المنشورات

ردة فعل تخصص العلاقات الدولية على ما بعد البنيوية القلق النقدي

كما سنرى، فإن هذه الأبعاد حاضرة في التصورات بعد البنيوية للسياسة والعلاقات الدولية التي قدمناها آنفا، كما أنها تساعد على جعل هذه التصورات ممكنة حتى عندما تذهب تلك التصورات إلى ما هو أبعد من الأولوية المعطاة اللغة في بناء الحقيقة وهو ما يميز المقاربات البنائية) (constructivism) للسياسة الدولية. وعلينا إذا أن نكون واضحين بشأن التشابهات والاختلافات في المقاربات النقدية لتخصص العلاقات الدولية. لكن معرفة هذه الاختلافات التمايزات]، في أي حال، قد غابت عن الردود التي أثارتها المقاربات النقدية في المجال. إن أولئك الذين اعترضوا على الانتقادات النظرية للنظرية meta
- theoretical) (critiques والموجهة إلى الواقعية، والواقعية الجديدة، وما شابههما، وخصوصا الطريقة التي شككت من خلالها تلك الانتقادات في الاعتمادية على الحقيقة الخارجية، والقواعد الأساسية (foundations)، والموضوعية، وشفافية اللغة، قد سموا تلك النقديات بأنها «ما بعد حداثية» (postmodem)، على الرغم من أن هنالك القليل من المفكرين، إن وجدوا، الذين يستعملون هذه التسمية، كما أن هنالك كثيرين ممن يرفضونها (31)
وفي أحد أوائل تقويمات الانتقادات للنظرية الشارحة، قام روبرت کيوهاين (2) بتقسيم المجال ثنائيا إلى العقلانيين» مقابل «التأمليين»، ووجه نقدا الاذعا إلى المقاربات النقدية الخاصة بالاتجاه الثاني [التأمليين لافتقارها إلى
(0) النظرية البنائية (constructivism) مختلفة عن النظرية البنيوية (structuralism)، وهي ردة فعل الوضعية التي تقول إن المعرفة الحقيقية الوحيدة هي التي تبني على خبرة الحراس الحقيقية. والبناية تقول إن انكار العلوم او الحقائق مي مبان عقلية أو ذهنية (mental constructs) نوظنها لفير خبرائنا الحسية، وهي ليست مكتشفة من العالم حولنا، وإن الحقيقة هي فقط ما يمثله نكرنا الإنساني. وجوهر الأشياء او حقيقتها هي خارج فكرنا الإنساني، لكن المعنى والمعرفة هما دائما بناء إنساني (human construction). إن تمثيل الأفكار والأشياء هو عمل البناء الاجتماعي (socially construnel). وهذا يعني قوة الأفكار في إعطاء معاني للحقائق المادية في حياة الناس، ولا توجد طريقة أو منهجية وحيدة في العلوم، بل هناك تعددية المناهج او طرائق مفيدة، وهي تشير إلى الحد الذي يمكن للاعبين، والمصالح، والمعايير، والنظم، ان تكون بناءات او منشآت الكيانات اجتماعية تستطيع ان تغير على مدى الزمان والمكان بتفاعلها الإنساني المترجمة الصرامة المنهجية المطلوبة في البحث العلمي الاجتماعي. وقد خطا کيوهاين المقاربات النقدية لعدم تبنيها للمعايير الإمبيريقية المتعلقة بأجندات البحث، وبناء الفرضيات، واختبار الفرضيات، وهذه (في نظره) هي التي تعطي الصدفية للمقاربات. وعلى أي حال، فإن کيوهاين، في وضعه لهذه المزاعم، قد أخفق في إظهار وعيه وفهمه للتحدي الذي فرضته التطورات بعد الإمبيريقية في فلسفة العلم، وكان إخفاقه بسبب معاييره التي افترض بأنها موضوعية). إن أولئك الذين أطلق عليهم تسمية «ما بعد الحداثيين، وهم في الحقيقة من المدرسة النقدية التحليلية، قد استقبلوا باي شي سوى الترحيب من التيار الرئيس في تخصص العلاقات الدولية، إذ اتهموا لاحقا بأنهم اعتدون بأنفسهم لاعتبارهم أنفسهم مصدرا للحقيقة، (19)، وقد قوا بأنهم «شريرون، واخطرون» (9)، ووجه إليهم نقد لاذع بأن ما يتكلمون عليه هو التخصص علاقات دولية سبي» و اثرثرة متعالية (10)، وقد تهمت أفكارهم خطا بأنها «مثالية فلسفية)، واعتبروا غير عقلانيين لقيا (1). إن هؤلاء النقاد، وبصرف النظر عن عدم استعدادهم للتعاطي مع طرائق التفكير التي اعتبروها «أجنبية، دخيلة، قد تصرفوا وكان التشكيك في المقاربات النقدية كان يعني رفض الأوعية التقليدية للسياسة (وخصوصا الدولة)، ورفض القدرة على التمييز بين الصح والخطا. وبقيامهم بذلك، فإنهم فهموا خطأ بأن الجدالات حول الإنتاج التاريخي للقواعد الأساسية هي الزعم بأن كل القواعد الأساسية يجب أن ترفض
عندما تثير المنافسات النظرية مثل هذه الحماسية العنيفة، فإنها تشير إلى أن هناك مجازفة أكبر من مجرد الاختلاف المعرفي. وكما حاج كونولي (3)، فإن المنهجيات المختلفة عبر بطريقة أو بأخرى عن ارتباطات عميقة - فهم على انها التزامات ميتافيزيقية أو إيمان وجودي - بالنيابة عن أولئك الذين يدافعون عنها، وبالنسبة إلى أولئك الذين يتخذون مثل هذا الموقف الاعتراضي الحاد إزاء المنظورات النقدية التي يجمعونها معا ويصفونها بأنها اما بعد حداثية»، فإن إيمانهم هو فهم معين للعلم. في المقابل فإن ارتباطهم بذلك الإيمان بالعلم - على الرغم من الحوارات في فلسفة العلم التي أثبتت كيف أن فهمهم للعلم لا يمكن دعمه من خلال العقل - يشتق من قلق بشأن ما يعنيه غياب القواعد الآمنة بالنسبة إلى الأخلاق والسياسة. ويسمي برنشتاين (90) هذا الوضع باسم «القلق الديكارتي، (Cartesian Anxiety لأن البحث الاستقصاء في فلسفة ديکارت (Descartes) كان يسعى لإيجاد أرضية آمنة للمعرفة. إن القلق الديكارتي هو الخوف من أن نكون، وبالنظر إلى زوال الموضوعية، غير قادرين على إصدار أحكام لطالما كانت مركزية في فهم الحياة العصرية، أي التمييز بين الصحيح والخاطئ، وبين الصالح والسئ. إلا أن التحدي هو النجاة من القيود التي يجب أن ينظم فيها الفهم الفكري والحياة السياسية، من خلال الرجوع إلى بديل أو إلى آخر. إن الحوارات بعد الإمبيريقية في فلسفة العلم قد أظهرت أن الأطر الازدواجية أو المنقسمة ثنائيا هي أطر غير مستقرة. فنحن نحتاج، بكلمات برنشتاين)، إلى الانتقال إلى ما هو أبعد من الموضوعية والنسبية. نحن في حاجة إلى تطوير طرائق في التأويل تسمح بإصدار الأحكام الاجتهادات] 

في القضايا الاجتماعية والسياسية محليا وخارجيا، مع قبولنا، أولا، بأن تلك الاجتهادات لا يمكن الحصول عليها بالاعتماد على ادعاءات حول حقيقة خارجية قائمة مسبقا، وثانيا، بأن مثل تلك الحاجات لا يمكن أن تكون مقيدة من خلال استدعاء الانقسامات الثنائية كازدواجية الحقيقة القيمة، وازدواجية الموضوعي الذاتي
الخلط بين ما بعد البنيوية وما بعد الحداثية
من خلال إطلاق تسمية اما بعد الحداثية (postmodernism) على المنظورات النقدية التي تتعامل مع التأويل والتمثيل في السياسة الدولية، يرى النقاد أن الحداثة (modernity) في اعتقادهم هي المعرضة للتهديد. وإذا كان لنا أن نفهم ما تعنيه أما بعد الحداثية، فعلينا أيضا أن تعنى بالحداثية (modernism). فما هو المقصود بهذا الاصطلاح إدا؟
شير «الحداثية، إلى الأسلوب الثقافي السائد خلال الحقبة من تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى انطلاق الحرب العالمية الثانية، مشتملا على الأفكار والقيم الموجودة في الرسم، والنحت، والموسيقى، والعمارة، والتصميم، والأدب الذي يخص تلك الحقبة. وقد كانت الحداثية جزءا من التقلبات المضطربة العظمى في النظام السياسي، والسوسيولوجي، والعلمي، والجنسي، والأسري في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وكانت أيضا جزءا من الاستعمارية والإمبريالية، اللتين آثرت من خلالهما هذه التحولات الجمالية والتكنولوجية جذريا في الأنظمة السياسية، والسوسيولوجية، والعلمية، والجنسية، والأسرية، للمجتمعات غير الأوروبية. فالحداثية كانت لها علاقة كبرى بالتحولات التكنولوجية والعلمية التي جعلت أوائل القرن العشرين زمائا للتفاؤلية المعدية والخوف غير المستقر. لقد كانت حقبة شهدت الثورة الصناعية وهي تنتج خطوط السكك الحديد الضخمة، وأول طائرة، والسيارات، والمصابيح الكهربائية، والتصوير الفوتوغرافي، والأفلام، وطائفة كبيرة من الاختراعات الميكانيكية، وقد أعطت هذه الآلات الأمل في ظروف اجتماعية محسنة، وتنامي الثروة، وإمكان نخطي محدودية القدرات الإنسانية. لكن تأثيرها على أسلوب الحياة الذي سبق المكتنة جعل الناس يخشون على النظام الاجتماعي القائم، في الوقت عينه الذي حشروا فيه الزمان والمكان في النظام العولمي. وقد كانت الحداثية هي الاستجابة الثقافية لهذا التغير، كما هو واضح في الفن التجريدي للتكعيبين (Cubists) (مثل پيکاسو (Picasso) وبراك (Bmque)) الذين شوهت أعمالهم طريقة النظر إلى الأشياء وفضلت الأشياء المنتجة
المصنعة على البيئات الطبيعية (2). وكان نهم بهدف إلى تمثيل الحياة الحديثة، وتأويلها، وإعطاء التعليقات النقدية عليها.
إن إيمان الحداثيين الأوائل بالتكنولوجيا سرعان ما تلاشي في الحرب العالمية الأولى، فقد تحولت الآلات العظيمة الواعدة إلى تكنولوجيات للمذابح الجماعية، وفقد المستقبل بريقه، وامتلأ الفن بالسخرية، والاشمئزاز، والاحتجاج. وفي مجال الإمبريالية الخاصة بأوروبا، أدت التساؤلا حول الحداثية إلى إشعال القومية المناهضة للاستعمارية. وكانت «الحداثية» في هذا السياق تدخلا سياسيا في سياق ثقافي محدد له نتائج عولمية. لكن بعد الفاشية في أوروبا، وحرب عالمية أخرى، والهولوكوست، وعملية تفكيك الاستعمار، كانت الميزة النقدية للحداثية قد استفدت. وفقدت الأشكال الحداثية الثقافية أي معني متعلق بالجديد وبالإمكان الواعد.
إن هذه هي الخلفية التي انطلقت منها وما بعد الحداثية، خلال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، ممثلة ومؤولة للثقافة الغامضة، والتعددية، والمعولمة أكثر من أي وقت مضى، والمتعلقة بعالم الحرب الباردة. فقد كان اصطلاح اما بعد الحداثي، في الأدب، والفن، والعمارة، والموسيقى، يشير إلى مقاربة معينة، انتقائية في الغالب، لهذا السياق الثقافي (ومن الأمثلة التي يمكن أن تذكر هنا لوحاث آندي وارهول (Andy Warhoi)، والخلط في الأساليب في عمارة تشارلز جنکس (Charles lenecks)، و موسيقي مادونا (Madonna). وفي هذا السياق شير دما بعد الحداثية، إلى الأشكال الثقافية التي أوحت بها ظروف التسارع الزمان والمكاني، والاستهلاكية المفرطة التي نمر بها في الحقب يطلق عليها بعضهم تسمية اما بعد الحداثة، (postmodernity).
إن كثيرا من المشكلات المرتبطة بمفهوم ما بعد الحداثية تأتي من التقسيم المضلل للفترات التاريخية الذي يقترن بكلمة ما بعده (post). فكثير من تقاد ما بعد الحداثية يهاجمونها بجدالهم أنها نفترض فاصلا زمنيا مع الحداثة، وبحاجون بان تعبير اما بعد الحداثة، يفترض أننا نعيش في حقبة تاريخية متمايزة تماما عن الحداثة، وتحل محلها بطريقة ما، وفي أي حال، وكما حاج جيمسون)، فإن هيكل ما بعد الحداثة، الذي تسعى المقاربات النقدية التأويلية إلى إشراكه تاريخيا ليس نظاما جديدا حل محل الحداثة، بل إنه إشكالية ثقافية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية تميزت بإعادة صوغ التعبير عن الزمان والمكان في العالم الحديث (4). وهذه الإشكالية واضحة في بعض التطورات مثل المضاربات المالية والتراكم المرن، والتي تبتعد عن الأشكال الصناعية الحديثة للرأسمالية والمتأصلة في استغلال العمالة في عملية الإنتاج.
إن معظم الالتباس والعدائية المحيطين بمفهوم اما بعد الحداثية، في تخصص العلاقات الدولية ينبع من الفكرة الخاطئة التي تفترض أن الذين يوظفون التحليل التأويلي ليفهموا باسلوب نقدي التحولات الحاصلة في الحداثة، هم في الواقع يحتفون بالسياق الثقافي السطحي والمتسارع، والذي تحدى كثيرا من ثوابت الحداثة. وفي حين أن ما بعد الحداثة، هو التشكيل الثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي ضمن الحداثة، والذي ينتج عن تغيرات في علاقات الزمان والمكان، فإن ما بعد البنيوية هو واحد من التحليلات التأويلية التي تتعامل نقديا مع إنتاج هذه التحولات ومضامينها. 













مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید