقع المتوسط
كما ناقشت کورکي ووايت في الفصل الأول، أخفق تخصص العلاقات الدولية في أن يأخذ الفلسفة المتعلقة بمسائل العلوم الاجتماعية على محمل الجد، وكثيرا ما تبنى خلافا لذلك «وضعية، فاقدة لصدقينها. أما الموضوع الرئيس هنا فهو إن كان الجمع بين تأكيد الوجود الاجتماعي (الأنطولوجيا البنائية) ومقاربة إمبيريقية لتوليد المعرفة الموضوعية (الإبستيمولوجيا الوضعية) هو أمر ملائم. وقد ألمح هوبف () إلى هذا السؤال في زعمه أن لدى البنائين النقديين متابعة نظرية وإبستيمولوجية أكثر اتساقا». وقد تدارس عديد من الباحثين الأكاديميين (79) البنائية بوصفها جزءا من سلالة أطول خارج تخصص العلاقات الدولية ومن خلال سب يتقاطع مع ما بعد البنيوية، لكنه منفصل ومتميز عنها. والبنائية من هذا المنظور هي أيضا موقف إيستيمولوجي، وتدين بشكل كبير لما يسمى ب «المنعطف اللغوي (اللساني» (linguistic turn) (40). وبالتعقيب على المنعطف اللغوي، إذا أثارت البنائية أسئلة جوهرية عن الرابط الطبيعي بين الكلمة والشيء، أو بين الرمز والمرموز إليه)، فهل من المناسب أن نقرن الأنطولوجيا الاجتماعية بالإبستيمولوجيا الوضعية؟
وتستند الإبستيمولوجيا الوضعية إلى نظرية تطابقية في اللغة، وهي أنه يفترض بالأشياء أن تنوجد مستقلة عن المعنى وأن الكلمات هي بمنزلة نسميات
علامات للتمييزا تطلق على الأشياء في هذا الواقع. ويمثل اختبار الفرضيات مظهرا من مظاهر هذا الافتراض بشأن اللغة؛ فهو أسلوب المقارنة العبارات العلمية عن العالم مع العالم نفسه لمعرفة ما إذا كانت تتوافق. في المقابل فإن الإبستيمولوجيا البنائية، وبوصفها نتاجا للمنعطف اللغوي، تبني على مفهوم أننا لا يمكننا أن نعرف ما وراء لغتنا حتى نقارنه بذلك الذي تصفه (43). فاللغة جزء لا يتجزا البتة من العالم، وليست مرآة له. فاللغة الخاصة بالفارس في لعبة الشطرنج لا يمكن أن تتجزأ عن الشيء المادي؛ وهذه اللغة هي التي نميز من خلالها الفارس، والقواعد التي تنطبق عليه، عن قطعة من الخشب. فان نشير إلى فارس لعبة الشطرنج بأنه قطعة من الخشب، معنى ذلك أننا ننتزعه من السياق الذي له من خلاله معني و استخدام
يستند التمييز بين البنائيين التقليديين والبنائيين النقديين عادة إلى افتراض أن التقليديين يقبلون بوجود عالم موضوعي، بينما يشدد النقديون على اللغة اليس إلا. وعلى الرغم من ذلك، يشير فريدريش کراتوكفيل) إلى أن «أحدا بالكاد بشك في أن العالم، موجود بصورة مستقلة عن أذهاننا. لكن السؤال هو ما إذا كان في إمكاننا أن نراه بطريقة منجردة ومباشرة، أو ما إذا كان ما نراه هو دائما منظم ومتشكل مسبقا من خلال عناصر فئوية ونظرية معينة. إن فرض الاختيار بين العالم الموضوعي والنسبية التأويلية على أساس الاختيار بين هذا أو ذاك، هو أمر صارخ جدا. وهنالك موقف أكثر دقة، يفهم اللغة في كونها مبنية على أساس القواعد، وستتم مناقشة هذه القضية بتفصيل أكبر في القسم التالي.
مقاربة أم نظرية؟ |
إن قضية الأنطولوجيا مقابل الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة) تتعلق بشان آخر حول وضع البنائية في كونها مقاربة (approach) أم نظرية (theory). ويجادل اونوف (10) بأن البنائية ليست نظرية وإنما طريقة لدراسة العلاقات الاجتماعية. أما كتاب الكسندر فندت بعنوان النظرية الاجتماعية في السياسة الدولية (19) (Social Theory of International Politics)، فيبني نظرية بنائية. ويقبل فندت معتقدات معينة لمنهجية الاتجاه السائد، ولو أن أفكاره هي التزام مدل بالوضعية ضمن إطار علمي واقعي (انظر الفصل الأول). أما المشكلة في مقاربته فلها شقان: من ناحية أولى، إذا اعتمدت البنائية والوضعية على افتراضات مختلفة بشأن طبيعة الواقعة، فعندئذ سيكون هنالك تناقض في عملية بناء نظرية بنائية على إبستيمولوجيا وضعية. ومن ناحية أخرى، فإن التعامل مع البنائية على أنها نظرية مثلما هي الواقعية، أمر فيه تضليل؛ وهو كمقارنة التفاح بالبرتقال. فالواقعية بوصفها نظرية ثابتة ومستقلة، تضع افتراضات عن الجهات الفاعلة في العالم وكيفية عملها، أي إن الجهات الفاعلة هي جهات ساعية إلى القوة وموجودة في بيئة تنافسية. وكثيرا ما أقرن هذا في نظرية العلاقات الدولية (وتحديدا في الاعتبارات الواقعية البنيوية) بالافتراضات الوضعية حول وجود عالم موضوعي، وفي ما يخص تخصص العلاقات الدولية تحديدا، بوجود فرضي تنافسية أبدية تكون فيها القوة المادية هي الأسمي. ويمكن القول إن الافتراضات النظرية اللواقعية يمكن إعادة النظر إليها من زاوية بنائية، بالتحويل إلى تحليل لكيفية توليد علاقة تنافسية وإعادة تكوينها من عمليات التفاعل التاريخي. وفي هذه الحالة، يجب على الإبستيمولوجيا أن تكون أكثر مراعاة للسياق الاجتماعي، واللغة، واحتمال التغيير. وفي حين أن منطق الفوضي غالبا ما يولد منافسة وحروبا، فإنه يمكن أن يؤدي إلى بروز أنواع أخرى من العلاقات، كما هو مقترح في عبارة فندت «الفوضي هي ما تصنعه الدول من الفوضى، (انظر إلى النص المنتقي). وسيتم استعراض هذا التمييز في دراسة حالة عن الحرب على الإرهاب.
غالبا ما تستخدم تسمية البنائية الآن للإشارة إلى مكان متوسط بين المقاربتين العقلانية وما بعد البنيوية، وقد شدد هذا الموضع المتوسط على أنطولوجيا اجتماعية، وعلى إبستيمولوجيا مشتركة مع الاتجاه السائد، وعلى تركيز على تطور النظرية البنائية، وهنالك بنائية أخرى تحدث تحولا في المكان المتوسط، بتسليطها الضوء على ارتباط الأنطولوجيا الاجتماعية بالإبستيمولوجيا الاجتماعية بشكل لا يقبل الانفصال. وكلتاهما تقبل «احتمال أن يتم بناء الحقيقة، ما يميزهما من مؤيدي ما بعد البنيوية الذين ينظرون إلى هذا الاحتمال على أنه إشكالية).
في القسم التالي، أحاج بأن البنائية الثانية أكثر اتساقا من البنائية «التقليدية». واستخدم تسمية البنائية المتسقة، (consistent constructivism) للتأكيد أن افتراضاتها تصحح عدم الاتساق الموجود في لب البنائية التقليدية. وهذا يتضارب مع التمييز الأكثر شيوعا بين البنائية التقليدية والبنائية النقدية؛ فمصطلح البنائية النقدية عادة ما يشمل ما بعد البنيوية، بينما فكرة البنائية المتسقة التي نستعرضها هنا لا تشتمل عليها. 

المقالة المنتقاة
مقالة ألكسندر فندت بعنوان «الفوضى هي ما تصنعه الدول من الفوضى:
البناء الاجتماعي لسياسة القوة»، نشر في مجلة التنظيم الدولي)
على الرغم من أن أول من قدم البنائية لتخصص العلاقات الدولية هو نيکولاس أونوف (4) Nicholas Onun)، فإنها غالبا ما ترتبط بمقالة ألكسندر فندت لعام 1992 وعنوانها دالفوضى هي ما نصنعه الدول من الفوضيا? ومن خلال متابعتها من كثب لنهاية الحرب الباردة، تطرقت المقالة إلى عمليات التغيير التي كانت قيد التنفيذ في ذلك الوقت. وقد كانت الحجة الجوهرية فيها بمنزلة خروج عن التصورات الأكثر بنيوية في العلاقات الدولية، والتي تفترض بأن الدول مقيدة بحالة من الفوضى، وقد قدمت المقالة [فكرة إمكان الفاعلية في حالة الفوضى. ومع أنه بدأ بالحوارات الجديدة - الجديدة (neo
- neo debates)، فقد توجه نقد فندت، وبشكل أكثر مباشرة، للتطرق إلى زعم الواقعية الجديدة بأنه في غياب سلطة عالمية لم يترك لدى الدول خيار سوى التنافس في ما بينها من أجل الحصول على أكبر قدر من المصالح ومن أجل البقاء. ومن هذا المنظور، فإن هوية الدول ومصالحها على حد سواء معطيات محددة وفقا لتعريفها من خلال بيئة من الفوضى. ويقدم فندت إطارا للتفكير في الهوية والمصالح وكانها مبنية الهيكلة بمعنى البنائية، وبالتالي يحتمل أن تخضع لعمليات التحول المؤسسي. ويشرع فندت في بناء جسر بين نظامين فکريين، كان يشار إليهما في ذلك الوقت بالعقلانية والتأملية (أو الوضعية وما بعد الوضعية) وذلك من خلال تطوير محاجة بنائية، مستنبطة من علم الاجتماع الفاعلي-الهيكلي [التوفيقي بين الهيكل والجسم الفاعل] (structurationist sociology) وعلم الاجتماع التفاعلي الرمزي symbolic)
interactionist sociology)
يعرف فندت الهويات بأنها أساس المصالح، ما يعني أن الجهات الفاعلة اعرف مصالحها في عملية تعريف المواقف. والمؤسسات هي مجموعات أو هياكله ساكنة نسبيا من الهويات والمصالح، والتي عادة ما تشرع على شکل قواعد او معايير، ولكن ليس لها إلا قوة تحفيزية بمقتضى تفاعل الجهة الفاعلة اجتماعيا مع المعرفة الجماعية ومشاركتها فيها. وتعد «المساعدة الذاتية» في حد ذاتها مؤسسة ضمن الفوضى لكنها ليست المؤسسة الوحيدة الممكنة، حيث إنه يمكننا الإشارة إلى أمثلة من الأنظمة الأمنية الأكثر تعاونية. وعليه، فإن السلطة والمؤسسات ليسا تفسيرين متعارضين، كما يفترض غالبا. ومن أجل الانطلاق من الهيكل إلى التطبيق الفعل، من الضروري مراعاة
هيكل الهويات والمصالح في النظام، والذي بني بطريقة بين ذاتية (تفاعل أشخاص. وهذه المعاني التي تنظم من خلالها الأفعال، تنبع من عملية التفاعل.
ويوضح فندت هذه النقطة من خلال مثال عن مخلوقين فضائيين أسطوريين، وهما التر وإيغو (Alter and Ego) (أي الآخر والأنا] اللذين يلتقيان لأول مرة، ومن خلال عملية تبادل الإشارات، والتأويل، واستجابة أحدهما للآخر، يبدآن عملية تكوين معان بين ذاتية مشتركة يمكنها أن تتطور إما تعاونيا وإما تنافسيا (انظر إلى النص للحصول على مناقشة أكثر تفصيلا). وحيث إن آلتر وإيغو يبدآن علاقتهما بصفحة بيضاء، فإن تحليل سياسة ميخائيل غورباتشوف «التفكير الجديد، (New Thinking) يثير سؤالا عن مدى إمكان تعديل اللعبة، بعد أن يصبح الطرفان عالقين في دوامة سلبية كتلك التي انوجدت خلال الحرب الباردة. ويجادل بأن الجهات الفاعلة لديها القدرة على التأمل النقدي للذات، وعلى الاختيار «الرامي إلى جلب تغييرات في حياتها». وقد يحصل هذا الشيء عندما يكون هنالك سبب يدعو إلى التفكير بالذات بطريقة جديدة، على سبيل المثال، نظرا إلى وجود ظروف اجتماعية جديدة، والتي لا يمكن وضعها ضمن مفاهيم موجودة مسبقا عن الذات، وعندما تكون هذه الظروف حاضرة، يمكن الجهات الفاعلة أن تنخرط في «التأمل في ذاتها والممارسة التي تهدف تحديدا إلى تحويل هوياتها ومصالحها، وبذلك تغيير اللعبة التي تضم الجهات الفاعلة. 














مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید