المنشورات

القوة والشرعية في النظام العام الدولي

تتطلب ما بعد الاستعمارية درجة ما من البراعة في التفكير، وهي تبدا بوجهات نظر عن الإمبراطورية والإمبريالية تتعارض مع البديهيات التخصصية القائمة، وعودة إلى كانط، فقد يكون الأوروبيون قد جربوا الإمبريالية كمشروع إيجابي، حتى إن التعبيرات البسيطة مثل (Pax Britannica) أي السلام البريطاني، تقترح بأن أولئك الذين يشتركون في بناء الإمبراطورية اعتقدوا بأن الإمبريالية تلبي الاحتياجات والرغبات المتروبوليتانية، ومن ثم فهي تحقق قبولا لها. وهذا التعبير، إضافة إلى تعييرات غربية مشابهة تتعلق بالقوة، والأقوال المأثورة حول استخدام القوة، والأوامر الأخلاقية، أصبحت الآن مشفرة كأخلاقيات دولية. ويذكرنا اليوم بعض المقاربات، کالمدرسة الإنكليزية، بأن الإمبراطورية والإمبريالية هما الجد الجيني [الوراثي) للنظام الدولي والأخلاقيات الدولية وتبدأ ما بعد الاستعمارية أيضا بالحقيقة البدهية بأن المؤسسات الأوروبية قد احتلت مكانا مركزيا في تطوير مثل هذه المفاهيم ک «النظام الدولي،، والأخلاقيات الدولية، ود القانون الدولي». لكن ما بعد الاستعمارية تطرح اسئلة عن النظام الدولي والقانون الدولي والأخلاقيات لا تمتثل للحقائق المطلقة في التخصص ولا للمفاهيم التي وصلتنا والمتعلقة بالنقد وإصدار الأحكام. ومجددا، فإن المفتاح إلى الاختلاف بعد الاستعماري يستند إلى حقيقة أن تجارب المغنيين والمستعمرين تتعارض مع تجارب الغزاة والمستعمرين. ففيما قد يستذكر الغزاة والمستعمرون السلام البريطاني، من بين حوادث أخرى، باعتباره البدايات التي لا تخلو من الأخطاء المشروع تام، فقد يستذكره المنزؤون والمستعمرون بوصفه لحاقا غطاء يخفى السيناريوهات الكابوسية التي عاشوها عبر الزمان والمكان.
منع الانتشار النووي من وجهة نظر ما بعد استعمارية
ارغب هنا، وعلى سبيل التوضيح، في أن أرسم مخططا مبدئيا موجزا للرد بعد الاستعماري على الانتهاكات المفترضة لمعاهدة حظر الانتشار النووي (Nuclear Non - Proliferation Treaty). إن فكرة أنه ينبغي منع انتشار الأسلحة النووية كانت تقريبا مرحبا بها كلا من جانب ما يسمى بدول العالم الثالث. إلا أنها عبرت عن مخاوفها تجاه صوغ الاتفاق ما أدى إلى مجموعتين منفصلتين من المحظورات تكمل إحداهما الأخرى: واحد ضد الانتشار العمودي (أو الزيادة في القدرات النووية ضمن الدول المصرح بها أنها نووية)، وأخرى ضد الانتشار الأفقي (من دولة إلى دولة). وقد تم بشكل واسع تجاهل الحظر على الانتشار العمودي في الحوارات العامة اليوم وذلك على حساب تسليط الضوء على عدم شرعية سعي الدول التي تسمى بالدول المارقة للحصول على أسلحة نووية. وقد أشارت في بعض الأحيان مؤسسات مثل مشروع وسکونسن the) Wisconsin Project، ومؤسسة كارنيغي للسلام الدولي Carnegie Foundation for) (International Peace، إلى التفاوت المتمثل بتجاهل الانتشار العمودي، لكنها غالبا ما تعزو خطر الأسلحة النووية على الجنس البشري إلى حيازتها من دول بعد استعمارية صغيرة تخضع لكم سيئة. إلا أنك إذا كنت أفريقيا متشبعا بتاريخ ضبط التسلح، فقد يتراءى لك أن استخدام الحظر على أسلحة الدمار الشامل كاداة سياسية تحت معاهدة حظر الانتشار، هو استخدام له ما يقاربه في معاهدة بروکسل لعام 1890 (Brussels Treaty). فقد حظرت تلك المعاهدة بيع الأسلحة على خلفية تعبنة الأخيرة (breechloaders) للدول الأفريقية التي تقع ما بين دائرتي العرض 20 درجة شمالا و 22 درجة جنوبا (42). وقد أتاح الرسم الخرائطي للحظر الفرصة لأنظمة الحكم البيضاء في جنوب أفريقيا وللقوى الاستعمارية بتسليح نفسها بأسلحة لا يمكن الأفريقيين الحصول عليها خلال الحقيبة المصيرية للاستعمار الرسمي عقب مؤتمر برلين لعام 1885، والذي رسم خطوط الامتداد الاستعماري الأوروبي في أفريقيا.
من هذا المنظور، فإن التبعية السياسية في النظرية الدولية وفي أنظمة الحكم الدولية الحديثة تعتمد على استخدام العنف من جانب القلة التي تحتكر وسائل العنف ضد الأغلبية التي يجب أن تحرم تلك الوسائل محليا
من اجل الأمن القومي) أو دوليا من أجل المصلحة القومية). ومع اقتران هذا الأمر باستخدامات الأسلحة الحديثة في الوقع الاستعمارية السابقة بعد الحربين العالميتين، فليس من الجنون أن نؤكد ما يلي: أن الأنظمة الدولية الضبط التسلح قد حافظت وبشكل كبير على الحالة السلمية في أوروبا وفي ما بين الدول الغربية لكنها أنذرت دائما بحرب» هدامة ضد الشعوب الأخرى، من الهند الصينية إلى أفريقيا إلى الشرق الأوسط. فما الذي على المرء أن يستنتجه من حذف لتناول مثل هذه الحروب الهدامة من جانب التصورات النظرية التخصصية الواقعية والمؤسساتية الليبرالية الجديدة، وما الذي يمكن استنتاجه تحديدا من مزاعمها بشأن موضوعيتها؟ ثمة إجابات عدة في الأوساط بعد الاستعمارية. فعلى سبيل المثال، المقترحات الواقعية التي تفوض الدفاع عن المصلحة القومية من خلال احتكار الدولة لوسائل العنف واحتكارها لاستخدام العنف، تبدو للمنظر بعد الاستعماري أنها خلاصة من السرديات عن الخلاص، والتي ليس لها غايات أو أهداف إلا بالنسبة إلى الدول القادرة على الدخول في سباق للتسلح والراغبة في الدخول فيه، و/ أو الدول القادرة على السعي وراء المصالح القومية، خارج أراضيها، والراغبة في السعي وراء تلك المصالح
وحول تلك الأمور كالحد من الانتشار النووي، فإن ما بعد الاستعمارية، في أحسن الأحوال، متأرجحة بشأن تطبيقه في ظل الظروف الحالية؛ أي الفصل التعسفي من جانب الفلة حول من يجب عليه الحصول على أسلحة نووية ومن يجب عليه عدم الحصول عليها). وفي هذا الشأن تحديدا، يعلق الناقد ما بعد الاستعماري بين موقفين لا يمكن الدفاع عن أي منهما (4). فمن ناحية، تؤيد ما بعد الاستعمارية نظاما دوليا قهريا يضمن بقاء البشرية بسلام وكرامة. وفي هذه الحالة، يجب على المرء أن يعارض محاولات العالم الثالث الحصول على اسلحة نووية. ومن ناحية أخرى، فإن ما بعد الاستعمارية لا تتغاضى عن الهيمنة واحادية الأطراف المتنكرة بزي المنطق العقلاني. وهنا ينبغي للمرء أن يحارب ردود الأفعال الهيمنية من جانب من يطلق عليهم اسم العقلانين والكونيين (universalists) الذين قد يموهون المصالح ضيقة الأفق على هيئة المصلحة العامة. ولا يمكن أن ياتي حل لهذه المعضلة إلا إذا - وعندما - يتم فضح تعرية اللغة الأخلاقية السياسية (
ethico - political language) للقوى العظمي کلغة بالية وغير مشروعة. حتى ذلك الحين، ستحاول الكيانات التي كانت مستعمرة سابقا والقوى الأضعف أن تضمن مكانها الخاص بها في الاقتصاد العولمي للقوى. وفي هذه الأثناء، سيكون صعبا على ما بعد الاستعمارية أن تدعم كليا الحلول للمشكلات العالمية التي هي ليست بأي شكل من الأشكال حلولا كونية.
(43) يشهد المرء اليوم انشقاقا في النظام الدولي بشان الأسلحة النووية. ?ذ على سبيل المثال التصويت الذي جرى في شباط/ فبراير 2006 حول ايران. فقد كانت تلك أول مرة في تاريخ الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي لم تتمكن فيها الوكالة من التوصل إلى إجماع على إدانة انتهاك واضح لمعاهدة حظر الانتشار. فمن بين الحكام الخمسة والثلاثين الممثلين للدول، سبعة وعشرون ابدوا الإجراء، بينما عارفه ثلاثة، وامتنع خمسة عن التصويت. وفيما قد يجادل بأنه كان يجب نبرد اصوات المعارضين، إلا أن امتناع جنوب أفريقيا والبرازيل كان مؤشرا كبيرا على شعور معين بالظلم. 












مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید