المنشورات

الجندر، والأمن، والسياسة العالمية

نركز في هذا القسم على الكيفية التي ساهمت من خلالها المنظورات النظرية التي حددناها، والأبحاث الأكاديمية التي ناقشناها، في فهمنا للأمن وعدم الأمان. أما تعريفات النسوية للأمن، وتفسيراتها لانعدام الأمان، واقتراحاتها لكيفية تحسين الأمن، فتختلف كثيرا عن تلك الخاصة بتخصص العلاقات الدولية التقليدي، ونبدا هذا القسم بتقديم بعض التعريفات النسوية، المعاد صوغها، للامن وانعدام الأمن. ومن ثم نقترح بعض التحليلات النسوية الجديدة للأمن، ونستعرض بعض الأدلة الإمبيريقية التي يستخدمها النسويون في صوغ تحليلاتهم الجديدة إعادة تعريف الأمن والأفراد التابعين المشمولين به
إن مفگري تخصص العلاقات الدولية التقليدي، ولا سيما الواقعيين منهم، يعرفون الأمن مبدئيا انطلاقا من أمن الدولة. فالدولة الآمنة هي تلك التي يمكنها حماية حدودها الفعلية والمعنوية في وجه النظام الدولي الفوضوي». ويركز الواقعيون الجدد على الهيكل الفوضوي للمنظومة الدولية حيث لا توجد سيادة تضبط سلوك الدول. ويصورون الدول على أنها جهات فاعلة وحدوية، تكون سياساتها وهياكلها الداخلية أقل أهمية من هذه الحالة الفوضوية في تفسير أمنها وانعدامه، ويعد سلوك الدول في السعي وراء القوة، إضافة إلى قدراتها العسكرية، طرائق لزيادة أمنها؛ حيث إن عديدا من الخبراء الأمنيين يعتقدون بأن السعي وراء القوة من أجل تعزيز الأمن يفسر كثيرا من سلوك الدول عالميا.
وقد بدا بعض مفكري تخصص العلاقات الدولية في الثمانينيات بمهاجمة هذه التفسيرات وبإعطاء تعريفات أوسع للأمن. ومن خلال إشارتهم إلى أن معظم الحروب التي اندلعت منذ عام 1945 قد أشعلتها العداوات العرقية والقومية، وإلى أنها لم تنشب عبر الحدود الدولية، فقد بدأوا بدراسة العلاقة المتداخلة بين الأخطار العسكرية وبين تلك الاقتصادية والبيئية. فمعظم الدول الأفقر في العالم لديها صراعات عسكرية قائمة داخل حدودها. وتساهم هذه الصراعات في الأعداد الكبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين، وفي الدمار البيئي، وفي العنف البنيوي (structural violence) (نسبة للبنية، وهو العنف الذي يمارس على الأشخاص حينما لا يتم إشباع حاجاتهم الأساسية. وقد بدا المفكرون التقديون، كما يطلق عليهم، بتعريف الأمن من حيث الأخطار التي تهدد سلامة البشر وبقاءهم؛ أي أمن الفرد وبيئة البشر، إضافة إلى أمن الدولة.
وعلى غرار الباحثين النقديين في مجال الأمن، يعرف عديد من نسوي تخصص العلاقات الدولية الأمن بالمعنى الواسع حيث يتضمن أبعادا متعددة ومستويات متعددة، كتقليص جميع أشكال العنف، بما فيها العنف المادي، والبنيوي، والبيئي، ووفقا لنسوبي تخصص العلاقات الدولية، تشتمل الأخطار الأمنية على العنف الأسري [المنزلي، والاغتصاب، والفقر، والتبعية الجندرية، والتدمير البيئي، بالإضافة إلى الحرب. ولا يقوم النسويون بتوسيع ما يعنيه الأمن وحسب، بل يوسعون ايضا نطاق الأشخاص الذين يجب أن يضمن أمنهم. وتبدا معظم تحليلاتهم للأمن من الأسفل حيث الفرد او المجتمع المحلي، وليس من الدولة أو من المنظومة الدولية. وقد وضح نسويو تخصص العلاقات الدولية كيف يرتبط أمن الأفراد بالسياسة الوطنية والدولية، وكيف تؤثر السياسة الدولية في أمن الأفراد حتى على المستوى المحلي.
يوضح البحث النسوي كيف أن أولئك المهمشين في حواشي الدول قد يصبحون فعليا أقل أما من خلال السياسات الأمنية لدولتهم. وبرهن الحالة الماليزية التي نوقشت سابقا، أن استغلال عاملات المنازل الأجنبيات - وهو امر كان ينظر إليه غالبا على أنه مسألة خاصة - كان مسموحا به من الحكومة الماليزية كي تكسب تأييد الطبقة الوسطى، وبالتالي تقلل من التوترات العرقية؛ تلك التوترات التي كانت تتسبب بمخاطر على أمن الدولة. وفي كتابها بعنوان الجنس بين الحلفاء (22) (Sex Among Allies)، وهو دراسة عن الدعارة في أنحاء القواعد العسكرية الأميركية في كوريا الجنوبية في حقبة السبعينيات، بين كاثارين مون (Katharine Moon) كيف أصبحت الدعارة مسألة على المستوى الأعلى من السياسة الأمنية الأميركية - الكورية. فعملية تنظيف مخيمات الدعارة والتي جاءت نتيجة لفرض المعايير الصحية ومراقبة من يعملون في الجنس، كانت ترتبط مباشرة بخلق أجواء مضيافة للقوات الأميركية في وقت كانت فيه الولايات المتحدة الأميركية تسحب قواتها خارج كوريا الجنوبية، وتبين كلتا هاتين الحالتين كيف أن الاعتبارات المرتبطة بالأمن القومي كانت تترجم إلى انعدام امن النساء الضعاف المهمشات. إن إعادة تعريف الأمن، وإعادة النظر في الأفراد التابعين المشمولين بالأمن، حفزان النسويين على طرح أسئلة مختلفة، ولا سيما عمن يضمن أمنهم ومن هم الذين لا يتم ضمان أمنهم. تحدي أسطورة الحماية
إن تعريفنا السابق للذكورة والأنوثة عرف الرجال بكونهم «حماة» والنساء بكونهن «أفرادا تحت الحماية (23). والقول إن الرجال يخوضون الحروب من أجل حماية الأشخاص الضعفاء، الذين عادة ما يتم تحديدهم بأنهم النساء والأطفال، أسطورة واسعة الانتشار. فالنساء والأطفال يشكلون الأغلبية العظمي من ضحايا حروب السنوات الأخيرة، حيث ارتفعت أعداد الضحايا المدنيين من حوالي 10 في المئة في بداية القرن العشرين إلى ما يقارب 90 في المئة مع نهايته. وفي عام 1999 كان حوالي 75 في المئة من اللاجئين من النساء والأطفال الذين فر كثير منهم من الحروب. فالحروب صعب على النساء القيام بمسؤولياتهن في توفير الرعاية؛ حيث تتضرر النساء تحديدا، كأمهات أو معيلات الأسرهن، نتيجة للعواقب الاقتصادية الناجمة عن الحروب. 

توضح لورا شوبيرغ (Laura Sjoberg) في كتابها الجندر، والعدالة، والحروب في العراق (Gender Justice , and the Wars in Iraq)، أن المكانة المفترضة للمرأة بكونها من المدنيين الأبرياء، تجعل الحروب أصعب عليها، وليست أسهل، وذلك من خلال تعريفها أنها فرد محمي من دون إعطاء اعتبار لسلامتها الفعلية. وبما أنه قد تم افتراض حصانة المرأة ضد الحروب، فقد تغاضت الأطراف المتحاربة في الغالب عن مدى المعاناة البالغة التي تلحق بالنساء بسبب الحروب، وقد لفت النسويون انتباهنا أيضا إلى الاغتصاب في أوقات الحروب، وعادة ما لا يكون الاغتصاب مجرد احادث من حوادث الحرب، وإنما استراتيجية عسكرية مقصودة، كما هو الحال في الحرب التي اندلعت في التسعينيات في يوغسلافيا السابقة. وبدلا من أن ينظروا إلى القوة العسكرية بوصفها جزءا من ترسانة الدولة للدفاع عن نفسها ضد الأخطار الأمنية التي تتهددها من الدول الأخرى، يرى النسويون أن القوات العسكرية هي غالبا أخطار تهدد أمن الأفراد (وخصوصا النساء)، كما أنها تتنافس على المصادر الشحيحة التي قد تعتمد عليها النساء أكثر من الرجال.
وبالنظر إلى آثار الحرب من خلال عدسات جندرية، نجد أن الحرب بناء ثقافي يعتمد على أساطير الحماية. وقد كانت هذه الأساطير، ولا تزال، مهمة في المحافظة على شرعية الحرب. كما أنها تساهم في نزع الشرعية عن السلام الذي غالبا ما يرتبط بالخصائص الأنثوية، كالضعف، والتنازل، والمثالية. ويمكن أن يؤدي النظر لهذه البنى الجندرية إلى تعميق فهمنا لمسببات الحرب، وأن يتيح لنا أن نرى كيف أن طرائق معينة في التفكير بالأمن قد تم تشريعها بينما تم إسكات طرائق أخرى. كيف نفهم انعدام الأمن الاقتصادي
نظر التحليل النسوي للأمن العسكري إلى الآثار الجندرية للحرب، تحديدا في علاقتها بأمن الأفراد. ويسلط البحث النسوي في الأمن الاقتصادي الضوء تحديدا على نقاط الضعف الاقتصادية للمرأة. وحيث إن هنالك فروقا عالمية هائلة وواضحة في المكانة الاجتماعية الاقتصادية للمرأة، وذلك اعتمادا على العرق، والطبقة الاجتماعية، والموقع الجغرافي، فإن النساء، وبشكل بالغ، يقع في اسفل السلم الاجتماعي الاقتصادي في جميع المجتمعات. ومن أجل تفسير هذا الأمر، لفت النسويون انتباهنا إلى فئة جندرية من العمالة التي لها جذور في أوروبا القرن السابع عشر، حيث أخذت تعريفات الذكر والأنثى بالانقسام إلى قطبين بطرائق كانت ملائمة للتقسيم المتزايد بين العمل والمنزل والذي كان مطلبا للرأسمالية الأولى. وقد بدأ مفهوم لربة المنزل، (housewife) بتحديد مكان عمل المرأة [الطبيعي داخل المجال المنزلي الخاص، وعلى النقيض من ذلك، تحديد عالم الإنتاج العام سكنا [حصريا] للرجال. وعلى الرغم من أن معظم النساء يعمل بالفعل خارج المنزل، فإن ربط المرأة بالأدوار الجندرية، کربة للمنزل، ومقدمة للرعاية، وأم، أصبح يرى أمرا طبيعيا». وبناء عليه، عندما تنضم النساء فعليا إلى القوى العاملة، فإنهن مئلن في المهن المرتبطة بالرعاية أو في الصناعات التحويلية الخفيفة» بدرجة لا تتناسب مع درجة تمثيلهن في الوظائف الأخرى، وهذه الوظائف المرتبطة بالرعاية أو الصناعات التحويلية يتم اختيارها بسبب القيم التي يتم التشديد عليها في التنشئة الاجتماعية للإناث. فالنساء يزودن الرأسمالية العالمية المعاصرة بقوة عاملة مثلى، فحيث تم تعريفهن على أنهن ربات بيوت ونشئ عاملات،
فإنهن يمكن أن يتقاضين أجورا أدني على افتراض أن أجورهن إضافية تكميلية الدخل العائلة، وتحدث دراسة إليزابث بروغل التي ناقشناها سابقا، والتي تتعلق بالعمل من المنزل، عن الأجور المتدنية التي يتقاضاها من يعملون من منازلهم وهو أمر متال في هذا الافتراض افتراص أن أجورهن تکميلية، غير أساسية. وعلى الرغم من ذلك، في الواقع، فإن حوالي ثلث إجمالي الشؤون المنزلية تديرها النساء.
وحتى عندما تنتفع المرأة من انخراطها في القوى العاملة، فإنها تستمر في المعاناة من العبء المضاعف ضعفين أو ثلاثة، حيث إن المرأة تتحمل [إضافة إلى عملها كعاملة معظم مسؤولية أعمال المنزل والأعمال المجتمعية غير مدفوعة الأجر. وتؤدي العمالة غير مدفوعة الأجر دورا حاسما في التضخيم الإحصائي لحجم العمالة في الأعمال مدفوعة الأجر، إلا أنها نادرا ما كانت موضعا لاهتمام التحليل الاقتصادي. فالتعريف الضيق للعمل بكونه العمل في الاقتصاد مدفوع الأجور، وهو تعريف يستخدم في المحاسبة الاقتصادية، يميل إلى إخفاء عديد من المساهمات التي تقدمها النساء للاقتصاد العالمي. ولا يمكن تفسير الفقر الشديد للنساء من خلال ظروف السوق وحدها؛ فالتوقعات الجندرية (النمطية لدور النساء في ما يتعلق بالقيمة الاقتصادية العمل المرأة وأنواع المهام التي يتوقع من المرأة أن تؤديها تساهم في انعدام أمنها الاقتصادي.
وعلى غرار الباحثين النقديين في الأمن، وع النسويون تعريفاتهم للأمن وتحليلاتهم له. لكنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك من خلال إظهارهم لمدى أهمية الجندر بوصفه فئة تحليلية، في فهمنا للأمن وانعدامه. وباستخدام عدساتنا الجندرية، سنفحص الآن، وبتفصيل أكبر، سياسة عقوبات الأمم المتحدة على العراق خلال التسعينيات، وهي حالة تدعم هذا الافتراض. 











مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید