المنشورات

البنائية المتسقة

لقد دخل البنائيون والعقلانيون في حوار، لكن لمناقشة المنهج لم تكن ضمن الأجندة، فهناك توتر بين مدرسة للبنائية لا ترى اختلافات جوهرية مع منهجيات الاتجاه السائد، ومدرسة أخرى تفهم البنائية على أنها مقاربة لها جذور في المنعطف اللغوي، ويتجلى عدم الاتساق بين المدرستينا في ما يتصل بدور اللغة والقواعد من ناحية، وبالسؤال المتعلق بالسببية من ناحية أخرى.
اللغة والقواعد
لقد تم تجاهل دور اللغة بشكل كبير في الحوار بين العقلانيين والبنائيين. وتجنب اللغة هو جزئيا انعكاس للمحاولة في الابتعاد عن منظري ما بعد البنيوية، الذين يرتبطون بالنسبية التأويلية. وهو أيضا انعكاس لتركيز الموقع المتوسط على الأنطولوجيا. ويجب أيضا على مقاربة اللغة، والتي تتوافق مع الأنطولوجيا الاجتماعية الخاصة بالبنائية، أن تحتل موقعا إبستيمولوجيا متوسطا، وفي الوسط بين النظرة إلى اللغة بوصفها مرآة للعالم، ورؤيتها بوصفها تأويلا بحتا، هناك فهم للغة والأفعال بكونها تقوم على قواعد. وهي لا تبتعد إلا قليلا عن التركيز على دور المعايير والقواعد في العلاقات الدولية، إلى اعترافها بأن هذه المعايير والقواعد لا تجد تعبيرا ولا تتشكل إلا في لغة وأفعال تقوم على قواعد وبحد ذاتها مشبعة بالمعايير.
يستند هذا المفهوم عن اللغة إلى تمييز بين القواعد (وهو ما يعني به البنائيون) وبين التأويل (وهو ما يركز عليه منظرو ما بعد البنيوية). فاتباع القاعدة (nile) يختلف عن التأويل. وكما صرح فتغنشتاين
هناك طريقة لاستيعاب القاعدة وهي بت تأويلا، وإنما هي تظهر في ما نسبه بالانصياع للقاعدة، وامخالفتها في الحالات الفعلية. لذا، فهنالك ميل إلى القول إن كل فعل وفقا للقاعدة هو تأويل، ولكن ينبغي لنا أن نقصر مصطلح التأويل على إحلال تعبير ما من تعابير القاعدة محل الآخر» (1).
ترتكز الرؤية الوحدوية للعلم على انقسام ثنائي بين الموضوعي (objective) والذاتي (subjective). وفي هذه الرؤية، تعمل اللغة بوصفها مجموعة من التسميات للواقع الموضوعي أو للعمليات العقلية للأفراد. وهذا الانقسام الثنائي تعارضه مقاربة البنائية المتسقة للغة، واستخدام اللغة في هذه الرؤية هو جوهريا استخدام اجتماعي، فنحن نتكيف اجتماعيا في هذا الاستخدام للغة. وأثناء هذه العملية لا نتعلم الكلمات فحسب، وإنما أيضا نتعلم كيف نتصرف في العالم؛ أي إننا نتعلم ما المقصود بإعطاء وعد، والتهديد، والكذب، أو إننا نتعلم أنواع السياقات التي تكون فيها هذه الأفعال الكلامية (speech acts) ملائمة أو ذات معني، او حتى نتعلم ما يعنيه صوغ الفرضية، أو التصويت في الانتخابات، أو نشر الصواريخ. فاستخدام اللغة هو جزء من التصرف في العالم. ومن دون اللغة، لا يمكننا أن نبدأ بالتواصل بعضنا مع بعض، أو أن نسند المعاني إلى الأشياء أو الأفعال الموجودة في العالم، أو أن تكون لدينا أفكار ومعتقدات شخصية، أو أن تعبر عن مشاعرنا.
يستند اختبار الفرضيات في العلم الوضعي إلى افتراض أن التسميات ستكون إما صحيحة وإما خاطئة. وتتطلب المقاربة إلى اللغة، باعتبار أنها تقوم على قواعد، أن ننظر إلى، ونرى كيفية استخدام الجهات الفاعلة الاجتماعية للغة وهي تبني عالمها، وفي موقف التغيير، فإن فئات الهوية أو فئات الأفعال لن تكون ساكنة على الأغلب. فعلى سبيل المثال، فإن الفئات الساندة التي تعرف الهوية في يوغسلافيا الشيوعية كانت تختلف عن تلك التي ظهرت مع ظهور الصراع بين الصرب، والكروات، والمسلمين. ففئة يوغسلافيا تندرج ضمنها هذه المجموعات الثلاث تحت هوية مشتركة هي السلافيون الجنوبيون». في المقابل، فإن الفئات الإثنية تبني فوارق تاريخية، ودينية، وسياسية واضحة بين المجموعات المختلفة. فقد تكون هذه الفئات بدأت تأويلات، من حيث إنها استبدلت قاعدة معينة للهوية بقاعدة أخرى، لكنها أصبحت شبيهة بالقاعدة في إسنادها للهوية وفي الأفعال التي تلت ذلك. أثناء التحول من يوغسلافيا إلى صراع العنف، فإن الجيران الذين عاشوا في ما مضي سوية بسلام، أصبحوا هدفا للتطهير العرقي.
تقوم المقاربة البنائية المتسقة للغة بتحويل التركيز إلى توليد المعني، والمعايير، والقواعد، كما عبر عنها في اللغة، من خلال موضوعات التحليل. وكما اقترح البنائيون التقليديون (45)، فإنها تعني بنوايا الأفراد، بشكل أقل من اهتمامها بالنية المعبر عنها في الأفعال الاجتماعية. وكما قال فتغنشتاين (90)، فإن النية متضمنة في موقفها، وفي المؤسسات والعادات البشرية
في المثال السابق، ليس في الإمكان الفصل بين «نية الأفراد المشاركين في التطهير العرقي، والعالم الاجتماعي الذي أصبح الجيران فيه «غرباء خطرين»، تم تعريفهم بأنهم تشيتك، أو أوستاسا، أو عثمانيون - وهي مصطلحات ذات صدي تاريخي عميق - والذين ينبغي القضاء عليهم بسبب الخطر الذي يشكلونه. وقد تم تعريف النية والفعل بلغة عامة من جانب جهات فاعلة مبنية اجتماعيا. أما الأسئلة المتعلقة بالنوايا، فترتبط بفئة ثانية من التضارب لعدم الاتساق
الأسباب والمسببات
أما المظهر الآخر لعدم الاتساق الذي يتضح في بناء البنائية مقابل العقلانية، فهو التشديد المتكرر على السييية (9). ويبدو هذا الأمر في ظاهره وكانه مجرد استخدام للكلمات. لكن الخلط بين السبب والمسبب يثير قضية أكثر خطورة، موضحة في المثال التالي. خذ سؤالا عن سبب غزو الرئيس الأميركي جورج بوش للعراق، او سؤالا عن مسبب الغزو الأميركي. فلقد تم التعرف إلى اسباب ومسيات متعددة: ابتداء بالنفط، إلى الرغبة في إتمام مهمات غير مكتملة من بعد حرب الخليج، إلى مخاوف بشأن أسلحة الدمار الشامل الخاصة بصدام، إلى حقوق الإنسان.
إن الفرضية التي تركز على أسباب بوش الفردية، أو على مسببات الغزو، تتحرى تفسيرا يتوافق مع العالم. لكن الحقيقة والزيف هما في النهاية غامضان بحيث إننا لا نستطيع أن ندخل إلى داخل عقول الأفراد، وعادة ما يؤول السباق إلى معرفة المسبب الحقيقي، أو النية الحقيقية، إلى معركة من التأويلات. إلا أن في الإمكان طرح السؤال بطريقة مختلفة، من خلال تركيز أقل على الحقيقة الأساس التي دعت بوش أو الولايات المتحدة الأميركية إلى الشروع بالغزو، وبالتركيز أكثر على الواقع الاجتماعي بأن الغزو قد حصل والتركيز على كيف أصبح ممكنا. يمكننا طرح سؤال كيف أصبح ممكناه (how possible
" question ')، وذلك كما فعل هاورد (1)، من حيث الأحجية المتمثلة في أن العراق كان فعليا يشكل خطرا على الولايات المتحدة الأميركية أقل من ذلك الذي تشكله كوريا الشمالية، إلا أنه أصبح هدفا للغزو، بينما كانت كوريا الشمالية موضوعا للمفاوضات، ويتبع هاورد الكيفية التي قام من خلالها النمط التاريخي للتفاعل مع الولايات المتحدة بتمهيد الطريق أمام السياسات المختلفة تجاه دولتي محور الشر» (Aris of Evil) هاتين
يكشف سوال «كيف أصبح ممكنا، عن أهمية اللغة العامة والنوايا المتضمنة فيها. وقد أصبح معروفا الآن أن المجتمعات الاستخبارية على كلا طرفي الأطلسي قد أساءت الفهم، فقد اعتقدت (خطأ لزيقا)) بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. والتفسير بأن مسبب الغزو هو أسلحة الدمار الشامل الخاصة بالعراق، يعبر عنه بدقة أكبر في ما يلي: إن سبب غزو العراق، والذي قدمته نخب السياسة الخارجية، هو الخطر الذي شكلته أسلحة الدمار الشامل الخاصة بصدام حسين، وسواء أكانت هذه الجهات الفاعلة قد صدفت المعلومات الاستخبارية أم أنها صنعتها بنفسها، فإن هذا السبب، قد جعل الغزو ممكنا. وقد كان السبب هو الوسيلة التي تم من خلالها إقناع عامة الشعب الأميركي والجنود الأميركيين، بأن هذا كان عملا مشروعا من جانب حکومتهم. وقد تم تعزيز هذا السبب في الخطاب السياسي من خلال الربط بين صدام حسين ومعتدي الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وأما فرضية أن صدام كان يمتلك أسلحة دمار شامل، فعلى الرغم من أنها كانت مبنية على بيانات خاطئة [زائفة، إلا أنها أسست السياق المناسب لتقديم مبرر، وهو إعطاء سبب للغزو، وقد صيغ هذا السبب بلغة سياسية سهلة الفهم للعامة. وقام بخلق فعل واواقع»، هما الغزو. وقد كانت النية في تنفيذ الغزو متضمنة في هذه الحيل اللغوية وفي فعل الغزو ذاته.
إن الإشارة إلى السبب بأنه مسبب يعد تأويلا، أي إنه يأخذ القاعدة التي من خلالها يكون هنالك معني ل «إعطاء السبب ويعطيه معنى آخر. إلا أن السبب (reason) له منطق مختلف عن المسبب. فقد تعطي (س) سببا للفعل الذي نفذته هي على (ص). وبقيامها بذلك فإن (س) تفسر فعلها. وقد يكون لهذا تأثير على (ص)، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يعد مسيا بالدرجة نفسها التي يعد فيها سببا، بمعنى أن الأثر الذي يحدئه حجر على حجر آخر قد يدفع الأخر بحركة إلى الأمام، وذلك جزء من مناقشة تحاول فيها (س) أن تقنع (ص)، وبذلك أن تعطي شرعية لأفعالها بطريقة يمكن أن تكون مفهومة ومقبولة من الطرف الآخر
أن تعطي سيبا، أو أن تدخل في عدد من الأفعال الكلامية [الخطابية)، من إعطاء الوعود إلى التهديد، يفتح مجالا للآخر في أن يشارك ويستجيب. وكعلاقة ذات أتجاهين، فإن هذا التفاعل ليس مجرد سؤال عمن يمتلك القوة المادية الأكبر، بل إنه يعتمد على قدر ما من اللغة المشتركة (يجب على الآخر أن يكون قادرا على فهم ما يقال وفهم ما يشكل السبب، أو الوعد، أو التهديد)، والتي تضم معايير للشرعية (أي ذلك الذي يفي أن يكون سيا وجيها، إضافة إلى الظروف التي تتعلق بالكلمات والأفعال السابقة، والتي تجعل الوعد أو التهديد ذا صدقية). وتعد القوة عاملا، ولا سيما في ما يخص التهديدات، بما أن الإمكانات المادية هي شرط من شروط الصدفية، مع أنها ليست الشرط الوحيد. يمكن أيضا أن تعد القوة عاملا من حيث شرعية السبب وإمكان ربطها بدور اجتماعي أو موقف اجتماعي، على سبيل المثال، قد تعطي الدول الغربية أسبابا لاحتفاظها بترسانة نووية ضخمة، وهذه الأسباب قبل بوصفها شرعية، بينما رغبة دولة شرق أوسطية صغيرة، كالعراق أو ايران مثلا، في اقتناء سلاح نووي واحد فقط، قد ينظر إليها على نحو واسع أنها غير شرعية. 











مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید