المنشورات

بروز النظرية الخضراء

إن التراجع البيئي الذي تسبب به النشاط البشري له تاريخ طويل ومعقد. وعلى الرغم من ذلك، ولغاية حقبة التوسع العولمي الأوروبي والثورة الصناعية، بقي التراجع البيئي عموما غير متساو ومحصورا نسبيا. أما الأزمة البيئية الحديثة - التي تميزت بزيادة هائلة في نطاق المشكلات البيئية حول العالم، وفي مستواها وخطورتها - فهي غالبا ما فهم بأنها انبثقت في النصف الأخير من القرن العشرين فحسب. كذلك فإن حقبة الستينيات تعد عادة مؤشرا لميلاد حركة البيئة والحديثة، كحركة اجتماعية واسعة الانتشار ومثابرة عرفت با «الآثار الجانبية البيئية الناجمة عن الطفرة الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الثانية وانتقدتها. فقد أتى النمو الاقتصادي السريع، وتكاثر التكنولوجيات الجديدة، والازدياد في أعداد السكان في تلك الحقبة، إلى توليد استهلاك متزايد للطاقة والموارد الطبيعية، وإلى ظهور مصادر جديدة ومستويات متزايدة من التلوث، وإلى التأكل السريع للتنوع الحيوي على كوكب الأرض. وفيما تحسن بعض المؤشرات في بعض البلدان بحلول العقود الأخيرة من القرن العشرين، فإن التقويم البيئي العالمي بالإجمال للقرن الحادي والعشرين يبقى قاتما. وقد وجد تقويم النظام البيئي للألفية ((Millennium Ecosystem Assessment
(MEA
) التابع للبرنامج البيئي للأمم المتحدة (United Nations Environment Program
(UNEP
) الذي أنجز في آذار / مارس 2005، أن ستين في المئة تقريبا من خدمات النظام البيئي (ecosystem services) التي تم فحصها والتي تدعم الحياة على الأرض قد تراجعت أو أنها قد استخدمت بطريقة غير مستدامة).
ومن الواضح أن مصطلح «الأزمة البيئية، (ecological crisis) هو وصف ملائم لهذه التطورات، مع أن تعبير االمازق البيئي، (ecological predicarment) قد يكون الأفضل في توصيف المعضلة الغريبة التي تواجه صناع السياسات على جميع مستويات الحكم، أي إن المشكلات البيئية مستمرة وموجودة في كل مكان على الرغم من أن أحدا لم يتعمد تمنعها. وعلى النقيض من التهديدات العسكرية، التي هي متعمدة، ومتميزة، ومحددة، وتتطلب ردا فوريا، فإن المشكلات البيئية في الغالب غير مقصودة، ومنتشرة، وعابرة للحدود، وتجري على جدول زمني طويل، وتقيم طائفة متنوعة من الجهات الفاعلة، وتطلب مفاوضات شاقة وتعاونا جاهدا في ما بين طائفة متنوعة من الجهات المعنية. ولا شك في أن المشكلات البيئية وصف احيانا من محللي السياسات بأنها مشکلات خبيثة، وذلك بسبب تعقيدها، وتنوعها، وعدم قابليتها للانحسار، واستعصاء حلولها، وخاصيتها العرضية. وقد زحف معظم المخاطر البيئية، إذا جاز التعبير، على عالم يزداد حداثة بشكل سريع، بوصفه آثارا جانية غير متوقعة للممارسات التي كانت ستكون مقبولة لولا تلك الآثار الجانبية، وكما عبر عنها أولرخ بك (Ulrich Bek) بقوله إنها "منتجات محمولة على ظهر المنتجات الأخرى" (piggy
- back products)، أي يتم استنشاقها أو ابتلاعها مع أشياء أخرى. وهي كالتل على ظهر سفينة الاستهلاك العادي). | 

إلا أن الأصوات الراديكالية ضمن الحركة البيئية، والأصوات النقدية في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، لم تستغرق وقتا طويلا للتشكيك، ليس في الآثار الجانبية للنمو الاقتصادي وحسب، بل أيضا في ظاهرة النمو الاقتصادي ذاتها وفي العمليات الأوسع للحداثة. وقد أصبح هذا الحوار مينا إلى حد كبير مع ظهور حوار الحدود النموا (limits
- to - growth debate) في أوائل السبعينيات. وقد زودتنا الإصدارات النافذة بتنبؤات وخيمة عن كارثة بيئية وشيكة إلا إذا تم استبدال النمو الاقتصادي الهائل بتنمية اقتصادية ذات حالة ثابتة، ومن هذه الإصدارات تقرير حدود النمو) (The Limits to Growth report) الصادر عن منتدى روما (The Club of Rome) والبحث المعنون «مسؤدة للبقاء» (5) (Blueprint for Survival) المنشورة في مجلة البيئي (The Ecologist). وتتصادف هذه الحوارات مع مؤتمر الأمم المتحدة الأول حول البيئة البشرية في ستوكهولم (United Nations Stockholm Conference on the Human Environment) عام 1972، الذي أعطى الصفة الرسمية لبروز البيئة بوصفها قضية عالمية (4).
من القضايا البيئية إلى النظريات الخضراء
لقد تركت المسائل البيئية بصمتها على معظم فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات، شأنها في ذلك شأن المسائل النسوية، إلا أن النظرية الاجتماعية والسياسية الخضراء» لم تظهر بشكل متميز إلا مع أواخر الثمانينيات، إثعبر عن الاهتمامات المتداخلة للحركات الاجتماعية الجديدة (كالبيئة، والسلام، ومناهضة الطاقة النووية، والشؤون النسوية) التي شغلت السياسة الخضراء (green politics). وقد كانت هذه الحركات أيضا في مقدمة تشكيل موجة من الأحزاب الخضراء الجديدة في الثمانينيات، على المستويات المحلي، والوطني، والإقليمي (أبرزها في أوروبا)، بناء على «الأركان الأربعة، للسياسة الخضراء، وهي: المسؤولية البيئية، والعدالة الاجتماعية، ونبذ العنف، وديمقراطية القواعد الشعبية. وقد أعطت هذه الأركان منبرا مشتركا لتشكيل الأحزاب الخضراء الجديدة حول العالم، بما في ذلك أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وآسيا. وفي الواقع، فإن السياسة الخضراء هي الخطاب والممارسة السياسيان العالميان الوحيدان اللذان انبثقا في معارضة العولمة الليبرالية الجديدة.
وفي حين يستخدم اصطلاح «الخضراء للإشارة ببساطة إلى الاهتمامات البيئية، حازت في أوائل التسعينيات النظرية الخضراء على اعتراف بها كنظام فکري جديد في البحث انبثق کمتحد طموح للنظامين الفكرين السياسيين اللذين كان لهما أكثر التأثيرات حسما على السياسة في القرن العشرين، وهما الليبرالية والاشتراكية). ومثلها كالليبرالية والاشتراكية، فإن لدى النظرية السياسية الخضراء فرعا معياريا (يعني بمسائل العدالة، والحقوق، والديمقراطية، والمواطنة، والدولة، والبيئة)، وفرعا في الاقتصاد السياسي (يعني بفهم العلاقة بين الدولة، والاقتصاد، والبيئة). وكما سنرى لاحقا، فقد أصبحت أبعاد الاقتصاد المعياري والدولي لهذا الفكر الجديد الآن ملموسة لكنها محفورة بحدة أقل من نظيرها المحلي، وذلك إلى حد كبير لأنها لا تزال في الطور التكويني من مراحل تطورها و يمكن القول بوضوح أكبر إن أول موجة من النظريات السياسية الخضراء قدمت نقدا للرأسمالية الغربية وللشيوعية ذات الطراز السوفياتي اللتين اعتبرت كلتاهما شكلين مختلفين جوهريا من أشكال الأيديولوجية الصناعية الشاملة نفسها، على الرغم من الاختلافات بينهما المتعلقة بدور السوق والدولة لدى كل منهما، وقد شكل نقد النظرية الخضراء للأيديولوجية الصناعية جزءا من إعادة فحص أوسع لأفكار تؤخذ كمسلمات حول فكرة التقدم ومناقب الحداثة الموروثة عن التنويرية، وقد تم إظهار كل من الليبرالية والماركسية على أنهما تطورتا على أساس مسلمات قرن الوفرة ذاتها (commucopian premises) القرن الخضب أو الوفرة (cornucopia) هو وعاء كبير على شكل قرن يفيض بالخيرات وأشكال الطعام، وهو رمز للوفرة، تلك المسلمات التي افترضت أن قاعدة الموارد الطبيعية في الكرة الأرضية تستطيع أن تدعم النمو الاقتصادي الجامح، وبان النمو المتزايد والتقدم التكنولوجي مرغوب فيهما بشكل كبير، ولا مفر منهما على الإطلاق. وقد تم إظهار كلا الفكرين السياسيين لكونهما يشتركان في التفاؤل ذاته بشأن فوائد العلوم والتكنولوجيا، ولأنهما قد قبلا إما صراحة وإما ضمنا، فكرة أن الاستغلال البشري للطبيعة والسيطرة البشرية عليها من خلال مزيد من التحسين على العمل الأداتي) (instrumental reason) كانا ضروريين للتقدم البشري. وقد عارض المنظرون السياسيون الخضر هذه الموروثات التنويرية، وسلطوا الضوء على التكاليف البيئية، والاجتماعية، والنفسية لعملية الحداثة. وقد انتقدوا العلاقة الأداتية (instrumental relationship) للبشرية بالطبيعة غير البشرية، كما انتقدوا تبعية الشعوب الأصلية، وانتقدوا عددا من أشكال الزراعة التقليدية. وبالاعتماد على تخصصي الأخلاقيات البيئية والفلسفة البيئية المتقاربين اللذين برزا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، دعا المنظرون السياسيون الخضر إلى التشكيك في فكرة التمحور حول الإنسان (anthropocentrism) أو التعصب للبشر [الشوفينية البشرية] human) (chauvinism؛ وهي فكرة تقول بأن البشر هم قمة سلسلة التطور، وأنهم مرکز القيمة والمعنى في العالم، وأنهم الكائنات الوحيدة التي تمتلك قيمة معنوية (monal worth)، ومن خلال رفضهم لمثل هذه المواقف لكونها متعجرفة، وتخدم المصلحة الذاتية، ورعناء، فقد تبنى عديد من المنظرين الخضر فلسفة تتمركز حول البيئة، أو المتمحورة حول البيئة، (ecocentric) تسعى إلى احترام جميع أشكال الحياة من حيث أنماط وجودها المميزة الخاصة بها، وذلك من أجلها هي، وليس من أجل قيمتها كأداة للإنسان وحسب. ومن منظور متمرکز حول البيئة، ينبغي للحوكمة البيئية أن تتمحور ليس حول صحة وصلاح المجتمعات البشرية القائمة والأجيال المقبلة وحسب، بل أيضا حول شبكة الحياة الأوسع المنسوجة من مجتمعات بيئية متداخلة على مستويات متعددة من التجميعات (کالتجميعات الجينية (gene pools)، والجماعات السكانية (populations)، والأنواع (species)، والأنظمة البيئية (ecosystems)). ويلفت هذا المنظور الانتباه أيضا إلى حدود المعرفة البشرية عن العالم الطبيعي، من خلال مجادلته بأن الطبيعة ليست أكثر تعقيدا مما نعرف وحسب، إنما يحتمل أنها أكثر تعقيدا مما سنعرفه في أي وقت على الإطلاق. وترى التدخلات التكنولوجية الكبرى في الطبيعة أنها تج دائما تکاليف اجتماعية وبيئية عظمى، لذا فإن المنظرين الخضر يقدمون عادة توصياتهم التي تؤيد نهجا أكثر وعيا ونقدية في تقويم المقترحات الجديدة في التنمية، والوسائل التكنولوجية الجديدة، والممارسات المتعلقة بتقويم المخاطر بشكل عام.
وقد كان بعض هذه الموضوعات الخضراء - ولا سيما نقد سطوة العقل الأداتي - اساسيا للجيل الأول من المنظرين النقديين في مدرسة فرانكفورت
تمت مناقشته في الفصل الثامن)، والذين كانوا أول الماركسيين الغربيين الذين نظروا إلى السيطرة على الطبيعة باعتبارها مشكلة، واستكشفوا علاقتها بالسيطرة على البشر، بينما تبنى مارکس الناضج فكريا، موقفا بروميثيوسيا (Promethean) تجاه الطبيعة ورحب بالتطور العلمي والتكنولوجي، وبالاستكشاف الذي قام به ثيودور أدورنو Theodor Adorno وماکس هورکهايمر (Max Horkheimer) مولفا بذلك وجدلية التنويرية، (dialectic of Enlightenment) الموجهة نحو التكاليف المتعددة المفروضة على الطبيعة البشرية وغير البشرية التي صاحبت التغلغل المتزايد للعقل الأداتي في المجتمع البشري وفي الطبيعة البشرية. وقد تم إجراء المزيد من التطوير على هذا الموضوع العام (ولو أن ذلك كان من ناحية أقل تفاؤلية) من الجيل الثاني من المنظرين النقديين للمدرسة الفرانکفورتية، بقيادة يورغن هابرماس. وقد كانت واحدة من الاهتمامات الثابتة عند هابرماس هي حماية عالم الحياة (lifeworld) من زحف العقلانية الأداتية من خلال حرصه على أن تبقى مثل هذه العقلانية خاضعة لممارسة المشاورات النقدية critical) (deliberation. وقد كانت مثالية هابرماس في العقلانية التواصلية communicative) (nationality بمنزلة مصدر رئيس للإلهام في تطوير النظرية الديمقراطية الخضراء والأبحاث النقدية الخضراء عن العلاقة بين المجازفة، والعلوم والتكنولوجيا، والمجتمع. وبينما حصرت النظرية الماركسية الأرثوذكسية اهتمامها النقدي في علاقات الإنتاج، فقد وضعت النظرية الخضراء هذا النقد ليشمل اقوى الإنتاج،
أنظمة الإدارة والتكنولوجيا) وما أطلق عليه أولرخ بك اصطلاح «علاقات التعريف» (the relations of definition) التي تعرف مخاطر الحداثة، وقومها، وتوزعها، وتديرها.
يبقى هنالك خلاف بين النظرين السياسيين الخضر حول ما إذا كان يجب فهم السياسة الخضراء بكونها مناهضة للحداثة، أو بكونها ما بعد حداثية، أو أنها تسعى إلى الحداثة أكثر انعکاسية، فحسب، على الرغم من أن هذه المقاربة الأخيرة تبدو وكأنها برزت كأكثر المقاربات تفضيلا. ولا شك في أن الموجة الثانية للنظرية السياسية الخضراء في أواسط التسعينيات وما بعدها كانت أقل انشغالا بالانعكاس الفلسفي النقدي على موقف البشرية تجاه العالم غير البشري ومهتمة أكثر باستكشاف الظروف التي قد تحسن القدرة على التعلم الانعكاسي
المتفاعل مع البيئة تبادليا]، (reflexive learning apacity) لدى المواطنين، والمجتمعات، والدول، في عالم من المخاطر البيئية المتصاعدة والمنتشرة بغير تساو. ولم يقم النقد الأخضر للثورة الصناعية والحداثية بحجب سياسة االيمين مقابل اليساره، لكنه قطعا وضع الصراعات التوزيعية التقليدية بين العمالة وراس المال، وبين العالم الثري والعالم الفقير، في سياق أوسع وأكثر تحديا. وبالطبع، فإن تحسين العدالة التوزيعية الذي يتزامن مع كبح النمو الاقتصادي المدمر بيبا، قد برز بوصفه التحدي السياسي الرئيس للنظرية الخضراء وتطبيقها، محليا ودوليا على حد سواء. 
















مصادر و المراجع :

١- نظرية العلاقات الدولية

المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث

المترجم: ديما الخضرا

الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت

الطبعة: الأولى

تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید