المنشورات

ما بعد الاستعمارية

Postcolonialism
: • • • : 

سيبا غروفوضوي (SIBA N
GROVOGU 1) |
محتويات الفصل
مقدمة
الأخلاقيات الدولية وآداب التعامل الدولية الاستشراق والهويات القوة والشرعية في النظام الدولي دراسة حالة الاستنتاج
دليل القارئ
من دون الطعن في بلاغة من سبقونا وشخصيتهم، قد يتساءل أي طالب في العلاقات الدولية، وبصورة شرعية، عما إذا كان أمثال توسيديدس، ومكيافيلي، وهوبز، وكانط يعطون تصورات مناسبة للحوادث المعقدة، والمتنوعة، والتي
لا يمكن التنبؤ بها، تلك التي ميزت أزمتهم. وقد يتساءل المرء عما إذا كانت ثوابتهم المتعلقة بصناعة الحروب وصناعة السلام تحمل معها دروسا للزمن الحالي؛ وما إذا كانت تمثيلاتهم للطبيعة البشرية، والقوة، والمصلحة، تتوافق مع تجارب المجتمعات التي استعمرتها أوروبا. وتظهر النظرية بعد الاستعمارية أن تمثيلاتهم هذه لا تتوافق وتلك التجارب. وفي ضوء ذلك، تقدم النظرية بعد الاستعمارية (postcolonialism) طرائق جديدة في التعرف إلى الحوادث المعقدة وغير الثابتة، وفي التفكير في هذه الحوادث التي شكلت العلاقات حول العالم من خلال تأكيد السياقات المتباينة للقوة، والهوية، والقيمة عبر الزمان والمكان. وسيبدا هذا الفصل أولا بدراسة الأخلاقيات (morality) وآداب التعامل (ethics) لدى المنظور بعد الاستعماري قبل انتقاله إلى مناقشة أعمال إدوارد سعيد في الاستشراق (Orientalism). ومن ثم سيناقش الفصل مفاهيم متعلقة بالقوة والشرعية في إشارة إلى السياسة العالمية المعاصرة، ولا سيما قضية الانتشار النووي، أخيرا، يناقش القسم المخصص لدراسة الحالة قضية تأميم قناة السويس من وجهة نظر النظرية بعد الاستعمارية. 


مقدمة
في مقدمته لكتاب فرانز فانون (Frantz Fanon) بعنوان بانسو الأرض") (The Wretched of the Earth)، أكد جان بول سارتر (Jean
- Paul Sartre)، وهو أحد مؤسسي الوجودية الفرنسية (French existentialism)، القوة الدافعة للنظرية بعد الاستعمارية، وحيث إنها كانت في ما مضى قد غيرت مناطق أخرى واستعمرتها، فإن المنطقة التي تطلق على نفسها اسم «أوروبا» (2) (والتي أطلق عليها لاحقا اسم «الغرب» (The West')) قد زعمت أن العالم مقسم إلى
خمسمئة مليون إنسان» و «ألف وخمسمئة مليون ساکن اصليه. ومع الغزو والاستعمار، طمحت اوروبا إلى إدارة الشؤون العالمية بأن تبدأ بكتابة تاريخ الإنسان (Man) من خلال صورتها عن ذاتها. ومن ثم فقد حطت من قدر مؤشرات الثقافة، والآداب، والفنون، والعلم الخاصة بالآخرين، ووضعتها في مكانة الفلكلور الشعبي، والأساطير الخرافية، والشامانية المتعلقة بالشحر. وهناك موضوعات أكاديمية تساهم في هذا المسعى كالأدب، والفلسفة، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، وحاليا تخصص العلاقات الدولية. ومع التخلص من الاستعمار، اعتبر سارتر أن المواطنين الجدد قد تحذوا المكانة التي ادعتها أوروبا بوصفها شرعا لإرادة العالم، ومنفذا لوصيته، إضافة إلى كونها المخکم الفيصل النهائي في القيم، والرغبات، والمصالح. أنا تاب وفتانو وعلماء
Frantz Fanon, Wretched of the Earth, translated by Constance Farrington (New York: Grove (1) Press, 1968)
(2) اقول إنه مكان بني اوروبا لأني لا أعتقد بأن أوروبا لديها هوية ثابتة وتراث وتقاليد ثابتة. إضافة إلى أني أرغب في تأكيد الاعتمادية المشتركة التاريخية في ما بين مناطق العالم
Michl-Rolph Trouillot, Silencing the Past: Power and the Peaction of History (Boston, (3) MA: Beacon Pr, 1997), 

الشعوب الأصلية الذين كانت شعوبهم مستعمرة، فإنهم لم يعتبروا أنفسهم بشرا ذوي إرادة، ووعي، وصلاحيات متميزة، فحسب، بل تخيلوا أنفسهم ايضا مواطنين للعالم متساوين بغيرهم، وكغيرهم فإنهم غير مقيدين بالزمان والمكان، بحيث إنه يمكنهم التفكر في السياسة العالمية.
وأنا استخدم مصطلح ما بعد الاستعمارية (postcolonialism) للتعريف بمجموعة متنوعة من المنظورات، والأنظمة الفكرية، والمقاربات المتعلقة بمسائل کالهوية، والثقافة، والقوة. وهنالك مواضع عدة لنشأة ما بعد الاستعمارية في أفريقيا، وآسيا، وأستراليا، وأميركا اللاتينية، والعالم الجديد). فقد خضعت هذه الأقاليم لأشكال مختلفة من السيطرة ولاقتصادات مختلفة في أزمنة الاحتلال. ويفتر التاريخ الاستعماري التنوع في التصورات بعد الاستعمارية للمجتمع، والعلم والمعرفة، كما يفسر تبني التصورات بعد الاستعمارية لأيديولوجيات عصرية كالليبرالية، والماركسية، وما بعد الحداثية، والنسوية مثلا). وقد قاد هذا التنوع إلى إرباكات ضاعفها اقتصار الدراسات بعد الاستعمارية أكاديميا على البرامج أو الأقسام الإثنية، والثقافية، والإقليمية. إلا أنه ينظر إلى ما بعد الاستعمارية، في جميع رقع اتساعها، على أنها مشروع يقدم طرائق جديدة في التفكير في أساليب القوة التي تقيد حق تقرير المصير.
على الرغم من ذلك، تطمح ما بعد الاستعمارية إلى المشاركة في خلق الحقائق، بناء على أنماط متميزة في التعريف، وأشكال محددة من المعرفة أو أساليب التمثيل) التي تعزز العدالة، والسلام، والتعددية السياسية. وتحقيقا لهذه الغاية، فهي تعارض وجهات النظر العقلانية (rationalist)، والإنسانوية (humanist)، ووجهات نظر كونية (universalist) أخرى والأنماط التي تستخدمها وجهات النظر هذه في إعطاء المعاني (أو طرائق فهم العالم)، ولا سيما حينما تزعم أن أوروبا تمتلك أرقى أشكال المنطق العقلي، والأخلاق، والقانون. إضافة إلى ذلك، فإن ما بعد الاستعمارية طبق الذاكرة المحلية، والفنون المحلية، والعلوم المحلية على مواضيع كالتاريخ، والأدب، والفلسفة إلى جانب مواضيع أخرى. ثالثا، ترفض ما بعد الاستعمارية النزعة الجوهرية للشعوب الأصلية (native essentialism)، أو فكرة أن الشعوب الأصلية تحمل سمات جوهرية وخالدة. وقد أساءت القوى الغربية ونخبة ما بعد الاستعمارية استخدام هذه الفكرة، بهدف الحصول على القوة والاحتفاظ بها. أخيرا، فإن ما بعد الاستعمارية تسلط الضوء على العلاقة بين الحرية والسياسة، ولا سيما في أطر إنتاج المعرفة وصناعة السياسات. وفي أي حال، ترحب ما بعد الاستعمارية باحتمال وجود أبدال
ولهذا الفصل هدفان. الهدف الأول هو تسليط الضوء على جوانب قصور المعايير الدولية الحالية بوصفها وسيلة للعدالة الدولية، والهدف الثاني هو توضيح طموح ما بعد الاستعمارية في إبطال موروثات الإمبريالية الأوروبية
حين قامت أوروبا منفردة بإرسال قوتها العسكرية خارج حدودها الإقليمية) وتوضيح طموح الاستعمارية (أو الاستيطان والسيطرة على الآخرين من أجل تحويل النظام العام الدولي والمفاهيم المرتبطة به کالمجتمع المحلي (الموطن المشترك (community)، والمجتمع (society)، والأخلاقيات. ويفتم الفصل إلى أربعة أقسام. أولا، بخوض الفصل في التوقعات المتعلقة بآداب التعامل الدولية والأخلاقيات الدولية لدى النظام الفكري بعد الاستعماري". ويتطرق هذا القسم إلى المفاهيم الكانطية المتعلقة بالأخلاقيات الدولية والاتحاد السلمي في ظل مذهب الجمهورياتية (republicanism). ثانيا، يناقش الفصل الاستشراق (Orientalism) عند إدوارد سعيد باعتباره أحد تيارات النقاشات بعد الاستعمارية المتعلقة بالتبعية السياسية أو الذاتية السياسية] political subjectivity) والهوية السياسية، تتبعه مناقشة عن القوة والشرعية الدولية. ويركز القسم الأخير على تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، ومن خلال هذا التركيز نسعى إلى توضيح كيف أنه يمكن المنظور بعد الاستعماري أن يوجه الطرائق المختلفة الفهم العلاقات الدولية
الأخلاقيات الدولية وآداب التعامل الدولية تربط ما بعد الاستعمارية تطور النظام العام الدولي (international order) والمجتمع الدولي (international society) واقتصاداته السياسة بأنواع معينة من العنف (10). وليس هذا الربط بجديد، كما أنه لا يشير إلى وجوب التخلي عن فكرة الأنظمة العامة العولمية (global orders). وفي المقام الأول، يجد نقاد ما بعد الاستعمارية مصادر إلهامهم من جمع هائل من المفكرين الكنسيين والمفكرين في آداب التعامل والأخلاق، من حول العالم، والذين آمنوا بفكرة مجتمع مشترك من الأخوية، لكنهم عبروا عن مخاوفهم بخصوص الطرائق التي اختارتها أوروبا لتحقيق هذه الفكرة. وابتداء بالاحتجاج على غزو الأميركتين، الذي تم عند اكتشاف، کريستوف كولومبوس لهما، أطلق كل من الراهب أنطونيو دي مونتيسينوس (Antonio de Montesinos والراهب بارتولومي دي لاس کاساس (Casas كها Bartolome de) أولى احتجاجاته ضد معاملة السكان
1990) , and Partha Chatterjee, Nationalist Thought and the Colonial World: The Derivative Discourse?
(1986 , 2 ,
riera : The Ne Merria
F
نام Minneapolis MN
: University of Minne) Banderland
Bhabha , Ibid : Gloria Amea
(9) San) . ي ه
Francisco: Aunt Lute Books, 1999), and Alberto Morciras, The Exhaustion of Diference: The Politics of
(2001
in American Cular Shia (Durham OH Dk University FG اها
Peter Holme Colonial Emmator: Europe and he Native Caribbean 1092 - 1797 (New (10) York: Routledge, 1992); Erie Cheylitz, The Poetics of Imperialism: Translation and Colonization from the Tempest to Tarzan (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 1997). 

أراضي غير أوروبية
اليب أوروبا في الاحتلال إلى الاستيطان مناطق أخرى تضمنه
الاستعمارية. ولا غير
الأصليين (1). وكانت احتجاجات مونتسينوس ولاس کاساس موجهة إلى إسبانيا، لكن صداها تردد لاحقا في سباقات أخرى كانت القوى المسيحية فيها تحتل أراضي غير أوروبية. وقد تباينت طرائق الاحتلال والتوسع الأوروبي عبر الزمان والمكان. فبينما قاد الاحتلال إلى الاستيطان أو الاستعمار الأوروبي في العالم الجديد، فإن أساليب أوروبا في السيطرة في مناطق أخرى تضمنت السيطرة السياسية من خلال أشكال عدة للإدارة الاستعمارية. وقد تباينت هذه الأشكال من الوصاية [الحماية] (بناء على معاهدات حماية)، إلى الحكم غير المباشر (سيطرة ثنائية من إدارة استعمارية و كام محليين)، إلى الحكم المباشر
سيطرة إدارية كاملة). وفي أي حال، فقد شيعت الاحتجاجات في كل مكان گلما قامت القوى الإمبريالية الأوروبية بإخضاع كيانات سياسية جديدة لإرادتها الخاصة من خلال الحروب والمواثيق السياسية غير المرضية، والتي أطلق على بعض منها، وعلى نحو مناسب، اسم معاهدات التنازل والاستسلام treaties of) (concession and capitulation بينما صف بعضها الآخر، وبأسلوب مراوغ، ضمن الحماية والوصاية (protection and trusteeship).
وفي مثل آخر، درك ما بعد الاستعمارية أنه على الرغم من أهمية الاحتجاجات التي قام بها أمثال لاس کاساس، فإنها لم تخل دون الإمبريالية الأوروبية الحديثة، واستعماريتها وإنشائها للمستعمرات. كما أن الفكر بعد الاستعماري يعترف بأن مؤسسات الإمبراطوريات، والمستوطنات، والمستعمرات الأوروبية الحديثة، قد أرست الأسس للاصطلاحات التي يطلقها تخصنا على النظام العام الدولي (international order)، و/ أو الموطن الدولي المشترك (international community)، و/ أو المجتمع الدولي (intemotional society) . باختصار، فإن التقاء العالم بوصفه وحدة مفردة هو إحدى العلامات المميزة للحداثة التي تسببت بها أوروبا. وتتصور ما بعد الاستعمارية مفارقة ساخرة في هذا الحدث فيما قد لا يراها آخرون، في أي حال، فإن ما بعد الاستعمارية لا تعتبر من المسلمات فكرة أن العالم الذي وصلنا هو مقشر ومحتوم مسبقا من خلال قوى الطبيعة؛ فصحيح أن العالم لا يمكن إلغاء تشغله، لكن مؤسساته الأساسية وأنظمته الأساسية المتعلقة بالقيم والمصالح الأساسية يمكن إعادة تشكيلها لتعكس المجتمعات المحلية في يومنا الحاضر. وفي هذا الخصوص أيضا، ترى ما بعد الاستعمارية أمامها سوابق في الثورات والانقلابات التي قام بها العبيد وأثارتها الشعوب المستعمرة التي سعت إلى العدالة في بيئاتها المحلية من خلال رفضها للأسس الأخلاقية، والقانونية، والثقافية الاستعبادها.
ما بعد الاستعمارية والمعرفة
بارتقائها إلى مستوى الممارسة الأكاديمية، أصبحت ما بعد الاستعمارية اليوم تتبني دوافع ونوايا المدافعين عن المؤسسات والمنظومات [النظم) العالمية للقيم بشكل منفصل عن النقاشات المتعلقة بأنظمة الحقائق systems) (of truths، والقيم، والمؤسسات التي يجب أن تشكل النظام الدولي أو العولمي. وبابتدائها ب الحقائق (truths)، تشير ما بعد الاستعمارية إلى أن المعرفة، أو ما يقال عنه إنه معرفة، ليس تصورا كاملا للحوادث البتة. ويمكن غالبا فهم الفجوات بين ما قيل إنه حصل وما حصل بالفعل من خلال فحص الكيفية التي شكلت بها الهياكل الإمبريالية والاستعمارية مؤسسات كهذه للأبحاث الأكاديمية. فعلي سبيل المثال، يمكننا التأكد من أن الهياكل الاستعمارية للقوة أوصلت العالم بأسره إلى الباحثين الأوروبيين والغربيين بوصفهم هدفا للدراسة. ومن بينهم، عقلانيون، وإنسانيون (humanists)، وكوزموبوليتانيون آخرون، كان يمكنهم الوصول إلى كل العالم الذي طبقوا عليه الأدوات العلمية المتاحة، أو أساليب التحليل التي سمحت لهم بالتوصل إلى استنتاجات معينة، أو حقائق کونية عمومية، عن أنفسهم وعن الشعوب الأصلية في كل مكان. إلا أن هذا المشروع، كما أشار طلال أسد)، وإدوارد سعيد (13)، لم يكن مهتمة تعاونية تضمنت السكان الأصليين في التصورات المفاهيمية لأهدافه وفي تطبيقه لأهدافه. فالمعرفة الناجمة عن مشاهدات السكان الأصليين، وعنهم، لم تكن جوهريا معرفة أصلية، [محلية، ولا معرفة مبنية على مصالح السكان الأصليين. وحتى عندما كان المنظرون والعلماء الغربيون كرماء ومتعاطفين مع الشعوب الأصلية، فإنهم لم يستطيعوا الفرار من هياكل الإمبراطوريات والمستعمرات والأدوات السياسية والثقافية التي استثنت الشعوب المستعمرة من عمليات صنع القرار والبحث. أخيرا، فإن المعرفة الإمبريالية لم تكن متاحة بشكل عمومي للشعوب الأصلية. ولن يتمكن حتى أكثر المراقبين الحضاريين إخلاصا من التعويض عن العمليات السياسية والاقتصادية التي تركت أغلبيات كبيرة من الشعوب المستعمرة في فقر مدقع وأمنية شديدة.
لهذه الأسباب، وأسباب أخرى، تجادل ما بعد الاستعمارية في صحة الأفكار والعموميات المبتذلة التي تظهر اليوم رسميا في الخطابات الأكاديمية والخطابات العامة على أنها امعارف خبيرة عن التوسعات الاستعمارية السابقة. وتتضمن هذه الأفكار والعموميات المبتذلة أفكارا عن تأصل العمالة والملكية والمؤسسات والقدرات في العرق، وفي الثقافة، وفي البيئة، الأمر الذي كان في ما مضى بمنزلة تبريرات للإمبريالية وتوزيعها للقيم على الآخرين (19). وتجادل ما بعد الاستعمارية أيضا في الافتراضات التي وضعها العقلانيون والمنظرون النقديون والتي تقترح أن الأساليب الغربية، ولا سيما العقلانية والإنسانية، تصلح سيائا لنقد الإمبريالية والاستعمارية، وأنها بذلك تقدم الطريق لراحة الآخرين وخلاصهم). وهذا الغرور ممزوج بتعنت في الاعتقاد بأن الغرب لديه مسؤولية حصرية في رسم مسار تاريخ البشرية). إضافة إلى ذلك، فإن ما بعد الاستعمارية متشككة في العقلانيات والتبريرات التاريخية السائدة بشأن الإمبراطورية). وفي أغلب الأحيان، تكون تمثيلات نهايات الإمبريالية والاستعمارية في خدمة المصالح الذاتية). أخيرا، فإن ما بعد الاستعمارية متشككة في الدراسات الإثنية (ethnography) وتصوراتها لمفهومي الثقافات، والطقوس، ودلالات هذين المفهومين، وفي أكثر الأحيان، فإن الطقوس الاجتماعية والهياكل الاجتماعية التي اكتشفها، الإثنوغرافون الاستعماريون قد عكست تفكيرهم الطبقي، الذي كان غالبا متضاربا مع ما كان موجودا (1). وكانت المفاهيم الاستعمارية مغروسة بعمق في الأشكال البديلة للتاريخ الطبيعي و/ أو العنصرية العلمية التي قسمت الإنسانية إلى أعراق، وجماعات إثنية، وكفار اوثنيين، وبرابر: 20). وخلاصة القول إن الإثنوغرافيا الاستعمارية كانت مرسومة على خريطة من الأخلاق، والطباع، والقدرات الإنسانية التي ساعدت في تبرير الاقتصادات السياسية الاستعمارية، وأنظمتها في القوانين والأخلاق (21)
نقد المنظور بعد الاستعماري للفكر الغربي
يرى المنظور بعد الاستعماري أن التدقيقات النقدية للعقل، والتاريخ، والثقافة هي خطوات ضرورية لإعادة استشراف المستقبل والمخططات العولمية (2). وتعترف ما بعد الاستعمارية في المقام الأول بالفضائل الجوهرية اللمساعي الغربية وبالبراعة العقلية للشخصيات الأيقونية الشهيرة التي تقف
خلفها، من هيرودوتس إلى مكيافيلي، وكانط، ومن تلاهم. كما أن ما بعد الاستعمارية لا تطعن في العناصر التي أقلت أوروبا والغرب ليكونا موڑدين للحضارة، وفي المقام الثاني، فإن معظم مفکري ما بعد الاستعمارية يتعاملون مع النصوص الغربية البارزة بقدر من السخرية، والحيرة المحبطة، إيمانويل كانط على سبيل المثال، فقد تمت مؤخرا الإشادة بكانط من جانب مجموعة من المؤسساتيين الذين يثنون على أفكاره الجمهورية بوصفها أساسا للسلام الديمقراطي الجدير بالتقدير في اتحاد سلمي تحت قانون کوزموبوليتاني (2) ولا تزدري ما بعد الاستعمارية مثل هذا المديح، لكنها تطرح أسئلة عن المنطق المتعلق بنظام دولي مؤسس على أفكار كانط. ودائما يعود منظرو ما بعد الاستعمارية تحديدا إلى الفجوات في تمثيلات كانط للقرن الثامن عشر، وتأثيرات مثل تلك الفجوات على صحة نظريته. فهذه العودة إلى المصدر هي إذا بمنزلة مجاز ونقطة انتقاد للمؤسساتيين المعاصرين الذين قد يغيرون العالم الحاضر من دون إعطاء الاهتمام التعقيداته وللمخاطر المتنوعة المرتبطة بالتغيير.
وبغض النظر عما إذا كانوا يعتقدون بأن كانط عنصري ككثير من معاصريه، فإن مفكري ما بعد الاستعمارية عموما يعترضون على القراءات الحالية لكانط وهنالك جدالات معقدة في هذا الخصوص لا يمكن الكشف عنها بشكل كامل في نص تمهيدي كهذا. لكن تخيل، إن شئت، الكتابة عن الأوامر الأخلاقية، وآداب التعامل، والاتحاد السلمي، وتخيل أنك تعيش في حقبة زمنية كانت فيها العبودية هي الحقيقة كما كانت أقوى تعبير عن غياب الحرية (29). وتخيل أيضا أنك تعيش في حقبة تميزت بثلاث ثورات (في الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وهايتي)، اشتعلت إحداها نتيجة لمطالب العبيد الحقيقيين بالحرية. فهل ستحذف الحديث عن العبودية الفعلية وطموح العيد في الحرية من ثلاث أطروحات رئيسة تتحدث عن حب الإنسانية والمشاعر الأخلاقية المرتبطة بها والمتعلقة بالتضامن ومحسن المعاملة؟ هذا ما فعله كانط)، وهل تتوقع من العبد، أو العبد السابق أن يأخذ التكهنات الناجمة عن تلك الكتابات) المتعلقة بالتعايش السلمي وفقا لظاهرها؟ قد تتوقع ذلك، لكن لن يكون من السهل استبعاد فجوات الفيلسوف كانط بوصفها مجرد منظورات تاريخية
يمكننا الآن أن نبدأ بفهم شكوك ما بعد الاستعمارية بشأن أبعاد مفاهيم كانط عن الضرورات الأخلاقية والمتسامي (sublime)، والتصويريه) (picturesque)، والتي تشكل أساسا لرؤيته عن النظام الدولي. ويرى أحد المنظورات بعد الاستعمارية أن تصور كانط للتصويري قد حذف المشاهد الحقيقية الناتجة من امتداد تشريع الاتحاد السلمي إلى خارج أوروبا. فعندما قامت الإمبريالية والاهتمامات المتعلقة بالعرق والذكورة بتحويل المشاهد الطبيعية في العالم الجديد، وفي أفريقيا، وفي أماكن أخرى، أصبح التصويري أشبه بتجمع لمشاهد جرائم مقصودة وغير مقصودة، بما فيها من اختفاء الشعوب الأصلية في العالم الجديد والاتجار بالعبيد الأفريقيين، لذا فإن الأماكن التي وصلت إليها شرعة الأجندات الأوروبية المتعلقة بالخلاص العالمي (universal salvation)، والإعتاق [التحرير، والحماية، والحداثة أصبحت مشاهد جرائم. وعندما تتم قراءتها على خلفية الحوادث العالمية، سرعان ما تفقد التصويرية بريقها وتكشف عن نفسها باعتبارها رسما خرائطا
مخططا) إمبرياليا، يتم فيه إدخال الشعور الكوزموبوليتاني المتعلق بالحب أو التعاطف (أو الوصاية الاستعمارية) في أطروحة شعرية أو مشهد طبيعي عن الاحتلال، والقمع، ومصادرة الأملاك من خلال معاهدات لم يتم الوفاء بها، وعنف مشترك. ويقود هذا الاستنتاج إلى السؤال عن طبيعة المتسامي
(0) التسامي (The sublime والتصويري (م The pictures والجميل (The beautiful مي مثاليات جمالية تنتمي إلى فلسفة الجماليات (eesthetics) التي هي فرع من فروع الفلسفة المترجمة أو الحب ذاته. وفي الواقع، أحدث امتداد شرعة «الوصاية الأوروبية على الآخرين تأكلا اجتماعيا في مناطق تشريعها.
إني لا أسعى هنا إلى إدانة رؤية الفيلسوف كانط للعبودية، وإنما أرغب فحسب في السؤال عما إذا كان حذف مؤسسة مهمة إلى هذا الحد کالعبودية والاستعباد من الفكر الأخلاقي لا يلغي الأثر الأخلاقي المزعوم للنظريات الجمهورياتية (republicanism) والكوزموبوليتانية (cosmopolitanism) الناجمة عن ذلك الفكر الأخلاقي. لذلك فأنا أطلب التوقف قليلا قبل اقتراح أن كانط هو رسول لآداب التعامل والاتحاد السلمي. وعلى الرغم من أنني شخصيا أفضل فكرة المعايير العولمية، فإن التساؤلات بشأن أصولها، وكيف يتم تحقيقها، ولأي سبب يتم تحقيقها، تبقى أسئلة قائمة، وفي هذه المجالات، تتوصل ما بعد الاستعمارية إلى ثلاثة استنتاجات: الأول، هو أنه لا يكفي أن يقتصر المنظرون على تبني تصنيفات کالنظام الدولي، والمجتمع الدولي، وآداب التعامل الدولية؛ لأن هذه المفاهيم تستذكر حقبة من التوسع الأوروبي والاستعمارية الأوروبية، وهي لا تخلو من التأثيرات السياسية، بل هي في الواقع تنضح بانثروبولوجيا استعمارية يقدم فيها الغرب الفضيل من الفضيلة المدعاة الأسطوري نفسه معلما للآخرين، بغض النظر عن السياق، وعن هدف ارتباطه، وعن طبيعة سلوكه.
ثانيا، هنالك حركة مزدوجة في الفكر الغربي الأخلاني تتضمن، في جانبها الأول، تأكيد الحضور (presence) (عندما تكون المؤلفات الأوروبية ذات أهمية بالنسبة إلى شرعية الخطاب وهدفه) وتتضمن، في جانبها الثاني، التحو أو الغياب (erasure) (عندما يتم حتما إخفاء الهوية الأوروبية). وهنالك استراتيجية وراء كل أسلوب في الاستدلال. فعلى سبيل المثال، الافتراض بأن حقوق الإنسان هي في کونية، هو افتراض يعتمد على التقليل من تركيزها على أصولها الغربية، ويعتمد على استدعاء حقوق الإنسان من الجماعات التي كانت ضحية في أنحاء العالم، ومن ناحية أخرى، عندما يحتاج مفكرو الغرب وسياسيوه إلى أن يشددوا على فوقية الأوروبيين وواجبهم أو حقهم في تولي القيادة، فإنهم يشددون على أن حقوق الإنسان هي معالم للحضارة تخص الغرب. إذا، فتأكيد الأصل الغربي للقيم الكونية بدعم الموقف الذي يقول إن الغرب يمكنه أن يقدم نفسه بوصفه المعلم الأخلاقي، الذي يعلم الآخرين عن القيم والأخلاقيات، وآداب التعامل. ولا يقتصر اعتراض ما بعد الاستعمارية على مثل تلك الحوارات من حيث إنها تغلق المجال أمام التمحيص في مزايا وحدود ما يرتبط بالحوارات من تشكيلات للقيم، والمصالح، والأخلاقيات؛ فالنقاد، إضافة إلى ذلك، يشيرون إلى أن النقاشات حول الكونية الغربية (Western universalism) والاستقامة الأخلاقية المزعومتين خفيان الأصل الغربي للأشكال الحديثة من العنف السياسي، بما فيها النازية، والفاشية، والستالينية. وتاليا، فإن هذه الأشكال الحديثة من العنف السياسي، إضافة إلى ممارسات الحرب الشاملة التي تجسدت في الحربين العالميتين في القرن العشرين، تعزى إلى لحظات متراجعة في المسار الغربي الطويل نحو إعتاق البشرية لتحرير الإنسان. باختصار، هنالك منفعة سياسية اللغرب من المفهوم الذي يصور الغرب ذلك الإقليم العصري، والديمقراطي، والمزدهر من مناطق الكرة الأرضية، تماما مثلما يتم إخفاء الأبعاد الأخرى للمسار الأوروبي باعتبارها ذرائع نفعية سياسية. |
ثالثا، لا تتخلى ما بعد الاستعمارية عن العقل والكونية [النظر إلى جميع الناس بالتساوي) (universalism) عندما يوجه الممارسون نقدهم بأن أوروبا الإمبريالية كانت تسعى إلى مصالحها الذاتية وبأنها مسؤولة عن حماقات تاريخية في المقابل، لا ينكر النقاد ما بعد الاستعماريين بان العقلانية والبراغماتية من الملكات الإنسانية. غير أن ما بعد الاستعمارية، في أي حال، لا تتعاطف مع إصرار السرديات المؤسساتية على الزعم بموضوعية وحيادية أهداف التحقيق الأبحاث العلمية الاجتماعية) وأساليبه. فهذه السرديات التخصصية تنضح بالغطرسة الاستعمارية التي تخلط بين رغبة الفرد في الحقيقة، وطموح الفرد في الكونية، وبالتأكيد، فإن المنظورات التخصصية ذات الصلة غير قادرة على مخاطبة العالم ككل واحد. فهي نتاج للافتراضية الفكرية والأخلاقية التي تؤدي باستمرار إلى مغامرات لا يمكن التنبؤ بها (والتي تكون خطرة أحيانا) والمتنكرة في زي التحرير (كالغزو الأنكلو - أميركي للعراق) أو على شكل تدخلات إنسانية في الصومال على سبيل المثال). 

إن هذه التعليقات هي جزء من الشكوك التي تكنها ما بعد الاستعمارية تجاه المقاربات المؤسساتية الحالية في العلاقات الدولية (انظر على سبيل المثال الفصلين الخامس والسادس). تنتج هذه المقاربات نظما دولية وأخلاقيات دولية عرض على أنها أطر متسامية لتشريع القيم وتطبيقها، من دون إعطاء تعريف مسبق للقيم ومن دون مداولات مسبقة حول طبيعة المؤسسات المقترحة أو أصلها. وغالبا ما تظهر الخطابات المؤسساتية الليبرالية والليبرالية الجديدة تحديدا على أنها تبريرات منطقية للهيمنة متكرة بنزعة إنسانية (humanism) ک ونية. من جهتها، تخاطر الكوزموبوليتانية في أن تصبح تشابكا معقدا للمصالح الذاتية بتكون من التمثيلات الخاطئة للعقلانية، والتضامن، والمصلحة العامة
بمفاهيم دانية). أخيرا، فإن المفاهيم البنائية عن تبادلية المعايير " mutuality') (of norms، وعن التشكيل المشترك للمعايير (
co - constitution ' of noms) (انظر الفصل التاسع) تبدو للسامع من زاوية ما بعد الاستعمارية محاولة ساخرة التجميل دخول المستعمرات السابقة التي أضعفت مؤسساتيا وهزمت سياسيا، بطريقة استسلامية، في أنظمة الحكم الدولية القائمة، وذلك كإشارات الإقناع الأخلاقي" (moral suasion) و/ أو «التفضيل، (preference) (المزعومين). | 














مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید