في دراستها للعلاقة بين العدالة البيئية والديمقراطية البيئية، أصبحت الموجة الثانية من النظرية السياسية الخضراء ذات توجه عبر قومي وكوزموبوليتاني اكبر. فقد سعت الموجة الأولى من النظرية السياسية الخضراء إلى تسليط الضوء على اللاعقلانية البيئية للمؤسسات الاجتماعية الرئيسية كالسوق والدولة، وأشاد كثير من منظري السياسة الخضراء بفضائل ديمقراطية القواعد الشعبية والمجتمعات ذات البيئة المستدامة كأبدال. أما الموجة الثانية من النظرية السياسية الخضراء فقد كانت أكثر انشغالا بإعادة التفكير نقديا في كثير من المفاهيم السياسية الجوهرية والمؤسسات السياسية الرئيسية، وكانت في بعض الأحيان منشغلة بجعل نطاق هذه المفاهيم والمؤسسات نطاقا عبر وطني، مع وضع المشکلات البيئية في الحسبان. وقد أنتجت هذه البحوث الفكرية تصورات مفاهيمية عبر قومية، أو منزوعة الموضعة الجغرافية (deterritorialized) (غير مرتبطة بمنطقة جغرافية معينة، أو عولمية جديدة للعدالة البيئية، كما أنتجت الحقوق البيئية (10)، والديمقراطية البيئية'')، والنشاط البيئي (12)، والمواطنة البيئية (19) والدول الخضراء (19). وقد كانت هناك مشاركة متزايدة من جانب منظري السياسة الخضراء في بعض الحوارات الجوهرية ضمن نظرية العلاقات الدولية المعيارية، وخصوصا أولئك المعنيين بحقوق الإنسان والديمقراطية الكوزموبوليتانية والمجتمع المدني عبر القومي والمجالات العامة عبر القومية. وقد غذى هذا البحث الأكاديمي أيضا فرعا بيئيا متميزا من فروع نظرية العلاقات الدولية المعيارية، وخصوصا في تحديد شكل هذا الفرع الذي يعني بالعدالة البيئية العالمية
ترى النظرية الخضراء أن أشكال الظلم البيئي تظهر عندما يقوم الوكلاء الاجتماعيون غير المساءلين بتحويل التكاليف البيئية لقراراتهم وممارساتهم
إلى الخارج على أطراف ثالثة بريئة في ظروف لا يكون فيها لدى الأطراف المتأثرة (أو ممثليها) أي علم بالقرارات والممارسات التي ولد مخاطر بيئية، ولا أي دور يساهم في تلك القرارات والممارسات. وتظهر أوجه الظلم البيئي أيضا عندما تستولي الطبقات الاجتماعية الأكثر حظا والأمم الأكثر تميزا على أكثر من احضتها العادلة» من البيئة، وتترك خلفها «بصمتها البيئية الضخمة). لذا فإن المسعى الأساس للنظرية الخضراء هو مسعي مزدوج يتمثل في تخفيض المخاطر البيئية في جميع المجالات، وفي الحيلولة دون تحويلها إلى أطراف ثالثة بريئة وإلقائها عليهم على نحو غير منصف عبر المكان والزمان
في نهاية المطاف، تطالب العدالة البيئية بما يلي: (1) الاعتراف بالمجتمع الأخلاقي الممتد والمتائر بالمخاطر البيئية (أي ليس جميع المواطنين فحسب، وإنما الشعوب كلها، والأجيال المقبلة، والمخلوقات من غير البشر) (2) المشاركة والمداولة النقدية للمواطنين وممثلي المجتمع الأكبر المعرض للخطر في كامل عملية صنع القرارات البيئية (بما في ذلك وضع السياسات، والتشريع وصوغ المعاهدات، والإدارة، والرقابة، والتطبيق، والتحكيم)؛ (3) اتخاذ نهج احترازي يضمن تقليل المخاطر نسبة للمجتمع الأكبر؛
(4) التوزيع العادل لتلك المخاطر المقبولة بعد التفكير التأملي بها من خلال العمليات الديمقراطية، بحيث يشمل هذا التوزيع العادل وجهة نظر جميع الأطراف المتاثرة والجماعات المنادية بالمصلحة العامة؛ (5) إنصاف تلك الأطراف التي تعاني من آثار المشكلات البيئية وتعويضها.
كذلك فإن تركيز الأبحاث الأكاديمية الخضراء المتعلقة بمسائل الاقتصاد السياسي أصبح أكثر عولمية، على الرغم من أن خطابات التكامل الاقتصادي البيئي كان لها دائما بعد عولمي، حتى قبل بروز نظرية خضراء واضحة ومتميزة تعاطفت مع اهتمامات الحركة الاجتماعية الجديدة والأحزاب الخضراء الجديدة. وقد أتى حوار حدود النموه (limits
- to - growth debate) الذي ظهر في حقبة مبكرة، إلى توليد مطالبات بتغيرات جذرية في السياسات لإحداث كبح للنمو الاقتصادي (والنمو السكاني في بعض الحالات) أو حتى وقف تام له، من أجل كبح التراجع البيئي العالمي المتزايد. إلا أن هذه المطالبات أثبتت أنها مثيرة للجدل وغير مستساغة سياسيا. وبحلول الثمانينيات محجب حوار حدود النمو من خطاب التنمية المستدامة (sustainable development) الذي لاقى قبولا أكبر وتم تبنيه على نطاق واسع بعدما تم نشر تقرير مستقبلنا المشترك» (Our Common Future) الذي يطلق عليه أيضا اسم تقرير برونتلاند (the Brundtand Repon) من جانب اللجنة العالمية المعنية بالبيئة والتنمية World Commission on Environment and) (Development في عام 1987. وقد تحذي تقرير برونتلاند فكرة أن الحماية البيئية والتنمية الاقتصادية تقفان في علاقة غالب و مغلوب، وأشار إلى توافر فرص «فك ارتباط، النمو الاقتصادي بالتدهور البيئي من خلال اتباع سبيل تنموي صديق للبيئة أو مستدام. ووفقا لصيغة تقرير لجنة برونتلاند المصقول ببلاغة والذي كثيرا ما يستشهد به، فإن التنمية المستدامة فهم باعتبارها تنمية تلبي احتياجات الجيل الحالي من دون التضحية بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية الاحتياجات الخاصة بها. وقد تم رسميا تأييد استراتيجية واسعة في التنمية المستدامة في مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية United Nations Conference on Environment and) (Development الذي يطلق عليه أيضا اسم قمة الأرض (Earh Summit) والذي عقد في ريو دي جانيرو في عام 1992، وما زال يعد بمنزلة الخطاب الأساس (meta discourse) المسيطر والمتعلق بالقانون البيئي والسياسة البيئية الوطنيين والدوليين، على الرغم من حقيقة أنه پفي موضع خلاف کبير.
غير أن منظور النظرية الخضراء بري أن نهج برونتلاند، مع أنه يمثل تسوية سياسية تتسم بالدماء، إلا أنه يستند إلى توجه أداتي تجاه العالم غير البشري وأهمل مسألة حماية التنوع الحيوي من خلال تركيزه على العدالة بين أبناء الجيل الواحد فحسب، والعدالة في ما بين الأجيال. وفي أمر ذي إشكالية أكبر، فقد كان التقرير متفائلا في افتراضه أن من الممكن تحقيق التنمية المستدامة من خلال زيادة معدلات النمو الاقتصادي. وفي دفاعهم عن مفهوم بديل في التنمية المستدامة بيئيا، رفض الاقتصاديون السياسيون الخضر الإطار السائد للاقتصاد الكلاسيكي الجديد (neoclassical economics) لمصلحة الإطار النظري الجديد في الاقتصاد البيئي (ecological economics). ويرى الاقتصاديون البيئيون أن آليات السوق قد تزودنا بتخصيص فتال للموارد، لكنها لا يمكنها أن تضمن توزيعا عادلا للثروة والدخل بالتناسب مع الحاجة البشرية الحالية والمستقبلية، ولا أن تضمن أن يعمل حجم الاقتصاد ضمن القدرة الاستيعابية البيئية للأنظمة البيئية (ecosystems). وهذه القضايا تتجاوز قدرة الأسواق ويجب مخاطبتها سياسيا، من خلال التعليم البيئي، والتعاون المجتمعي، والنزاعات القضائية المجتمعية والمفاوضات المجتمعية، وتشريعات الدولة، والتعاون الدولي
على الرغم من ذلك، فقد تم تعزيز المناقشة العامة في أن هناك أوجه تآزر بين التنمية الرأسمالية الأكثر فعالية وبين الحماية البيئية من خلال خطاب اکثر
حداثة تقوده في الغالب أوروبا، وهو خطاب التحديث البيئي (1) ecological) (modernization، ويجادل مؤيدو التحديث البيئي بأن المنافسة الاقتصادية والابتكارات التكنولوجية المستمرة تج نموا اقتصاديا يستخدم طاقة وموارد أقل، وينتج كمية أقل من النفايات لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي (GDP). ومع الأخذ في الحسبان أنهم أبعد ما يكونون عن أدائهم دور الكابح للنمو، فإن مؤيدي التحديث البيشي بؤكدون أن التشريعات البيئية الداخلية يمكنها أن تكون بمنزلة محفز لمزيد من الابتكارات البيئية التقنية التي تعزز التنافسية الاقتصادية الوطنية وتجبر على الزيادة التدريجية التصاعدية للمعايير البيئية. وقد تم تبني نهج الربح للجانبين (win
- win approach) بترحيب حاز، لا بل إنه قد تم تطبيقه بأسلوب منهجي من كثير من الحكومات في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية Organization for Economic Cooperation and Development) (OECD)، وتحديدا في أوروبا الغربية، ويتزامن ذلك مع تحول نحو الاستخدام المتزايد للأدوات المعتمدة على السوق في السياسات البيئية
وفي حين أن مؤيدي تحديد حدود النمو يقللون بشكل واضح من شأن أوجه التآزر بين التنمية الرأسمالية وبين الحماية البيئية، يؤكد النقاد الخضر أن خطاب التنمية المستدامة، وخصوصا خطاب التحديث البيشي ذا التوجه الأكثر تكنولوجية، قد بالغ في تعظيم شان أوجه التآزر هذه. فتحسين الكفاءة البيئية للإنتاج من خلال الابتكارات التكنولوجية أمر مرحب به، لكنه لا يقلل من المستويات الكلية لاستهلاك الموارد وإنتاج النفايات. وبالطبع، فإن المكاسب التي تجني من الكفاءة البيئية تؤدي عادة إلى مزيد من الاستهلاك والإنتاج. علاوة على ذلك، فإن معايير الحماية البيئية - كحماية التنوع الحيوي مثلا - ليست جميعها بالضرورة مواتية للنمو الاقتصادي. ففي بعض الحالات، تكون المقايضات السياسية الصعبة ضرورية. أخيرا، يجادل النقاد الخضر بان أي استراتيجية في التحديث البيئي المدفوع تكنولوجيا لا تعطي أي وسيلة في معالجة التوزيع غير المتساوي للمخاطر البيئية بين الطبقات الاجتماعية والأمم المختلفة، في المقابل، أهتم تقرير برونتلاند بتعزيز العدالة بين أبناء الجيل الواحد والعدالة في ما بين الأجيال، لكنه اعتمد على أثر الرشوح إلى الأسفل) (trickle
- down ' effect) الناجم عن النمو المتزايد (مع التوصية بنمو اسرع في الجنوب ليتيح له المجال اللحاق بالشمال). ومن منظور النظرية
(0) شير مصطلح أثر الرشوح إلى الأسفل، (Trickle don
' effect) إلى رشوح الأثر الاقتصادي إلى الأسفل بطريقة غير مباشرة، أي إن المزايا المالية التي تمنحها الحكومة للأعمال التجارية الكبيرة ترشح في المقابل إلى الأسفل فقيد الأعمال الصغيرة المترجمة الخضراء، فإن هذه التوصيات تجد المفارقة المتناقضة للتنمية المستدامة، وهي أن أفضل طريقة لتحقيق الحماية البيئية هي من خلال السعي نحو مزيد من النمو (لكنه ذو كفاءة بيئية)، ما يولد مزيدا من المشكلات البيئية الإجمالية (ولو كان ذلك بتسارع أبطأ).
وفي التعامل مع هذه المفارقة التي تسلط الضوء أيضا على الأسباب التي تجعل المشكلات البيئية مشكلات الخبيثة، بهذا الشكل)، عمد المنظرون السياسيون الخضر والاقتصاديون السياسيون الخضر إلى الاستناد إلى الحقل المعرفي الجديد، علم الاجتماع البيئي (environmental sociology)، وبالتحديد التخصص الفرعي الذي يتعامل مع الحداثة ومجتمع المخاطر (risk society) الذي يعطي تحديا مباشرا للاقتصاد الكلاسيكي الجديد والأيديولوجيا السياسية الليبرالية الجديدة. وبالنسبة إلى علماء اجتماع مجتمع المخاطر، أمثال اولرخ بك 1)، فإن المشكلات البيئية تستمر لأنها تتولد من المؤسسات الاقتصادية، والعلمية، والسياسية ذاتها التي يتم استدعاؤها لحل هذه المشكلات. لذلك فمن غير الممكن إيجاد حل لمفارقة التنمية المستدامة فحسب من خلال السعي لاساليب أكثر كفاءة من الناحية البيئية لتحقيق الغابات المرادة. وبدلا من ذلك، من الضروري السعي نحو التحديث الانعكاسي التبادلي reflexive) (modemization الذي يتطلب تفكيرا تأمليا نقديا ومستمرا في وسائل الحداثة وكذلك في غاباتها. وباتباع تفكير کريستوف)، أصبح عديد من المنظرين الخضر يميزون بين الأشكال الضعيفة، والأشكال القوية من التحديث البيئي، يمثل الأول تأويل الحل التقنيه (technical fin) الذي بحبذه عديد من حكومات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، أما الثاني فيمثل المقاربة الخضراء الأكثر نقدية للتحديث الانعكاسي التبادلي. وهذا هو المكان الذي يجتمع فيه جهد الاقتصاد السياسي الدولي الأخضر والنظرية المعيارية الخضراء في الدعوة إلى ديمقراطية «ذات وعي بيئية أكبر، قدم فرضا موشعة للمواطنين التمثيل مصالح بعيدة المدى وقابلة للتعميم، ولتحدي الممارسات الراسخة المتعلقة بتعريف المخاطرة، وتوليدها، وتوزيعها، وإدارتها.
وعلى الرغم من ذلك، تبقى هناك انقسامات داخلية ضمن الأوساط الخضراء حول ما إذا كان أي من الاقتصادات الرأسمالية، أو الدول، او نظام الدول (states system)، قادرا حقا على أن يكون منعکا تبادليا (تفاعلا يؤثر ويتأثرا من الناحية البيئية بالدرجة المطلوبة لتلافي التراجع البيئي الكبير والمستمر. إلا أن الجميع يتفقون على أن تكثيف العولمة الاقتصادية وسيطرة الخطابات الليبرالية الجديدة على المستويين القومي والدولي قد جعل متابعة القضية الخضراء عموما أكثر صعوبة. كما أن الهيكل الفوضوي لنظام الدول ليس ملائما لحل المشكلات البيئية عبر القومية والعولمية، خصوصا مشكلة الاحتباس الحراري العالمي التي هي واحدة من أعقد المشكلات التي تواجه المجتمع الدولي وأكثرها تحديا، والتي تتطلب إجراء جماعيا، وبالطبع، فإن مفکري تخصص العلاقات الدولية الذين يعملون في الأنظمة الفكرية الواسعة اللواقعية، والليبرالية، والماركسية، لديهم وجهات نظر متطورة ومتباعدة) حول احتمالات التعاون البيئي الدولي. وكما سنرى، فقد عرفت نظرية العلاقات الدولية الخضراء نفسها على نطاق واسع كمعارضة للمقاربات العقلانية السائدة في تخصص العلاقات الدولية (خصوصا الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة)، محملة في الوقت نفسه نقد النظرية الخضراء عددا من عناصر الفكر
الماركسي
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)