المنشورات

السياق متعدد التخصصات لما بعد البنيوية

ملاقة بين الوضعية والعلم في مسألة ام العلاقات الدولية بدور العلم والتكنولوجيا في تطوير عالمنا العصري. وقد أدت إمكانات السيطرة والقدرة التنبؤية التي توفرها العلوم الطبيعية إلى تقديم نموذج سعى العلماء الاجتماعيون إلى تقليده. وقد أسس هذا النموذج، الوضعية (positivism)، وفقا للنظرية الإمبيريقية في المعرفة التي حاجت بأن التجربة الحسية تشكل المصدر المشروع الوحيد للمعرفة المزيد من التفاصيل عن الوضعية انظر الفصل الأول). وتشير التجربة والخبرة] (experience) إلى الوصول المباشر من خلال الحواس البشرية إلى واقع خارجي يكون أشياء مادية. وإن المفهوم الإمبيريقي في الوصول إلى الحقائق، كنظرية إبستيمولوجية (نظرية للتنظير تتعلق بكيف نعرف)، يفهم أن المعرفة مشتقة من علاقة بين شخص ما (الشخص الذي يعرف) وموضوع ما (الموضوع الذي يعرف).
كانت هذه التطورات النظرية مركزية في تحول تاريخي رئيس، وهو الصدام الفكري في عصر التنوير بين الكنيسة والعلم الذي تحدى سيطرة الفكر الديني على النظام الاجتماعي، وهذه التطورات الفكرية التي شفيت بالتنويرية (Enlightenment)، تضمنت جعل الإنسان، والعقل» مركزا للخطاب الفلسفي، بدلا من «الإله، والمعتقده، كما جعلت بناء الدولة وشرعيتها قاعدة للعمل السياسي، عوضا عن الكنيسة، وكانت تلك لحظة تقاطعت فيها المعرفة مع القوة بتاثير لا يزول. وعلى الرغم من أن مفهوم عصر التنوير عن المعرفة كان يقصد به تحرير البشرية من الدوغما الدينية (العقيدة الدينية الجامدة المتزمتة غير المرنة)، فإنه هو ذاته قد تحول مع الزمن إلى دوغما. ومع نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت سيطرة هذا المفهوم تعني أن المعرفة تتساوى مع العلم وأن العقل محصور في العقل العلمي. وقد كان هذا التحول الدغماني للعلم يعني أن الحياة الاجتماعية مركزة على السيطرة الفنية على الطبيعة والسيطرة الإدارية على البشر، حتى أصبحت القضايا السياسية مسائل في النظام الانضباط والكفاءة
إن التصور الوضعي للعلم في قاعدة الفكر التنويري مبني على ثلاثة افتراضات إمبيريقية. أولا، الواقعية المعرفية (epistemic realism): وتتمثل بوجهة النظر القائلة بأن هنالك عالما خارجيا، وجوده ومعناه مستقلان عن أي شيء يفعله المشاهد، ثانيا، افتراض وجود لغة علمية عالمية universal scientific) (language : وهو الاعتقاد بأن هذا العالم الخارجي يمكن وصفه بلغة لا تفترض أي شيء مسبقا، ما يسمح للمشاهد بأن يظل غير متحيز ومنصف. ثالثا، النظرية التطابقية في الحقيقة (correspondence theory of truth): وهي أن المشاهد يمكن أن يصور حقائق العالم بجمل تكون صحيحة إذا تطابقت مع الحقائق، وتكون خاطئة إذا لم تتوافق معها. ويمكننا الاطلاع على هذه الافتراضات في المرجع الكلاسيكي لهانز مورغتتار حيث يكتب أن أي نظرية يجب أن تقارب الواقع السياسي بنوع من المخطط العقلانية، وأن على النظرية أن تميز بين ما هو
حقيقي موضوعيا وعقلانيا، ومدعم بالدليل ومستنير بالعقل، وما لا يعدو كونه أكثر من حكم شخصي ذاتي، مفصول عن الحقائق كما هي، ويحصل على معلوماته من التحيز والتمني (2) ما بعد الإمبيريقية في العلوم
أظهر عدد من التطورات الفكرية أن الفهم الوضعي للإجراء العلمي الذي حاولت العلوم الاجتماعية أن تتخذه نموذجا لا يمثل في الحقيقة نهج البحث العلمي التحقيق العلمي (scientific inquiry). فلقد مثل المنعطف اللغوي (linguistic tum) في الفلسفة الأنكلو - أميركية ابتعادا عن فكرة أن اللغة هي وسيط شفاف يمكن من خلاله فهم [إدراك العالم - وهي نظرة اقترحت أن من الممكن الذهاب إلى ما وراء اللغة وتأصيل، المعرفة في العالم ذاته - نحو تصور للغة فهمها هذا المنعطف على أنها متضمنة في الممارسة الاجتماعية وغير منفصلة عن العالم (29). وبما أن هذه التحولات كانت متحالفة مع الفكر التاويلي الترجمي (hemmeneutic) في فلسفة القارة الأوروبية - وهو تقليد فكري كان يهتم
أصلا بقراءة النصوص الإنجيلية، والكلاسيكية، والقانونية، وقد تطور إلى نصور الأهمية التأويل للإنسان بوصفه إنسانا - فقد ساهمت هذه التحولات في فهم جديد للعلاقة بين اللغة والحقيقة (26). كذلك، فإن التطورات في فلسفة العلم ذاتها - وخصوصا ما يدعي بحوارات ما بعد الإمبيريقية (2) (post
empiricist) - قد تحدت أيضا صدقية التصور الوضعي، وقد ساهمت هذه التطورات في إعادة تقويم العلم من خلال الدراسات الاجتماعية التي تثير التساؤلات
حول قيمة الحقائق، ومعنى الموضوعية، بالنسبة إلى البحث العلمي (20). أخيرا، فإن تطور علم التعقيدات (complexity science) (بما في ذلك نظرية الشواش (chaos theory) [مشكلة التنبؤ في حالة الفوضى أو النظام العشوائي] والمقاربات الجديدة الأخرى المتعلقة بالانتظامية (regularity)) توسع وبشكل أكبر التحدي للافتراضات المتعلقة ب «الفهم الشائع، (common sense) حول ما يعد علما وكيفية إجرائه، ويربط أشكال الفهم المعاصرة للعلم بالفكرة بعد البنيوية (19). ووفقا لهذه المعطيات، فإن ما بعد البنيوية ليست مضادة للعلم بأي معني کان.
في فلسفة العلم، ركزت حوارات ما بعد الإمبيريقية على جوهر الخلاف بين الوضعيين ومناهضي الوضعية، وهو مفهوم الحركة التنويرية للمعرفة. فالبحث عن الحقيقة بالنسبة إلى التنويرية كان يعني البحث عن الأسس، والحقائق التي يمكن أن تؤصلة المعرفة لتضع أساسا لها. وهكذا، فإن المنظور بعد الإمبيريقي مهتم برفض مثل هذا الفكر الأساسياتي foundational) (thought (ک الادعاء بأن الدولة هي المبدأ المنظم للعلاقات الدولية، أو أن النظرية الأخلاقية تتطلب قواعد ثابتة في العدالة كاسس للفصل بين ما هو صحيح وما هو خاطئ)، والذي يحققه من خلال فهم جديد لعلاقة الشخص بالموضوع subject) (object relationship في نظريات المعرفة. وينصور منظرو ما بعد الإمبيريقية هذه العلاقة باعتبارها علاقة يقوم فيها كل من التعبيرين ببناء الآخر، وذلك بدلا من رؤيتها وكانها التعارض الجوهري بين كبائين معطيين مسبقا. وهذا التقليل من شأن الفصل بين الأشخاص التابعين (subjects) والموضوعات يعني أن أي ادعاء للمعرفة التي تعتمد على الانقسامات الثنائية والمماثلة لثنائيات الانقسام بين الشخص والموضوع (مثل الحقائق ضد القيم، والمعرفة الموضوعية مقابل التحيز الذاتي، أو المشاهدة الإمبيريقية بالمقارنة بالاهتمامات المعيارية) «هي ... غير مبررة إيستيمولوجيا (10)
والنتيجة النهائية هي أنه بدل الافتراضات الأساسية المتعلقة بالواقعية الإبستيمولوجية، وباللغة العلمية العالمية، وبالنظرية التطابقية للحقيقة، والتي تكمن خلف الأشكال الوضعية لفهم العلم، والمفهوم التنويري للمعرفة، فإن كل البحث العلمي - في العلوم الإنسانية وكذلك في العلوم الطبيعية - بجب أن يكون مهتما بالتكوين الاجتماعي للمعنى، وبالبناء اللغوي للواقع، وتاريخية المعرفة، وهذا بدوره يعيد تأكيد عدم إمكان الاستغناء عن التأويل، ويقترح أن كل المعرفة تتضمن علاقة بالقوة في رسمها لخريطة العالم. 













مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید