المنشورات

التوجه النقدي لما بعد البنيوية

السباق السياسي
من الناحية الفلسفية، فإن عددا من المفكرين الذين يقاومون تسمية «ما بعد الحداثية، التي يعدونها خاطئة، يشعرون براحة أكبر باستخدام اصطلاح اما بعد البنيوية، واما بعد البنيوية، هو مجال فلسفي منفصل لديه علاقة نقدية بالبنيوية، والحداثة، وما بعد الحداثة. وقرن الحركة الفلسفية البنيوية بقوى ثقافية «حداثية». وقد كانت البنيوية منظورا فلسفيا فرنسيا يرتبط باللغوي الفرنسي فردينان دو سوسور (Ferdinand de Saussure) والناقد الثقافي رولان بارتو) (Roland Barthes). وقد كان منظرو البنيوية يهدفون إلى دراسة البنيان الاجتماعي والثقافي للهياكل المتنوعة التي تعطي معنى لحياتنا اليومية. وتهتم ما بعد البنيوية، وبالقدر نفسه، بتحليل تلك الهياكل التي تنتج معنى، لكن بطريقة تتوافق والتحولات في النظام الاجتماعي لحقبة أواخر القرن العشرين.
وقد ارتبطت الحوادث التي أثرت في ما بعد البنيوية بنضال المقاومة ضد معسكرات القوى القائمة والإمبريالية، مثل الحرب الجزائرية وحرب فيتنام، وربيع براغ لعام 1968، وحركة أيار/ مايو 1968 في فرنسا، والتعبير الثقافي في يوغسلافيا، والمطالبات بالعدالة الاقتصادية في العالم الثالث، وحركات الحقوق المدنية، والحركات البيئية والنسوية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، وبحسب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز 97) (Gilles Deleuze)، كانت هذه الحوادث جزءا من حركة دولية وربطت انبثاق أشكال جديدة من الكفاح بإنتاج نوع جديد من الذاتية». وبتعبير آخر، فإن هذه الكفاحات، بخلاف الحركات الثورية في أوائل القرن العشرين، لم تكن مهتمة بتحرير ابشرية عالمية من القيود المفروضة عليها من المجتمع، بل مهتمة بإعادة تشكيل الذاتية السياسية مكونات السياسة على ضوء الأشكال المعولمة للرأسمالية في أواخر حقبها. ويعني هذا السياق أن ما بعد البنيوية لديها أشياء مهمة تقولها عن مفهوم الهوية في الحياة السياسية.
ميشال فوكو: الحدود، والروح الأخلاقية، والنقد
إن الاتجاه النقدي لما بعد البنيوية يمكن العثور عليه في كتابات مفکرين عديدين). وبغرض التبسيط، سيركز هذا الفصل على أعمال ميشال فوكو (Michel Foucault). إن التفكير بالحاضر بطريقة تاريخية يتضمن روخا أخلاقية لما يسميه فوکو با موقف المحدودية» (the limit attitude) [أي الشعور بمحدودية الأشياء، ويتضمن النظر في الحدود التي تعطي معني لفكرنا وممارستناء فعلي سبيل المثال، تعبير العقل والعقلانية يعطي معني من خلال إنشاء حدود يقال إن غياب العقل واللاعقلانية يبدآن عندها. علاوة على ذلك، فإن موقف المحدودية، يتضمن استجواب تلك الحدود، ليس من خلال التخلص منها، أو الهروب منها، أو تجاوزها، بل من خلال تحديها والتفاوض حولها من طريق الجدال.
إن هذا الاتجاه النقدي متسق مع مشروع [الحركة التنويرية الذي يتضمن استجواب ظروف الوجود الإنساني بطريقة نقدية، ويستمد الحيوية من مثالية
(49) يمكن أن تتضمن قائمة الأسماء جان پودريار (Jeun Baudrilland)، ملين سيکسر Helena) (Cioca، جيل دولوز (Gille Deleum)، جاك دريدا (Jacques Derrida)، لوس اريغاراي (Lee Irigarany) جاك لوكان (Jacq Lucan)، إيمانويل ليناس (Emmanuel Levinas)، جان فرنسوا ليونار ean
- Francoln) (yotana ا، بول فيريلير (Paul Virilio)، وكتير سواهم. وسيكون من الخطا القول إن فلسفاتهم متطابقة، كما أنها ستكون غلطة أن تتجاهل الاختلافات المتعددة في ما بينهم. وللحصول على مقدمات جيدة لطائفة الفلسفة ما بعد البنيوية، انظر: ما Vincent Descomba Modern Fant Philosophy
, Translated by
Seon-Fan mnd J. M. Handing (Cambridge, MA: Cambridge Univerisy Pet 198 I) Jonathan Caller, e Deconstruction: Theory and Criticism after Siniciralism (Ithaca, NY: Cornell University Press,
and Panornism (Cambridge, MA: Cambridge University 1982); Stephen White, Political Thr Press, 1991); Jenny Edkins, Poststructuralism and International Relations: Bringing the Political Back
Polstructuralism
Boy, Cnnical Resistance: Fn In (Boulder, CO Lynn Reinner, 1999), and David
(2004 ,P
hridge , MA : MIT Press ما
cririque (C 

تتعلق بالإعتاق. والموقف النقدي هو موقف إعتاقي انحرريا من حيث إنه يرسم الحدود التي تشكل الوجود، وبقيامه بذلك فإنه يوفر الظروف التي يمكن في ظلها تحدي تلك الحدود، وما تستدعيه من استثناءات أو إقصاءات. وعلى الرغم من أن أولئك الذين يرفضون دما بعد الحداثية» يزعمون أن موقفها مناهض للحداثة ومناهض للتنويرية، فإن التحدث من هذا المنطلق (ضد التنويرية مقابل مؤيد للتنويرية) هو تكرار للمنطق الإقصائي المتضمن التقرير بين هذا أو ذاك، والذي يسميه فوکو با ابتزاز عصر التنوير. وبدلا من الاستسلام المثل هذه الإيماءات الإقصائية، يجادل فوكو بأن موقف الحداثة كان لديه منذ بداياته علاقة مستمرة مع مواقف المناهضة للحداثة». وهذه التناضلية (agonism) هي بذاتها خاصية تميز التنويرية وهي كامنة فيها، لأن ما يربطنا بالتنويرية، وفقا الفوكو، اليس الإخلاص لعناصر عقيدية (doctrinal elements)، بل هو إعادة إحياء دائمة لموقف ما؛ أي روح أخلاقية فلسفية يمكن وصفها بأنها نقد دائم العصرنا» (97). إذا، فما بعد البنيوية هو أولا وأخيرا مقاربة وليست نظرية. فكما حاج فوكو:
إن الأنطولوجيا الناقدة لأنفسنا يجب بالتأكيد الأعتبر نظرية، أو عقيدة، أو حتى مجموعة دائمة من المعرفة التي تتراكم؛ وإنما يجب تصورها موققا، أو روخا أخلاقية (ethos)، أي حياة فلسفية يكون فيها النقد لما نحن عليه في وقت ما، وفي الوقت ذاته، هو التحليل التاريخي للحدود التي فرضت علينا، ويكون هذا النقد هو التجريب المستمر لإمكان تجاوز تلك الحدود:49).
وباعتبارها مقاربة، أو موققا، أو روخا أخلاقية، فإن ما بعد البنيوية ناقدة بطبيعتها. لكن النقد هو اتجاه إيجابي وليس سلبيا. فهو يتعلق بکشف الافتراضات والحدود التي جعلت الأشياء على ما هي عليه، بحيث إن ما يبدو طبيعيا ولا بديل له يمكن إعادة التفكير فيه وإعادة تشكيله. وهكذا فإن النقد أخلاقي حتما، لأنه يعني بالتغيير. وكما يكتب فوكو:
إن توجيه النقد لا يعني أن نقول إن الأمور ليست صحيحة بالصورة التي هي عليها، بل هي مسألة إظهار أنواع الافتراضات، وأنواع طرائق التفكير المالوفة، وغير المختلف عليها، وغير المدروسة، والتي تستند إليها الممارسات التي تقبلها. يجب أن نحرر أنفسنا من تقديم الاجتماعي وكأنه الحقيقة الوحيدة ويجب أن نتوقف عن اعتبار شيء بالغ الأهمية في الحياة الإنسانية والعلاقات الإنسانية - كالفكر مثلا - على أنه غير ضروري وزائد على الحاجة ... فهو شيء غالبا ما يكون مخفيا، لكنه دائما يبعث الحياة في السلوك اليومي، هناك دائما بعض من الفكر حتى في أكثر المؤسسات غباء؛ وهناك دائما فکر حتي في العادات الصامتة. أما النقد فهو في التخلص من تلك الفكرة ومحاولة تغيرها، وذلك لإظهار أن الأمور ليست بالوضوح البدامي كما كنا نعتقد وأن نرى أن ما كان مقبولا من قبيل الوضوح البداهي لم يعد مقبولا هكذا. فممارسة النقد هي قضية جعل الإيماءات السطحية السهلة صعبة (10).
فإذا وضعنا هذه المحاجات في الحسبان، نستطيع أن نرى أن ما بعد البنيوية لديها الكثير مما تشترك فيه مع مواقف النظرية النقدية للمدرسة الفرانکفورتية انظر الفصل الثامن). وفي الحقيقة فإن ما بعد البنيوية لديها كثير مما تشترك فيه مع الحوارات ما بعد الإمبيريقية المشار إليها باقتضاب سابقا. كما أن لديها الازدراء ذاته تجاه الفلسفة الأساسياتية (foundationalism) (الأفكار التي تتعلق بتأصيل الفكر على قواعد عالمية توجد مستقلة عن المشاهد)، وتتشابه معها كذلك في اعتبار أن اللغة مركزية لتشكيل الحياة الاجتماعية، وتوافقها في أن تاريخانية المعرفة الإنتاج التاريخي للمعرفة في الهياكل الاجتماعية الثقافية، وتاليا، دحض فكرة المعرفة العالمية التي تصلح لكل زمن) هي اهتمام رئيس الها. 

الذاتية، والهوية، والقوة
إلا أن ما بعد البنيوية تختلف عن فكر مدرسة فرانكفورت بطرائق مهمة التحليل العلاقات الدولية. وأكثرها أهمية أن ما بعد البنيوية تتبنى فكرة مختلفة عن الفرد التابع أو فرد الرعية (human subject)، فبينما يرى جزء كبير من النظرية النقدية للمدرسة الفرانکفورتية أن النقد يتضمن كشف أو تحرير بشرية، تم تقييد استقلالها وحريتها بالأيديولوجية، يتضمن عمل فوکو تاسيس تاريخ للأساليب المختلفة التي يتم من خلالها، في ثقافتنا، تحويل الأشخاص إلى رعية (11). فالفرد الحديث، بالنسبة إلى فوکو، هو إنجاز تاريخي اشکله التاريخ. وهذا يعني القول إنه لا يوجد شخص عالمية - أي كائن بشري يعد الأساس اللامنغير لكل التاريخ البشري - مورست عليه القوة على مدى الأزمان كلها، وبعكس ذلك، فالإنسان الفرد هو نتيجة من نتائج عمليات القوة وعلى المنوال نفسه، لا توجد طبيعة بشرية مشتركة بين كل أعضاء الجنس البشري؛ فطبيعة الأفراد، أو إنسانيتهم، تنتجها هياكل قوة معينة. وهكذا، فإن ما بعد البنيوية الفوكوية تقدم أكثر التساؤلات عمقا عن الأسس أو القواعد التي حولنا. ذلك أنها تساؤل في الأسس يشمل فئة «الإنسان» إضافة إلى القواعد التي يبني عليها النظام الاجتماعي والسياسي، وهكذا فإن فوكو مهتم بأشكال الذائية (subjectivity). فمن هم الأفراد التابعون (subjects) في السياسة؟ إذا كانوا هم البشرة، فباي الطرائق يتكون الفرد البشري، تاريخيا؟ وكيف تكونت، عبر الزمن وفي المناطق المختلفة، الهويات مثل الرجل المرأة، والغربي/ الشرقي، والشمال الجنوب، والمتمدن غير المتمدن، والمتطورا غير المتطور، والمجنون العاقل، والمحلي / الأجنبي، والعقلاني/ غير العقلاني، وغيرها؟ كل ذلك يعني أن الهوية، والذاتانية (subjectivism)، والقوة هي مفاهيم رئيسة في ما بعد البنيوية. 

إن تركيز فوكو على تشكيل الفرد التابع (subject) متسق مع اهتمام ما بعد البنيوية بالثنائيات [الازدواجيات التي شكل الخبرة الإنسانية. وهو يعني تحديدا بثنائية الداخلي / الخارجي (في الداخل في الخارج التي بموجبها بعد ذلك الذي في الداخل هو الذات، والطيب، والأساسي، والأصلي، بينما يعد الخارجي بمنزلة الأخر، والخطر، والثانوي، وغير الأصلي. وقد كانت مقاربة الفيلسوف جاك دريدا (Jacques Derrida) لهذه القضية من خلال استراتيجية التفكيك (deconstruction)، من طريق عكس الترتيب الأصلي للزوج الثنائي من المصطلحات لإظهار كيف أن استثناء المصطلح الثاني يصبح مركزا للمصطلح الأول 92). وفي هذه المحاجة يكون الخارجي دائما مركزيا في تشكيل الداخلي؛ فالمجنون مرکزي في تشكيل ما سيكون عاقلا أو عقلانيا؛ والمجرم مرکزي في تشكيل المواطن الممتثل للقانون؛ والأجنبي [الغريب) محوري في فهم المحلي، وفي كتابه بعنوان ادب وعاقب (92) (Discipline and Punish)، ي بين فوکو كيف أن ما يحتجزه السجن بعكس هوية المجتمع الذي هو خارج جدرانه بقدر ما يعكس هوية السجناء في داخله. فالمجتمع الطيب المتمدن بتكون (أيضا) من السجناء السيئين، والمتوحشين الذين يحتجزهم السجن داخله. وعندما يصبح تعاطي المخدرات والدعارة مرضيين بتصنيفهما جرمين، فالنتيجة هي تطبيع نظام اخلاقي ستثنى فيه سلوكات معينة.
إن نقد ثنائيات الداخلي / الخارجي بدفع مفكري ما بعد البنيوية إلى تأكيد أهمية دراسة الممارسات الثقافية. فبدلا من الادعاء بأن الحقيقة تفهم من خلال عزل الطبيعة الداخلية للموضوع الذي تتم دراسته عن بيته (کالدول ورغبتها في تعظيم قوتها مثلا)، فإن ما بعد البنيوية تدرس الممارسات الثقافية التي من خلالها يتم تشكيل الشمولات والإقصاءات التي تعطي معنى للأزواج الثنائية. وهذا التحول نحو الممارسات الثقافية يعني أن مفكري ما بعد البنيوية يرفضون أن يعتبروا أن أي هوية - فردية أو جماعية - هي مسلم بها أو أنها ليست ذات إشكالية. وبدلا من ذلك، فإنهم يرون أن الهوية بني ثقافيا من طريق سلسلة من الإقصاءات. وبذلك فإن الحوادث، والمشكلات، والجهات الفاعلة المعينة التي ثري في التاريخ، فهم على أنها تتشكل بواسطة نظام يعتمد دوما على تهميش هويات وتواريخ أخرى وعلى إقصائها. وهذا يعني أن هناك تماثلات معتبرة بين ما بعد البنيوية وما بعد الاستعمارية.
إن التركيز على ممارسات الإقصاء في التصورات بعد البنيوية يتضمن فهما مختلفا للقوة. فالقوة بالنسبة إلى فوكو ليست بكل بساطة قمعية (repressive)
بمعنى أنها تفرض حدودا وضوابط على الإمكانات غير المحدودة للعالم)، بل هي منتجة (productive) بسبب فرض الحدود والضوابط. فعلاقات القوة تؤسس حدود الذات / الآخر، والداخلي في علاقته مع الخارجي، لكن من دون تلك الحدود فإن تلك المفاهيم المتعلقة بالذات الداخل، والآخر/ الخارج، لن يكون لها وجود. فالحدود هي إذا منتجة: فنحن نعرف ما هو ذلك الشيء من خلال معرفتنا لما ليس هو عليه. ويستي فوكو هذه القوة المنتجة باسم القوة التاديبية» (القوة الضابطة] (disciplinary power)، وهي القوة التي تؤدب [تضبط] من أجل أن تنتج فردا تابعا سياسيا معينا. وبذلك، فإن هدف التحليل بعد البنيوي ليس إلغاء الإقصاء (لأن ذلك هو الذي يجعل المعنى ممكنا، وإنما هدفه نهم الأشكال المختلفة للاستثناء الإقصاء التي تشكل العالم كما نجده، وفهم كيف تصبح كما هي عليه وكيف تستمر في أن تكون فاعلة، والتوصل إلى مداخلات ممكنة في استطاعتها أن تصوغ أبدا أخرى. 













مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید