إن عمليات القوة الضابطة (disciplinary power)، ومفاهيم الذاتية والهوية التي تتسبب في نشوئها، تحدث في إطار الخطاب (discourse). ويشير الخطاب إلى سلسلة محددة من التمثيلات (representations) والممارسات التي يتم من خلالها إنتاج المعنى، وتشكيل الهويات، وتأسيس العلاقات الاجتماعية، وجعل المخرجات السياسية والأخلاقية ممكنة نوعا ما. وغالبا ما يقال عن أولئك الذين يوظفون المفهوم الخطاب إنهم يزعمون بأن «كل شيء هو لغة»، وبأنه ولا توجد هناك حقيقة»، ويقال عنهم أيضا إنهم، بسبب مثاليتهم اللغوية، غير قادرين على اتخاذ موقف سياسي والدفاع عن موقف أخلاقي معين.
إن هذه الاعتراضات تظهر كيف يعتقد بأن أشكال فهم الخطاب قد شوشت من خلال النظرة القائلة إن التأويل يتضمن اللغة فحسب مقارنة بما هو خارجي، وما هو حقيقي، وما هو مادي. وتبقى هذه التقسيمات الثنائية كالمثالية المادية، والواقعية المثالية مفاهيم معبرة لفهم العالم. لكن عمليا، لا يتضمن الاهتمام بالخطاب إنكارا لوجودية العالم أو لأهمية مادية الأشياء. وقد قدم لاكلاو و موف (1) صيغة جيدة لهذه الفكرة، حيث يقولان: «إن حقيقة أن كل شيء
موضوع شکل کموضوع للخطاب ليست لها أي علاقة بما إذا كان هنالك عالم خارجي عن الفكر، ولا علاقة لها بالتعارض بين الواقعية والمثالية ... إن ما يتم إنكاره هو ليس أن ... الأشياء توجد خارجيا بالنسبة إلى الفكر، وإنما [ما يتم إنكارها هو التأكيد، المختلف نوعا ما، أن الأشياء يمكن أن تشكل ذاتها كاشياء خارج أي ظرف خطابي متعلق بالنشوء الظهور (emergence)]. وهذا يعني أنه، وحيث إن لا شيء يعيش خارج الخطاب، هنالك فروق مهمة بين الظواهر اللغوية وغير اللغوية. وهناك أيضا أساليب للتمثيل تكون أفكارية مع أنها تحديدا ليست لغوية، مثل التعبيرات الجمالية والتصويرية. وملخص الفكرة أنه لا توجد طريقة الاستيعاب الظاهرة غير اللغوية وخارج الخطابية (extra
-
discursive) إلا من خلال الممارسات الخطابية.
إن فهم الخطاب بوصفه بتضمن كلا من المثالي والمادي، واللغوي وغير اللغوي، يعني أن الخطابات أدائية (perfomative). وأدائية تعني أن الخطابات
شكل الأشياء التي تتحدث عنها وتتكون منها. فمثلا، تصبح الدول ممكنة بواسطة نطاق واسع من الممارسات الخطابية التي تتضمن سياسات الهجرة، ونشر الجيوش والاستراتيجيات العسكرية، والحوارات الثقافية حول السلوك الاجتماعي العادي، والخطابات السياسية، والاستثمارات الاقتصادية. أما المعاني، والهويات، والعلاقات الاجتماعية، والتجمعات السياسية التي تتشكل في هذه الأداءات فهي تجمع بين المثالي والمادي. وفي المحصلة، فإن إدراك أن الخطابات أدائية يعدنا عن الاعتماد على فكرة البناء الاجتماعي social) (construction ويأخذنا في اتجاه التشد المادي (materialization)، الذي من خلاله ايستقر الخطاب على مدى الزمن لينتج أثر الحدود (boundary)، والثباتية (fixiry)، والسطح (surface)(9). وهكذا فإن الخطاب ليس شيئا يستعمله الأشخاص التابعون لكي يصفوا الأشياء، وإنما هو ذلك الذي يتكون منه الأشخاص التابعون والأشياء والمواضيع
الخطاب، والمادية، والمعنى
هناك كثير من سوء الفهم للخطاب من هذه الناحية ضمن تخصص العلاقات الدولية، حتى أن بعض البنائيين () يؤكدون معني صارما للعالم المادي الخارج عن اللغة باعتباره محددا للحقيقة الاجتماعية والسياسية. وعندما يواجهون بحجج بنيوية، فإنهم يؤكدون أنه لا يوجد فهم خطابي يمكن أن يساعدك عندما واجه بشيء مادي كمادية الرصاصة في الرأس (97). ويبدو هذا للوهلة الأولى غير قابل للدحض. إذا، كيف يمكن منظري ما بعد البنيوية أن يستجيبوا؟ أولا، سيقولون إن القضية لا تتعلق بمادية الرصاصة أو بحقيقة الموت بالنسبة إلى الفرد عندما تصيبه الرصاصة بطريقة ما. فليست القضية مسألة الوجود الذي لا يمكن إنكاره والذي يخص ذلك العالم خارج الفكر. ثانيا، سيقولون إن عالما كهذا - الجسد الجاثم على الأرض، والرصاصة في الرأس، وخرطوشة الرصاصة الفارغة الملقاة غير بعيد - لا يخبرنا أي شيء بعينه عن معنى تلك العناصر وأهميتها. وسيقولون إن تشكيل الحادث وعناصره هو نتاج للظرف الخطابي لظهور الحدث، وهو شيء يحدث من خلال التعارض بين سرديات متنافسة. فهل أصبح الجسد والرصاصة كما هما عليه بسبب الانتحار، ام القتل غير المتعمد، أم جريمة القتل المتعمد، أم التطهير العرقي، أم الحرب القبلية، أم الإبادة الجماعية، أم حرب المنافسة بين الدول، أم ... ؟ إن كل واحد من تلك المصطلحات يدل على تشكيل خطابي أوسع يمكن من خلاله مجموعة كاملة من الهويات، والعلاقات الاجتماعية، والاحتمالات السياسية، والمخرجات الأخلاقية أن تصبح ممكنة بدرجة ما. أيا كان التصوير الذي سيبرز بوصفه التشكيل المقبول أو المسيطر، فإن لذلك علاقة ضعيفة بمادية عناصر معينة، وعلاقة أكبر بقوة خطابات معينة تجسد العناصر ماديا إلى أشكال مفهومة ذات آثار سياسية. إذا، فالتركيز بالتحديد على الرصاصات التي اخترقت أجسادهم، لا ينبئنا إلا باليسير عن تلك الظروف التي تتعدى حقيقة أن أناسا قد ماتوا، وهذا شيء يظهر في كثير من الظروف الأخرى غير المشابهة لهذا الظرف. وفي مسألة ليست بقليلة الأهمية، فإن هذا التركيز يخفق في إخبارنا كيف أن الناس يضخون بأنفسهم، على الرغم من أنهم يعرفون تماما احتمال عدم جدوى أفعالهم في وجه قوة كاسحة، وذلك تفسير سيتطلب، من بين متطلبات أخرى، إعارة الانتباه إلى خطابات الولاء، والفخر، والأمة، وفي تخصص العلاقات الدولية إذا حصرنا أنفسنا في المسبب والسباق المباشرين للحوادث المادية، فلن يكون في مقدورنا أن نفهم القضايا الأخلاقية والسياسية الأكبر.
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)