إن فهم الخطاب على أنه تجسد مادي أدائي، بدلا من أن يكون بناء لغويا، يأخذنا إلى ما هو أبعد من فكرة أنه مجرد ممارسة يوظفها التابعون في العلاقات الدولية (سواء أكانوا دولا، أم مؤسسات، أم جهات فاعلة عبر قومية). ونحتاج إلى أن نضع في الحسبان، ليس خطاب العلاقات الدولية التي تنخرط فيها جهات فاعلة كثيرة وحسب، بل أيضا خطاب تخصص العلاقات الدولية، من حيث اساليب التمثيل التي تتسبب في نشوء الأفراد التابعين في العلاقات الدولية وتشكل المجال الذي يزعم بأن نظرية العلاقات الدولية تستجيب له فحسب.
هذا يعني أن التصورات بعد البنيوية - إضافة إلى اهتمامها بالتمثيلات التي تستدعيها الجهات الفاعلة في السياسة العالمية - تحقق في الممارسات التي تشكل كيانات تدعى اجهات فاعلة قادرة على التمثيل. وهذا يشمل الممارسات الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية التي تنتج جهات فاعلة معينة (كالدول مثلا، والمنظمات غير الحكومية، وما شابهها). كما أنه يشمل التحقيق في دور المنظرين والنظرية في تمثيل بعض الجهات الفاعلة على أنها أكثر أهمية من غيرها، وفي هذا المعنى الأخير، فهذا يعني أنه بدلا من فهم النظرية وكانها ببساطة أداة للتحليل، فإن ما بعد البنيوية تعامل النظرية على أنها هدف التحليل. وعملية إعادة التوجه هذه، والتي تشتق من مكانة ما بعد البنيوية بوصفها مقاربة للنقد وليست نظرية نقدية في حد ذاتها، ليست أقل عملية في مضامينها، وهي تسأل، لكل من منظري العلاقات الدولية وممارسيها، كيف تقوم المقاربات التحليلية بإعطاء امتيازات لبعض أنماط فهم السياسة العولمية بينما تهتش أنماطا أخرى؟
إن هذه المفارية واضحة في المناقشات التي تعطي إعادة قراءة تاريخية، ونظرية، وسياسية للاهتمامات التقليدية لتخصص العلاقات الدولية. فعلي سبيل المثال، حقق ووكر (20) في الطريقة التي تم فيها إنتاج عديد من الأسئلة والأجوبة الواقعية من خلال قراءة معينة لمكيافيلي. وكان استنتاجه أن التقليد السائد في تخصص العلاقات الدولية قد أجاز قراءة ضيقة وغير تاريخية للواقعي النموذجي إمكيافيلي الذي أعطانا شعارات القوة فوق الأخلاق، والغايات تبرر الوسائل، وضرورة استعمال العنف. وعلى نحو مشابه، فمن خلال تعريف الفوضى أنها جزء لا يتجزأ من الفكر الواقعي، أظهر آشلي) أن مكانة الفوضى المسلمة ليست قضية ملاحظة حقائقية، لكنها جزء من استراتيجية خطابية معينة تضبط فهمنا للحوادث المتعددة والمبهمة المتعلقة بالسياسة العالمية من خلال هرميات مثل السيادي/ الفوضوي، والمحلي الدولي، والموضوعي الذاتي، والحقيقي/ المثالي، وما هو قائم ما يجب أن يكون، والمذكر / المؤنث. وهذا يعني أن التعامل مع الحقيقة، على أنها إشكالية يوفر حلين ممكنين، لا يمكن اختبار إلا واحد منهما؛ كالاختيار بين السيادة والفوضي مثلا. وتؤدي عملية إشكالية الفوضى (anarchy problematique) هذه إلى رسم خريطة السياسة العالمية مقسمة إلى مناطق سيادة ومناطق فرضي، مع كون السيادة متفوقة معياريا على الفوضى.
المقالة المنتقاة ا او او و او او او
ريتشارد آشلي، مقالة بعنوان «فقر الواقعية الجديدة» (60)
يقدم هذا المقتطف عرضا لن آخر مهم لأشلي. وهذه واحدة من أهم المقالات في تطور المقاربة النقدية للعلاقات الدولية. ولم يكتب آشلي عن الحوادث اليومية للعلاقات الدولية، لكنه استند إلى النظرية الاجتماعية الأوروبية للتشكيك في كيف بدات نظرية العلاقات الدولية الأميركية الشمالية في فهم الشؤون العالمية. و
كان اهتمام آشلي منصبا على ظهور الواقعية الجديدة (neomalism)
ملت في أعمال روبرت کيوهاين، وستيفن كراستر (Steven Kasper) وروبرت غيلبن (Robert Gilpin). وفي أي حال، فإن افتراضات النظرية، لا شخصيات الناس، هي التي كانت هدفا لأشلي. إن حاجاتي هنا، والتي صبغت عن قصد بتعبيرات استفزازية، هي مثل الطلقات التحذيرية، القصد منها إثارة نقاش، وليس تدمير عدو مزعوم».
وقد استمد آشلي إلهامه من المناقشة الجدلية القاسية للمؤرخ إدوارد بالمر طومسون (E F , Thompson في كتابه المعنون فقر النظرية (2) The) (Poverty of Theory ضد بنيوية لويس ألتوسير (Louis Althusser). وقد استنكر هذا الكتاب مارکسية التوسير العلمية لاعتمادها على الفلسفة الوضعية. ومن ثم، فقد أشار آشلي إلى أنه بمجرد أن دعت النظرية الاجتماعية إلى التشكيك في البنيوية، كان مفكرون بارزون في العلاقات الدولية يطورون مقاربة جديدة مستندة إلى البنيوية.
جادل آشلي بأن الواقعية الجديدة انبثقت استجابة لجوانب الفشل المدركة في الواقعية الكلاسيكية. وبدلا من تأكيد ذاتية الواقعية، أراد الواقعيون الجدد تأكيد مقاربة علمية يمكنها أن تحدد الهياكل والموضوعية للسياسة العالمية. وكان في قلب الواقعية الجديدة التزام بالدولة بوصفها جهة فاعلة. وكنتيجة لذلك، ولا سيما في ضوء الاهتمام المستغرب للواقعيين الجدد بسياسة القوي، لم يكن هناك مفهوم عن قوة اجتماعية تقع خلف الدول ومصالحها، أو مكونة لها.
كان تأثير هذه الافتراضات، كما جابر آشلي، أن الواقعين الجدد تعاملوا مع النظام الدولي المفترض الذي فيه الولايات المتحدة في موقف الهيمنة على أنه النظام الطبيعي. وقد قال آشلي إن الواقعية الجديدة لم تفعل شيئا لكشف محدودية النظام القائم، وتاليا فإنها أنكرت التاريخ بوصفه عملية، كما أنكرت أهمية الممارسة ومكان السياسة. وعلى نحو مثير للجدل، أطلق آشلي على هذا الوضع تعبير المشروع الاستبدادي ذو الأبعاد العالمية، مع أنه أكد أن هذا الوصف يشير إلى منطق الافتراضات النظرية وليس إلى سياسة الأفراد.
إن مقالة آشلي هذه لعام 1984، لم تكن مجرد نقد؛ فقد اقترحت أيضا أن الواقعية التي فرض عليها الصمت (9) يجب أن تعاد، وأنه يجب أن يتم تطوير نظرية للممارسة السياسية الدولية، تستند إلى اعمال پيار بورديو (Pierre Bourdieu)، ويورغن هابرماس، وميشال فوكو. وعلى الرغم من أن بعض النقاد کروبرت غيلبن كانوا لاذعين في ردودهم على مقالة آشلي، فإنها ساهمت في تشكيل مستقبل النظرية النقدية في تخصص العلانات الدولية.
من الأشخاص التابعين المكونات] (subjects) إلى الذاتية [التكوين] (subjectivity)
إن إحدى الوظائف المهمة لهذه النقديات التاريخية والنظرية هي إظهار أن ما نراه حقيقيا، وغير مرتبط بزمن معين، وعالميا في مجال العلاقات الدولية وفي تخصص العلاقات الدولية، بت من خلال فرض شكل من أشكال الأنظمة، ولذا فإن المقاربة بعد البنيوية تسعى إلى تحويل المنظورات التي تؤخذ كمسلمات وجعلها غريبة ونزع صفة الطبيعية عنها. ومن الأمور المهمة هنا التي نستهلكها كمواطنين في الدولة الحديثة الخطابات المتعلقة بالخطر. ففي مجادلة تتفحص السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه أميركا الوسطى، يظهر شابيرو (0) أن السياسة الخارجية يمكن فهمها بأنها عملية جعل الموضوع
الشيء مثار الاهتمام غريبا، لكي تميزه عن انحن. وفي الحالة المتعلقة بتشكيل «الآخر الوسط أميركية من أميركا الوسطى، فإن الرموز الأخلاقية والجغرافية لخطاب السياسة الخارجية الأميركية تجعل التدخل الأميرکي في المنطقة يبدو ضروريا، من حيث مصالح الولايات المتحدة، وأيضا من
حيث المصلحة الذاتية للدولة المعنية. وقد طور کامبل هذا التصور ليظهر أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل عام يجب أن ينظر إليها على أنها سلسلة من الممارسات السياسية التي تحدد موضع الخطر أنه في المجال الخارجي - الأخطار التي تتهدد «الفردية»، و «الحرية»، و «المدنية» - وتاليا فإنها
نشي الحدود بين المحلي والدولي، وهو ما يأتي بهوية الولايات المتحدة إلى الوجود. وهذه المحاجات، مجتمعة معا، تضع تحت المجهر ممارسات مهنة الحكم التي تنتج «الدولة، بوصفها جهة فاعلة في العلاقات الدولية، وممارسات مهنة الحكم التي تنتج هوية دول معينة. وفي هذا الإطار، نرى أن هذه الحاجات تعني مباشرة بالدولة ولذلك لا يمكن فهمها على أنها ضد الدولة أو ضد أهمية الدولة. فهي تركز على إنتاج الدولة وعلى معناها، بدلا من مجرد افتراضها أو تأكيدها أن الدول کھويات معينة هي كائنات طبيعية
تبني هذه الأمثلة على اهتمام ما بعد البنيوية بالذاتية، والهوية، والقوة. وبشكل عام، فإنها تحول وجهة التحليل من الافتراضات المتعلقة بأشخاص تابعين محددين مسبقا (المكونات الفردية إلى إشكالية الذاتية problematic) (of subjectivity [التكوين وتشريعها سياسيا. ويتم تحقيق هذا من خلال ثلاثة مبادئ إرشادية منهجية، يمكن فهمها عبر مقارنتها بالافتراضات الأساسية للمقاربات التقليدية في تخصص العلاقات الدولية. مبادئ إرشادية منهجية: التأويل، والتمثيل، والسياسة إن الخطاب المنبثق من النظرية الشارحة (meta
- theoretical) الأكثر شيوعا من بين نظريات التيار السائد هو خطاب ملتزم واقعية معرفية، وهي واقعية يتكون العالم بموجبها من أشياء يعذ وجودها مستقلا عن الأفكار أو المعتقدات المتعلقة بها، ويجيز هذا الالتزام شكلين تحليليين آخرين شائعين في مجال العلاقات الدولية: تأريخا ديا يكون للأشياء فيه خاصية بدهية تسمح لها بان تتكلم على نفسها، ومنطقا في التفسير يكون فيه غرض التحليل هو التعرف إلى تلك الأشياء البدهية وإلى المسببات المادية حتى يكون في استطاعة الجهات الفاعلة أن تكتف نفسها لمجال الضرورة التي تخلقها.
وبخلاف ادعاءات الواقعية المعرفية، تؤكد المقاربة بعد البنيوية أنه بسبب أن الفهم بتطلب تقديم غير المألوف في إطار المألوف، فلا يمكن تاليا تجنب التأويل، وبهذا فإنه لا يوجد شيء خارج الخطاب، مع أن هنالك عالما ماديا خارج الفكر، وعلى العكس من التأريخ الردي، فإن المقاربة بعد البنيوية توظف طريقة في التمثيل التاريخي تبني، من منطلق وعيها الذاتي، منظوا معيا، وهذا المنظور متأصل في وجهة النظر التي تقول إن الهوية تتشكل دائما من خلال علاقتها بالاختلاف. ولهذا السبب، ينبغي فهم المقاربات ما بعد البنيوية على أنها مداخلات زندخلات نقدية في أنماط الفهم التقليدية أو الممارسات المعترف بها. وبعكس منطق التفسير السببي، فإن المقاربة بعد البنيوية تعمل بمنطق التأويل الذي يعترف بعدم احتمال جدولة «الأسباب الحقيقية»، وحسابها، وتحديدها، وتهتم بدلا من ذلك بأن تأخذ في الحسبان النتائج السياسية الواضحة التي تتعلق بتبني طريقة واحدة في التمثيل دون غيرها. وفي هذا الإطار، تحدد المقاربات بعد البنيوية وتفسر كيف أن الجهات الفاعلة، أو الحوادث، أو القضايا قد تم تحويلها إلى إشكاليات، وهذا يعني أن ما بعد البنيوية تدرس عمليات التحويل إلى إشكاليات» ما يجعل التفكير في المشكلات المعاصرة ممكنا، ومن ثم تتفحص كيف انبثق ذلك الخطاب تاريخيا ليعطي إطارا لفهم المشكلات وحلولها (*).
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)