توضح أزمة السويس الإرث المبهم لتفكيك الاستعمار، وبهذه الصفة، فإن لها مضامين تتعلق بالأبدال بعد الاستعمارية للقوانين والأخلاقيات الدولية. فهي مبدئيا توضح الرغبة في ديمومة السلطة الغربية على الآخرين بناء على أنظمة حقيقية أعطت الشرعية الضمنية للعنف، وبناء على قاعدة آمرة أجازت قانوئا تبعية الشعوب الأصلية للقوى الغربية. ووفقا لأشيل مبيمبي) (Achille Mbcembe)، فإن لهذه القاعدة الأمر الملزم أربع خصائص، وهي: (1) نظام استثناء سمح للغرب بان يضع نفسه فوق القانون العام (2) وأنظمة تاريخية من الامتيازات والحصانات التي تمنح لصناع القرار الغربيين والأشخاص الغربيين؛ (3) والخلط بين الأخلاقية الدولية وبين الأوامر الزجرية الغربية التي تفرض على الآخرين؛ (4) ودوران السيادة (circularity of sovereignty) التي من خلالها يتم نفي أو إلغاء سيادة الآخرين باستمرار من أجل إعطاء أولوية للأنظمة الدولية التي تم تشريعها من الغرب، والتي تؤكد تفوق القوى الغربية.
ثانيا، يظهر القرار الدولي لحل أزمة السويس الأسلوب الذي سعت من خلاله الولايات المتحدة إلى تحديث/ إحياء تلك القاعدة بحيث تحسب حسابا للحساسيات بعد الاستعمارية لكن من دون التخلي عن تلك الوصية. وفي زمن أزمة السويس، ووجهت الولايات المتحدة بولاءات تجاه حلفائها - بريطانيا العظمى، وفرنسا، وإسرائيل - وبضرورة التنديد بغزو هنغاريا من جانب خصمها في الحرب الباردة، على اعتباره متناقضا مع النظام العام لما بعد الحرب. وقد جاء الحق عندما اقترح ليستر بيرسون (Lester Pearson)، وزير الشؤون الخارجية الكندي، تشكيل قوة الطواري التابعة للأمم المتحدة (United Nations Emergency Force) في السويس للحفاظ على الوضع السلمي بين القوى المتعارضة إلى أن يتم التوصل إلى تسوية سياسية. وقد خرج الرئيس أيزنهاور من الأزمة مؤيدا للقوات المناهضة للاستعمار في العالم الثالث مع حفاظه على تحالفاته التقليدية. وتاليا، فحتى عندما اعتبر جمال عبد الناصر بطلا في العالم الثالث، فإن نظام حكمه لم يكن قادرا على تحقيق نظام حوكمة بعد استعماري بديل كان مؤيدو عبد الناصر يرغبون بشدة في تشكيله ويروجون له، وكان ذلك تحذيرا لأي شخص يدمج تفكيك الاستعمار ومناهضته بالنجاح بعد الاستعماري
(postcolonial success)
خلفية أزمة السويس
كما ناقشنا سابقا، نشات مدرسة ما بعد الاستعمارية من خلال انقطاع زمني في الحداثة الأوروبية جاء بعد انتهاء الحكم الاستعماري الرسمي. وقد سبق ذلك ظهور حركة مناهضة الاستعمارية (anti
- colonialism)، أو معارضة الاحتلال الاستعماري أو الإدارة الاستعمارية، إضافة إلى حركات أخرى مناهضة للإمبريالية، بما فيها المقاومة لما يسمي بالاختراق الاستعماري (colonial penetration). باختصار، فإن ما بعد الاستعمارية تؤشر إلى انحدار النظام الاستعماري الأوروبي والحقائق الإيمانية المقترنة به. أما الترتيبات السياسية والجهات السياسية الفاعلة التي ظهرت کابدال للقوة الغربية، فقد أعطت معنى اللحظة بعد الاستعمارية من خلال إعادة فحص الأسس الفكرية والسياسية والأخلاقية للاستعمارية. من الناحية السياسية، تصر ما بعد الاستعمارية على نظام دولي جديد يخلو من تركات الاستعمارية أو المؤسسات الاستعمارية. وكما تحققت اليوم، فإن لدى ما بعد الاستعمارية أهداف محددة يمكن تتبعها إلى مؤتمر باندونغ (Bandung Conference) في عام 1955، وإلى حركة عدم الانحياز (
Non - Aligned Movement) لعام 1961، وحركة القارية الثلاثية (Tricontinentalism الكوبية، من ضمن غيرها. وقد جمع مؤتمر باندونغ زعماء من أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية تحت إشراف رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي (Chou En - Lai)، ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو (Jawaherlal Nehn)، والرئيس الإندونيسي سوكارنو (Sukar 0). وكان هدف المؤتمر إزالة المظاهر الاستعمارية من الممارسات الدولية في المسائل المتعلقة بالسياسات الخارجية والتنمية. أما حركة عدم الانحياز، فقد كانت مكملة لروح مؤتمر باندونغ من خلال إبراز حاجة مجتمع المصالح إلى أن ينهض بالهدف الوحيد المتمثل بالمساواة، والارتباط الحره) fee) (association، والتبادلية (mutuality) في الشؤون الدولية. أخيرا، فقد كانت فكرة القارية الثلاثية تتمثل في تطوير روح جديدة في القوة والذاتية للقارات الثلاث المعنية [آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية من خلال السياسة الخارجية.
انعكست هذه الأجندات والأجندات والمطالب السابقة لها جزئيا في إعلان ميثاق الأمم المتحدة أن تقرير المصير هو أحد الأحجار الأساس للنظام الدولي. وقد أعطت دافعا لقرارات جمال عبد الناصر، وآخرين ممن يسمون بزعماء دول العالم الثالث، بما فيها قرار تأميم قناة السويس في عام 1956. مع ذلك، فإن معظم تفسيرات ازمة السويس خبر قصة عن توازن القوى من جانب القوى العظمي، وعن التحالفات المضطربة للحرب الباردة، وعن التهور المفترض لقومية العالم الثالث. حتى إن هذه التفسيرات قد تشير إلى الحدث باسم حرب قناة السويس، وذلك لأن طموح عبد الناصر في تأميم قناة السويس قد نتجت عنه حرب عدوانية لعدوان ثلاثي ضد مصر من جانب المملكة المتحدة، وفرنسا، وإسرائيل. أما الرواية الغربية السائدة عن الحوادث التي قادت إلى الحرب فهي مبنية على مسلمات بدهية بسيطة. ولتلخيص قصة طويلة، فقد تم تطوير قناة السويس بتوجيه من فردينان دو ليسي Ferdinand) (de Lesseps، بين عامي 1854 و 1865، بناء على عقد امتياز منحه إياه سعيد
(0) الارتباط الحر (free association) والذي يسمى ايفا بالارتباط الحر للمنتجين، او كما وصفه مارکس بأنه مجتمع الأفراد المترابطين بحرية، هو مصطلح تستخدمه الفلسفة الفوضوية (اللاسلطوية / اللاحكوماتية) (anarchism) والماركسية، والشيوعية، ويشير إلى العلاقة بين الأفراد حيث لا وجود للدولة اللحكومة، أو الطبقة الاجتماعية، أو السلطة، في مجتمع الغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهو يختلف عن مصطلح (free association) (التداعي الحز) في علم النفس والذي يشير إلى أسلوب التحليل النفسي الذي طوره فرويد باشا الذي كان والي مصر آنذاك. وبدأت القناة بالعمل في الخامس عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1858، وتم عقد اتفاق نخضع القناة بموجبه لإدارة شركة قناة السويس (The Suez Canal Company) (واسمها بالفرنسية Compagnie Universelle du Canal Maritime de Suez - الشركة العالمية لقناة السويس للسفن) المدة 99 عاما. وبموجب اتفاق أوروبي وأميركي، كان يفترض بالقناة أن تكون
مفتوحة لجميع السفن من كل البلدان وفقا لخطة رسمها المهندس النمساوي الويس نيغريني (Alois Negrelli). وفي عام 1956، قرر جمال عبد الناصر، وهو قومي عربي ذو توجهات يسارية، أو حتى أنه عروبي يؤمن بالوحدة لكل العرب، إبطال النظام الذي يحكم قناة السويس. وقد كان الغرب يصور عبد الناصر في ذلك الحين حليفا للاتحاد السوفياتي. وقد قيل عن عبد الناصر إن لديه طموحا متهورا واعتبارا قليلا للخفايا الدقيقة للقانون الدولي. واعتبرت هذه الرواية، أن بريطانيا وفرنسا كانتا ملزمتين بالرد على أفعال عبد الناصر، وأن ذلك كان أمرا مفروقا منه، ولو كان ذلك فحسب من أجل ردع أفعال مشابهة لقوى تعديلية [تريد تغيير الوقائع التي فرضها الاستعمار (revisionists)] أخرى في العالم الثالث. وهكذا، فقد امتعضت بريطانيا وفرنسا من قرار عبد الناصر تأميم إدارة القناة، وكانت إسرائيل قلقة بشان حتي عبور السفن المتجهة إلى ميناء إيلات.
وتفترض الرواية المذكورة آنفا أن ردات أفعال القوتين الكبريين آنذاك - وهما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي - كانت تصرفات منطقية وأفعالا حساسة في التوازن. ومن ثم، فقد كانت الولايات المتحدة الأميركية حليفة في الناتو لفرنسا وبريطانيا، لكن وفقا للخطط السياسية الجغرافية للحرب الباردة، كانت الأزمة الهنغارية ساحة تسمح بتال القوة السوفياتية بفعالية أكبر. وكانت الولايات المتحدة الأميركية أيضا
عرضة لإحراج محتمل في علاقاتها العامة مع العالم الثالث إذا ما انتقدت التدخل العسكري للاتحاد السوفياتي في هنغاريا، بينما هي تتغاضى عن التدخل العسكري للقوى الاستعمارية السابقة في أحد أقاليمها السابقة.
وكان الاتحاد السوفياتي متحالفة مع مصر لكن كانت لديه مخاوف أكبر بشأن الأزمة الهنغارية التي هددت فكرة الشيوعية ذاتها. ومن أجل أن يظهر الاتحاد السوفياتي اتسائا في إرسال قواته العسكرية دفاعا عن حلفائه، فقد أعطى السوفيات أيضا وعدا بالدفاع عن مصر. وفي النهاية، كانت العملية الفرنسية - البريطانية - الإسرائيلية للسيطرة على القناة فائقة النجاح من وجهة نظر عسكرية، ولكن من منظور سياسي جغرافي، أثبتت العملية أنها كارثة دبلوماسية وأيديولوجية البريطانيا وفرنسا. وكذلك كان الحال بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي لسيناء المصرية. التشكيك في التصورات التقليدية لأزمة السويس
إن هذه القراءة واسعة التداول ترضي الواقعيين وآخرين، لكنها بعيدة قليلا عن القضايا الرئيسة التي تشكل أساسا لسيطرة مصر على قناة السويس. فما بعد الاستعمارية تعتبر أن خطاب الدول الغربية حول اتفاقات السويس ليس محصنا ضد التشكيك فيه، وترى أن قرار بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في شن حرب على مصر كان قرارا غير منطقي، وسخيفا، وطائشا بطريقته الخاصة. وکي نوضح ذلك، تخيل كاتبا ما، ولديه طالب يدرس مادة مدخل في القانون الدولي التي يدرس هذا الكاتب فيها موضوع الأنظمة المسيطرة على الممرات المائية، والطالب هذا هو من غينيا التي حصلت على استقلالها من فرنسا منذ أقل من عقدين من الزمان. أما الأستاذ، وهو فرنسي، فيكتب على اللوح أسماء ثلاث قنوات، هي: قناة السويس، وقناة بنما، وقناة كيل (قناة الإمبراطور فيلهلم). ومن ثم يصرح بثقة، أنه وعلى الرغم من أنها تقع كليا ضمن الأراضي المصرية، إلا أن قناة السويس ممر دولي، وأن قناة بنما التي تجتاح دولة بنما، هي فعليا قناة أميركية، أما قناة كيل، فهي ممتلكات المائية ذلك أنها تقع في ألمانيا. ويمكنك أن تتخيل أن الأستاذ، إذا ما أراد أن يعبر عن احترام القانون الدولي، قد كان مخطئا، فحيثما رأى الأستاذ يقينا معياريا في ما يتعلق بالقوانين، فقد رأى هذا الطالب وأصدقاؤه غطرسة وتعجرا استعمارئين. ولم يكن في مقدورنا أن نستوعب الجدال الذي يقول إن ألمانيا طالبت بحق ملكية قناة كيل بسبب موقعها، لكن مصر لا يمكنها المطالبة بالسويس في ضوء المفاهيم الاستعمارية. وقد كتا مغناظين بشدة، عندما ذكر أستاذ القانون، وبعبارة غير حكيمة منه، أن أعمال حفر قناة السويس كانت غالبا نتيجة للعمالة الجبرية للمصريين الفقراء. وكان يمكن كل طالب في الصف ان بتذكر أن المعاهدات المجحفة، والعمالة الجبرية أو عمالة العبيد، والأنظمة الدولية التمييزية، كانت في الواقع السمة المميزة للاستعمارية ا
وقد بدا لنا أن تدويل قناة السويس تحت إدارة أوروبية خاصة لمن القطاع الخاص هو ردة في اتجاه المفاهيم الأوروبية في السيادة الإمبريالية. وهكذا، فيما كان يفترض بنا أن نستشيط غضبا بسبب مغامرة عبد الناصر، فقد تمنينا لو أننا كنا موجودين هناك حتى نهلل له. فقد كان عبد الناصر في الواقع مصيا في أن خطاب الاتفاقات الاستعمارية وروحها غير متسقين مع مفهوم ما بعد الحرب في حق تقرير المصير. وفي هذه المنافسة بعد الاستعمارية، كان عبد الناصر لوحده. كما أنه لم يكن أمرا يتفرد به هذا الظرف في أن القوى الاستعمارية السابقة حاولت الحفاظ على الامتيازات الاستعمارية في وجه المطالبات المصرية. فعبد الناصر كان قد سبقه محمد مصدق في إيران في عام 1953 والذي أزيح عن الحكم من شاه إيران محمد رضا بهلوي، والقوى المناصرة للملكية، في انقلاب قادته وکالتا الاستخبارات البريطانية والأميركية. وقد كانت خطبته هي رغبته في إعادة التفاوض بشأن الصفقات النفطية التي أبرمت في مطلع القرن والتي اعطت الشركات البريطانية سيطرة على النفط الإيراني. وعلى الرغم من ذلك، فقد تلا تصدق وعبد الناصر عديد من زعماء دول العالم الثالث وحركات من أفريقيا إلى آسيا، وأميركا اللاتينية. ومهما بدت اليوم منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) تعج بالفساد، إلا أن تأسيسها كان مرتبطا جزئيا بالتمزد بعد الاستعماري على مثل هذه الأشكال الاستعمارية المترسبة التي تظهر في الأنظمة الدولية المسيطرة على الممرات المائية.
قد تساءل عن السبب الذي يجعل محاضرة بسيطة كهذه تؤدي
دور إلى الإساءة لأي كان، لكنك ستكون مخطئا في التفكير في أن تبريرات المعاهدات المجحفة، والعمالة الجبرية أو عمالة العبيد، والأنظمة الدولية التمييزية، هي مجرد أفعال سياسية تمت ممارستها على سبيل ملاءمتها ونفعيتها. ذلك أن القضية ليست على هذا النحو. فهذه الأفعال كانت مغروسة بطرائق محددة في التفكير وفي كيفية الارتباط بالعالم، والتي كانت شائعة بين الأب الأوروبية والغربية. وقد تغاضي الفلاسفة والمنظرون السياسيون عن مثل هذه الأفعال وعن العمليات المرتبطة بها من خلال تعبيرات الملكية المتعلقة بالمجتمع والقانون؛ وبالعمالة والممتلكات؛ وبالمنطق العقلاني والمشاعر الأخلاقية. ومنذ القرن السابع عشر، طور المفكرون الأوروبيون، بمن فيهم الفلاسفة الفرنسيون، والتفعيون البريطانيون، أنماطا الفهم المجتمعات ومؤسساتها باعتبارها أساسا للأهليات والاستحقاقات. أما طرائق الفهم هذه فهي معقدة، وهي في بعض الأحيان متناقضة، وخارج هدف هذه المقدمة. لكن للتفصيل في موضوع سابق، فقد كانت طرائق الفهم هذه تستند إلى علاقات مفترضة تربط الشعوب بالأراضي والاقتصاد، وكانت هذه الافتراضات تقود إلى استنتاجات تفيد بأن «الشعوب الأصلية لم يكن لديها روابط معنوية وثيقة بالأرض، بحيث تؤدي إلى ملكيتهم لها. وقد كانت الرؤية المركزية هي أن «الشعوب الأصلية» كانت أقل دابا ونشاطا وكان ينقصها العقل الإدراك المصلحة العامة كما ينبغي. في المقابل، فقد افترض أن الأوروبيين موهوبون بالعقل بحيث يبرعون في النشاط والعمل الدؤوب، ويطمحون إلى ملكية الأراضي، وتدفعهم الدوافع النبيلة. وقد كان يفترض بهم جلب العلم والقيم إلى أولئك الأقل حظا، حتى ولو كان ذلك بالإكراه. لذلك فقد كان في إمكان الغربي أن ينتزع امتيارا من الوالي الخاضع للغرب، ويجد عمالة جبرية لحفر قناة، ويجني أموالا من وراء ذلك، ويسمي ذلك منفعة عامة. وفي ضوء ذلك، فقد أبطلت الخطوة التي اتخذها عبد الناصر، ويضربة واحدة، الافتراضات الأوروبية التي دامت قروئا، والمتعلقة بعلاقات الشعوب الأصلية، بالطبيعة (أو ببيئتها) من خلال المطالبة بالحقوق المصرية في القناة. وقد كانت هذه الافتراضات، التي تم صوغها بأسلوب بليغ من أمثال جون لوك ومونتسكيو (Montesguieu)، اساسا المطالب أوروبا في السيادة والملكية خارج إقليمها.
لم تختفي هذه التبريرات من السرديات التخصصية اليوم. فحيثما كان ملائما، تبني تخصص العلاقات الدولية حماقات الإمبريالية السالفة وتبريراتها بوصفها (حق) ممارسة للدولة. وليس من غير الشائع أن تصادف مسلمة تقول إن القوى العظمى لديها النفوذ الأكبر في العالم، وتاليا يجب أن يكون لديها استعداد لاستخدام قدراتها من أجل دفع الوجود الدولي في اتجاهات معينة. ويتم إعطاء هذا التأكيد من دون التشكيك في الطريقة التي يستخدم فيها بعض القوى العظمي نفوذه ومن دون التشكيك في الوسائل والغايات التي توظف القوى العظمى قدراتها لأجلها. ولحسن الحظ، فإن عددا معتبرا من الأقليات ضمن مواطني القوى العظمي متشكك نوعا ما في الحكمة المتضمنة في مثل هذه الادعاءات (6). ومن وجهة نظر ما بعد بنيوية، فإن مثل هذه البدهيات تستحضر، وكردة فعل انعكاسية، ذكريات في اشكال التحيز، والتمييز، والحرمان. وفي مثل تلك الحالات، يبدو التخصص أداة | للدولة، أكثر من كونه علماء
کتاب سيبا غروفوفوي بعنوان
ما وراء التمركز الأوروبي والفوضى") تظهر ما بعد الاستعمارية في جميع الزقع التي كانت سابقا تخضع للاستعمار، وتنطبق بشكل متساو على التاريخ، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، إلا أنها لا تنطبق بشكل تقليدي على العلوم السياسية وتخصص العلاقات الدولية. لذا، سأستخدم للتوضيح كتابي ما وراء التمركز الأوروبي والفوضى) (Beyond Eurocentrism and Anarchy)، يعيد هذا الكتاب النظر في الأسس الإبستيمولوجية والأنطولوجية للمقاربات التخصصية في تخصص العلاقات الدولية من خلال دراسة المداخلات في الفكر المتعلق بالنظام الدولي من طريق مجموعة من الموضوعات (ما بعد الاستعمارية في السياق المتعلق بفرنسا، وتغطى الدراسة المدة بين عامي 39
19 و 1950، عندما كانت القوى الاستعمارية الأوروبية مستغرقة في الشك الذاتي. وفضلا عن القوميين المتشددين، فقد آمن قليل من الأوروبيين بصدق بأن المؤسسات، والقيم، والعلوم الغربية وحدها تستطيع ترميم العالم. وعلاوة على ذلك، كانت القوى الاستعمارية قد دخلت الحرب متضرعة للشعوب المستعمرة للمساعدة مقابل وعودها بإصلاحات استعمارية بعد الحرب. ولأول مرة، كان الغربيون منفتحين على أفكار جديدة في عادة إحياء أنفسهم وإعادة تشكيل النظام العالمي.
وقد ذهبت فرنسا إلى أبعد مدى في التجارب السياسية. ففي عام 1944، اقترحت اتحادا دستوريا كاملا للدولة الأم [المستعمرة والمستعمرات التابعة لها، يشتمل على ثلاث هيئات تشريعية تتضمن مقاعد ممثلة للشعوب المستعمرة. وكان القصد من الاتحاد أن يبني جسورا بين العوالم الأخلاقية والثقافية، وأن يخلق مجتمعا جديدا لا تفونه الاستعمارية، والظلم العرفي، وعدم الاستقرار الاقتصادي والشخصي. وقد فتح الاتحاد آفاقا أيديولوجية وسياسية للتأملات والمداولات الأخلاقية حول طبيعة، ومكان، ومعنى السيادة، والمواطنة، والأرض.
(48) المصدر نفه.
أما فئة المتطورين (the evolut) - وهي فئة متميزة من الأشخاص ممن يتحدرون من الشعوب المستعمرة الذين منحوا مكانة خاصة تحت الحكم الاستعماري الفرنسي بسبب تعليمهم، أو أدوارهم، أو مناصبهم - فقد مارست دورا حاسما، ليس في إعادة تعريف أهداف الحرب من أجل التضامن الأفريقي وحسب، بل أيضا في إعادة تعريف المؤسسات الفرنسية. ومن بين هؤلاء فيليكس إيبويه (Felis Ebout) الذي رسم الطريق المؤسسي الذي سلكه شارل ديغول (Charles de Gaulle) ومؤيدوه انتقالا من الحركات المنشقة إلى حركات المقاومة. ولاحقا الجمود الحياة العامة عقب خزي الهزيمة، دعم المتطورون (evolut) الشود المقاومة الفرنسية، حيث كانوا يشكلون نواة للشبكات المناهضة اللحروب في المستعمرات، كما قدموا اللغة التي يمكن من خلالها تحدي الدولة والحفاظ على الشرعية. أخيرا، فقد برز المتطورون باعتبارهم المحكمين الأساسيين في التخاصمات القضائية والتحاورات المتروبوليتانية بشان رموز مرحلة ما بعد الحرب ومؤسساتها، وهي: الهوية، والسيادة، والدولة، والأمة، والجمهورية، والإمبراطورية وتاليا الولاء والوطنية، والانشقاق والخيانة، والحرية والديمقراطية. أما الرؤية التي قدمها هؤلاء المفكرون السود والمتعلقة بالفاعلية الأخلاقية (moral agency)، والذاتية، والتضامن، والمصالح الجماعية، فقد تنافست مع الرؤية الخاصة باليسار الفرنسي، والإدارتين الأميركيتين لفرانکلين روزفلت وهاري ترومان، والحكومة الفيشية (Vichy government) والمقاومة الفرنسية. وتختلف الرؤية الكوزموبوليتانية المنطوية عليها لرؤية المفكرين السودا عن المفاهيم المستمدة من التنويرية. فهي تشير إلى آفاق أخلاقية جديرة بالتقدير كبديل لتلك التي اسس عليها النظام الدولي الحالي، وبذلك فهي تفتح أبوابا للطرائق البديلة في تخيل السياسية العالمية
الاستنتاج
إن لدى ما بعد الاستعمارية بعدا نقديا بنايا؛ وهو أنها لا تبحث عن نقاط التقاء فحسب على مستويات من الفهم للمعايير الموجودة مسبقا. فما بعد الاستعمارية تطمح إلى إنتاج أشكال جديدة من السياسة وفقا لأشكال فهم ظرفية وتعاطفية لمسارات المجتمعات الإنسانية. وبهذا المعنى، فإن ما بعد الاستعمارية تنقل رسالة بالإحساس بتوافر الاحتمالات الأخلاقية والسياسية عقب نهاية] الاستعمارية، وهي تحبذ روخا أخلاقية من المساراتية، والعدالة الاجتماعية والتضامن، ولديها إيمان بمنطقيتها وآدابها الأخلاقية الخاصة بها (1). كما أن ما بعد الاستعمارية واثقة بشأن مسؤوليتها وواجبها تجاه الأعضاء الآخرين في المجتمع الدولي، وفي الواقع، فإن ما بعد الاستعمارية تطمح إلى نوع مختلف من الكونية (universalism)، وهو نوع مبني على تحاورات وتخاصمات مختلفة في ما بين الكيانات السياسية المتنوعة، بهدف الوصول إلى اتفاق أدائي فاعل بشأن المسائل التي تحظى باهتمام عالمي. ويختلف هذا النوع من الكونية عن تلك التي تنتج عن الأوامر الزجرية الكونية الصادرة عن التابعين الواثقين من أنفسهم.
في هذا الخصوص، تحافظ ما بعد الاستعمارية على مواقفها المتساوقة تجاه السياسة، وهذه المواقف لا فرق بين المجال المحلي، والقومي، والدولي. ففي المجال الدولي، تدرك ما بعد الاستعمارية فشل القوى الاستعمارية في دمج الدول المتحررة من الاستعمار في عمليات صنع القرار الخاصة بالمنظومة الدولية (international system). إلا أن تأرجح ما بعد الاستعمارية حول هذه المسائل و مسائل أخرى في الأخلاقيات الدولية لا ينبع من رفض قطعي للمنظومات الفكرية، سواء أكانت العقلانية (nationalism)، أم الكونية (universalism)، أم الإنسانية (humanism)، أم الليبرالية (liberalism)، وما شابهها. فكراهية المدرسة بعد الاستعمارية موجهة نحو الرغبة الإمبريالية في الهيمنة، أو نحو تطلعاتها للقيام من جانب واحد بوضع شروط وقواعد للسياسة والثقافة؛ و/ أو للقيام منفردة بالفصل في المخرجات الدولية؛ و/ أو لتوجيه المعرفة وذاكرة العلاقات الدولية. أما في المجال المحلي، فما بعد الاستعمارية تستنكر ايضا، وبالقدر نفسه من القوة، إخفاق النخب بعد الاستعمارية في دمج المواطنين الشركاء (co - citizens) - و/ أو التشكيلات الاجتماعية والثقافية المحلية - في الهياكل الديمقراطية للحوكمة ضمن الدولة. وبناء عليه، فإن ما بعد الاستعمارية هي شرح واسع للنماذج الحالية في السياسة، والاقتصاد، وآداب التعامل.
في كلتا الحالتين، يجب على ما بعد الاستعمارية أن تواجه أنواع القلق المتعلقة بالبقاء والتي تبرز في ما بين التابعين في أي سياق غير ثابت وغير أكيد، وأكرر أنه بدلا من معارضتها لها، فإن ما بعد الاستعمارية تتبنى تلك التدفقات المتقلبة والفرص التي تنتج عنها، بما فيها تهجين الثقافة والهوية (40). ومن أجل أن تفعل ذلك، ينبغي لما بعد الاستعمارية أن تعيد التفكير في الحدود بين الذات والآخرين (2)، وعليها كذلك أن تعترف بالتقريب الثقافي (transculturation) باعتباره عملية تاريخية حتمية (52). وهكذا، تسعى ما بعد الاستعمارية إلى الاتصال بالعناصر التقدمية في موطنها وفي عواصم الدول الاستعمارية السابقة کي تقوم على نحو بناء بإشراك مجالي الثقافة والهوية للقضاء على العنف وا أو الهروب من الإرث الإشكالي للهيمنة الطبقية، والإقصاء الجندري، والتسلط الاستعماري، والاستغلال الرأسمالي (12). وجميع هذه الموضوعات حاضرة في فکر ما بعد الاستعمارية كأركان الإيمان أو إعلان عن الإيمان بها. أما النظام العام (order) بعد الاستعماري الذي تصورته ما بعد الاستعمارية فسيكون أكثر شمولية وتعاطفا، وسيكون هذا العالم المستقبلي مبنيا على التسامح تجاه النقد الذاتي ونقد الذات من الآخرين؛ وعلى تبجيل الظرفية والتدفقات التاريخية؛ وعلى أشكال فهم أكثر حركية للقيم، وآداب التعامل، والمصلحة العامة. إنكم لن تعترضوا على مثل هذا العالم، أليس كذلك؟ إن لم يكن الأمر كذلك، فعليكم دائما أن تفتحوا عقولكم للاحتمالات الجديدة (والعادلة)! |
أسئلة
1. لماذا توجد صعوبة في تعريف ما بعد الاستعمارية بوصفها ظاهرة وفي
تحديدها بدقة بوصفها تقليدا فكريا نظريا منفردا؟ 2. ما هو تعريف المؤلف لما بعد الاستعمارية؟ 3. ما هي بعض أهداف الأجندات بعد الاستعمارية؟ 4. كيف تقارب ما بعد الاستعمارية «الحقيقة والمعرفة؟ د. ناقش النقد بعد الاستعماري لإيمانويل كانط والنظريات اللاحقة المبنية
على أعمال هذا المنظر. .. ما هو الاعتراض بعد الاستعماري على حقوق الإنسان» گ «قيم کونية»؟. كيف يوضح كتاب إدوارد سعيد، وعنوانه الاستشراق، العلاقة بين أوروبا
والشرق، وكيف بشرحها؟ و. صف العلاقة بين الاستشراق والخطابات المتعلقة بالإرهاب بما فيها
الحرب على الإرهاب». 9. كيف يقوم رد ما بعد الاستعمارية على معاهدة حظر الانتشار بتوضيح راي
ما بعد الاستعمارية في الأفكار الغربية عن الأخلاقيات الدولية والقانون
الدولي؟ 10. ما أهمية ندويل قناة السويس بالنسبة إلى ما بعد الاستعمارية؟ 11. ما هي المقاربة بعد الاستعمارية للمستقبل؟ 12، فارن المقاربات التالية: النزعة الدولية الليبرالية (liberal internationalism)،
والبنائية، وما بعد الاستعمارية؟
مزيد من القراءات (باللغة الإنكليزية]
Political Position : Race as a ک ه "
Biswas , Shampa
, " Nuclear Apartheid
Postcolonial Resource?.» Alrematives: Global., Local, Political: vol. 26, no. 4, 2001.p, 485 (38).
شامبا بيسواس (2001)، «التفرقة النووية، كموقف سياسي: العرق بوصفه مصدرا ما بعد استعماري؟»، (مجلة البدائل: عولمية، محلية، سياسية
تكمل هذه المقالة المناقشة التي تدور حول إرث الاستعمارية المتمثل بمعاهدة حظر الانتشار.
Chowdry, Geeta and Sheila Nair (eds.). Power, Postcolonialism and International Relations: Reading Race, Gender and Class. London and New York: Routledge, 2002 (Advances in International Relations and Global Politics),
غينا تشاودري، وشيلا ناير (2002)، القوة، وما بعد الاستعمارية، والعلاقات الدولية: قراءة في العرق، والجندر، والطبقة الاجتماعية.
تغطي مجموعة المقالات المنتقاة هذه طائفة واسعة من الموضوعات المعاصرة في تخصص العلاقات الدولية، ابتداء من الأسئلة المتعلقة بالعلمانية، إلى الحوارات الأخيرة حول مستقبل حقوق الإنسان. |
Darby, Philipp. At the Edge of International Relations: Pastcolonialism, : Gender and Dependency. Cambridge, MA: Continuum International Publishing Group, 2000,
بايز داربي (2000)، على حافة العلاقات الدولة: ما بعد الاستعمارية، والجندر، والاعتمادية.
يهتم هذا الكتاب بالكيفية التي يساهم من خلالها المنظور بعد الاستعماري في الأعراف التقليدية لنظرية العلاقات الدولية، ويتحداها.
Doty, Roxanne L, Imperial Encounters: The Politics of Representation in North-South Relations, Minneapolis, MN: University of Minnesota Press, 1996.
روکسان إن دوتي (1996)، مواجهات إمبريالية: سياسات التمثيل في العلاقات الشمالية - الجنوبية.
يلفت هذا الكتاب الانتباه إلى الطريقة التي تتأثر بها صناعة السياسات بالتمثيلات الثقافية والعرقية، وكيف أن هذه التمثيلات تسبق صنع السياسات. وتاخذ دوتي موققا يقول إن السياسة في جوهرها تأويلية.
Grovogui, Siba N'Zatioula. Beyond Eurocentrism and Anarchy: Memories of International Order and Institutions, New York: Palgrave Macmillan, 2006,
سيبا غروفوغوي (2006)، ما بعد التمركز الأوروبي والفوضى: مذكرات في النظام الدولي والمؤسسات الدولية.
يعيد هذا الكتاب النظر في المواجهة، في حقبة ما بعد الحرب، بين مجموعة من المفكرين الأفارقة الفرنسيين والنخبة الغربية، بوصفها دليلا على أهمية المنظور العولمي والمبهم في تخصص العلاقات الدولية
Krishna, Sankaran. Postcolonial Insectrities: India, Sri Lanka, and the
Borderlines) 1999 , ما Question of Nationhood
, Minneapolis : University of Minneso
Series).
سانکاران کريشنا (1999)، انعدام الأمن بعد الاستعماري: الهند، وسريلانكا، ومسألة القومية.
يخاطب هذا الكتاب مسألة الأمة وتشكيل الدولة بوصفها مشروعا سياسيا وأخلاقبا.
Soguk, Nevzat. States and Strangers: Refugees and Displacements of Sratecraft. Minneapolis, MN: University of Minnesota Press, 1999.
سوغوك نيفزات (1999)، الدول والغرباء: اللاجئون وتحويل إدارة شؤون الدولة.
هذا الكتاب هو عمل مهم في الطرائق التي يقوم من خلالها مفهوم اللاجئين وقوانين اللاجئين بتحدي المفاهيم التقليدية في تخصص العلاقات الدولية مثل الدولة والمواطنين
Spivak, Gayatri Chakravorty. A Critique of Postcolonial Reason: Toward -
1999 ,History of the Vanishing Present
Cambridge : Harvard University Press و
غاياتري سبيفاك (1999)، نقد للمنطق العقلاني ما بعد الاستعماري: نحو تاريخ عن الحاضر المتلاشي
يزودنا هذا العمل المقسم بين الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والثقافة، برؤية شاملة في مفارقتي الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في النظام الفكري الغربي، وفي جدواه بالنسبة إلى السياسة المعاصرة وآداب التعامل
مواقع إلكترونية مهمة باللغة الإنكليزية)
• دراسات بعد استعمارية على موقع جامعة إيموري (Emory University)،
http://www.english.emory.edu/bahri/contents.html>
• إدوارد سعيد،.
http : / / www . sun 3 . lib . uci . edu / - scctr / wellbeck / sid / index
>
html>
قم بزيارة مركز المصادر الإلكتروني المرافق لهذا الكتاب للمزيد من المواد الإضافية الشائقة، </
http : / / www . oxfordtextbooks . co . uk / orc / dunne 2 e
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)