لقد افترضنا إلى الآن أن جميع الرواد في الحوار العولمي بعرفون تماما عما يتحدثون عندما يشيرون إلى مصطلح «العولمة». علاوة على ذلك، فقد افترضنا أساشا أنهم جميعا يتحدثون عن الشيء نفسه. وكما سيتضح بعد قليل، فإن في الافتراضين شيء من التعالي الخطر. ومن أجل أن نكون منصفين حيالهم، فقد يكونون على معرفة تامة بما يتحدثون عنه عندما يشيرون إلى مصطلح العولمة»، لكن إذا كان الأمر كذلك فعلى ما يبدو أنهم مترددون للغاية في مشاركة ذلك مع القارئ. ونتيجة لذلك، فإن الرواد في الحوار العولمي نفسه يتجادلون في ما بينهم لأنهم ببساطة يتحدثون عن أشياء مختلفة. وإن ما لا يساعد في جلاء هذا الأمر تلك الأشياء الكثيرة جدا التي تمت الإشارة إليها في ما يتعلق بالعولمة. فكما اقترح دايفد هلد والمؤلفان اللذان شاركاه في تأليف الكتاب، فإن العولمة هي العنوان المبتذل [الكليشيه لعصرنا: أي إنها الفكرة الكبيرة التي تتضمن كل شيء، من الأسواق المالية العلمية إلى شبكة الإنترنت، لكنها لا تعطى استبصارا ذا محتوي جوهري بذكر في الحالة البشرية المعاصرة (10). وتذكر أيها القارئ أن هلد عولمي غير اعتذاري، ومتمرس بصير، يواصل في الواقع تقديم تعريف للعولمة متطلب و مفيد للغاية سنعود إليه في حينه
والنقطة البسيطة هي أن العولمة أصبحت تعني مجموعة متنوعة من الأشياء المختلفة بالنسبة إلى مجموعة واسعة من المؤلفين المختلفين. وعلاوة على ذلك، وبالنظر إلى الطيف الواسع من العمليات والممارسات التي عادة ما تستخدم العولمة للإشارة إليها على نحو مشروع)، حتى من المؤلف نفسه، فقد يكون من غير المفاجي البتة أن أصبحت العولمة في أغلب الأحيان مثل مصدرا للإرباك بدلا من كونها مصدرا للإيضاح
ويمكن ملاحظة هذا الأمر حتى في تبادلات الرأي الموجزة نسبيا بين باري بوزان ودايفد هلد كما تمت مناقشتها آنفا. فقد أشير في مساحة صفحات قليلة إلى مجموعة متنوعة ضخمة من الأشياء المتعلقة بالعولمة والمختلفة نوعا ما، ومن بين هذه الأمور التي يمكن تعرفها الأمور التالية (انظر الجدول
(2 - 14
بالطبع، فليس هنالك خطب في الإشارة إلى أي من هذه العمليات من حيث العولمة. مع ذلك، فمن الصعب جدا في الواقع أن نفكر في أي خاصية مشتركة من العوامل التي يشترك جميعهم فيها بكم ما قد نسميه بالأمثلة على الشيء نفسه (العولمة)، إضافة إلى ذلك، ففي ما يخص كل واحد من البنود المذكورة في القائمة، هنالك خيارات مرتبطة بذلك البند؛ وهي خيارات نحتاج الجدول 14 - 2 مؤشرات محتملة للعولمة
1 تدفق البضائع، والامتثارات، والمعلومات عبر الحدود في العمليات عبر القومية في المناولة السياسية وصنع القرارات السياسية. في الاعتيادية المتبادلة بين الدول 4. تطور منظومة عالمية لا يقتصر مسارها الديناميكي والتنموي
الدول التي شكلها. . توالد المشكلات التي تحتاج إلى حلول عولية. . تطور مؤسسات گوگل إليها مسؤولية جوهرية في تصميم سياسة عامة عولية.
إلى الدفاع عنها إذا كان لمصطلح العولمة أن لا يحجب أكثر مما يكشف.
خذ البند الأول على سبيل المثال. ففي العادة ترتبط العولمة بطيف متنوع من التدفقات عبر الحدودية - ولا سيما تدفقات البضائع، والاستثمارات، والمعلومات - وليس هذا فحسب، وإنما أيضا تدفقات المضيفين أو السياح، والعمالة المهاجرة، وطالبي اللجوء، والملوثين للبيئة، وناقلي عدوى الأمراض، وما إلى ذلك. لكن وجود مثل هذه التدفقات، وحتي ضخامتها، أمر لم يسبق له مثيل تاريخيا على الإطلاق. إذا، فما هو تحديدا الشيء المميز في ضخامة أو نطاق مثل هذه التدفقات الذي يمكن أن يقودنا إلى تعريف إلى الحقبة المعاصرة بوصفها حقبة تتميز بالعولمة، في حين أن الحقبة التي سبقتها لم تكن كذلك؟ والغريب في الأمر هو أن هذا سؤال نادرا ما يتم طرحه. فقد يكون كل واحد من هذه التدفقات بدرجة ما عولميا في طابعه، وسنرغب على الأرجح، في معرفة أن مثل هذه التدفقات هي حقا عولمية تامة في طابعها قبل أن نكون فرحين بالإشارة إليها بوصفها أمثلة على العولمة، لكن إلى أي حد ينبغي لها أن تكون عولمية؟ وما الذي تعنيه العولمية هنا أصلا؟
فكر في تدفق ناقلي عدوى الأمراض. بالطبع، فهؤلاء ليسوا بالضبط مراقبين دؤوبين للحدود القومية، لذا فإن انتقال العدوى عبر الحدود قديم قدم وجود الحدود الاسمية التي قد يعبرها ناقلو عدوى الأمراض. لكن في أي مرحلة يمكننا أن نبدا شرعيا بالحديث عن إمكان عولمتها؟ فعندما يعطس مزارع في الألزاس الفرنسية ويصاب جاره في ألمانيا بالزكام، فهل هذه عولمة؟ وعندما أخذ الصليبيون فيروساتهم وبكتيرياهم الغرب الأوروبية إلى الأراضي المقدسة، هل كان هذا شكلا مبكرا من أشكال العولمة؟ وعندما تقل طاقم کريستوف كولومبوس مسببات أمراضهم إلى شعب شمال أميركا، فهل كانت هذه عولمة؟ أم أن العولمة مصطلح يجب أن ندخره لوصف الحقبة (المعاصرة) التي تتمثل بالمواصلات العامة الضخمة عبر القارات واحتمالات انتشار الأوبئة عالميا التي يسببها هذا الأمر؟
بالطبع، ليس هنالك إجابات الصحيحة عن أسئلة كهذه، لكن ثمة خيارات يمكن الدفاع عنها، ويجب الدفاع عنها إذا ما كان لمفهوم العولمة أن يزيد من قبولنا التحليلي لأمور كهذه. وينبغي لنا تحديدا أن نسأل أنفسنا: هل كانت جميع التدفقات عبر الحدودية، على سبيل المثال، هي بطبيعتها أمثلة على العولمة، أو ما إذا كان يجب على مثل هذه التدفقات أن تكون عبر إقليمية، أو عبر قارية، أو طبعا عولمية خالصة قبل أن تعد دليلا على العولمة. كذلك، فعلينا أن نسال أنفسنا ما إذا كانت مسألة العولمة ترتبط بالطابع الجغرافي فحسب لمثل هذه التدفقات (اي اشمولية هذه التدفقات (extensivity) وفقا للاصطلاح المفيد الذي استخدمه هلد وآخرون) (1)، أو ما إذا كانت ترتبط أيضا بشيوعها (أو احدتها، إكثافتها) (intensivity)). بعبارة أخرى، هل يجب أن يكون التعرف إلى عمليات العولمة متعلقا فقط بالتعرف إلى بعض التدفقات التي هي عولمية في طابعها الجغرافي، أم أنه يجب أيضا أن يكون متعلقا بالتعرف إلى الميل المتزايد للتدفقات في أن تكون من هذا النوع؟
النقطة الأساس هي أن معرفة ما إذا كانت العولمة تحدث أم لا يعتمد على ما نعتبر أن العولمة تشير إليه، وهنالك فروق كبيرة إلى حد ما بين منظري العلاقات الدولية حول هذه النقطة. وعادة ما يميل التشككيون إلى تبني معايير تعريفية أكثر تطلبا من نظرائهم العولمين، مستمعين بالإشارة إلى التفاوت بين الدليل الحقيقي (على علاته وصرامة مثل هذه المعايير التعريفية المتشددة. في المقابل حدد العولميون لأنفسهم عقبة تعريفية أقل تمييزا إلى حد ما، بحيث إنهم يؤولون بالذات الدليل نفسه الذي غالبا ما يقود التشككيين إلى تحذي أطروحة العولمة بكونه البرهان الذي لا لبس فيه على الأطروحة (بحسب زعم العولميين، وما يجعل هذا الأمر أكثر إرباكا هو شيء قد سبق أن أشرت إليه، وهو التردد الظاهر لدى المؤلفين على كلا جانبي التبادل الأفكاري في تعريف اصطلاحاتهم بوضوح وإيجازه
على الرغم من أن ذلك محبط، فهو ليس بالأمر المفاجي، فكما وضح الجدول 14 - 2، فإن مجموعة متنوعة ضخمة من الأشياء المختلفة نوعا ما يشار إليها ضمن إطار العولمة، غالبا من المؤلف نفسه. وكما أشرنا سابقا، فغالبا ما يكون صعبا للغاية التعرف إلى عامل منفرد يمكن على أساسه أن يصف كل واحد من هذه الأشياء على أنه مثال على العولمة. ويشير هذا الأمر إلى أنه يمكننا إلى حد بعيد أن نعطي مبررا لغياب تعريف بسيط للعولمة على أساس أن الظواهر التي يشير إليها المصطلح هي ظواهر متعددة الأوجه ومعقدة. إلا أن كرمنا لا يمكن أن يمتد ليعفي منظري العلاقات الدولية من مسؤوليتهم في أن يكونوا واضحين بشأن كيفية استخدام المصطلح وأسباب استخدامهم له. وإذا كانت العولمة متعددة الأبعاد، فينبغي للمؤلفين الذين يوظفون المصطلح أن يكونوا قادرين على تحديد أبعاد العولمة التي يشيرون إليها.
إن الإشارة إلى الأبعاد المحتملة للعولمة قد يمد لنا يد المساعدة هنا. وهنالك عامل آخر لا يقل أهمية عن ذلك، وهو أنه كما كثير من المصطلحات المختلف عليها في العلوم الاجتماعية، قد يتم فهم العولمة بطريقة أفضل من خلال المصطلحات السلبية بدلا من المصطلحات الإيجابية؛ أي إننا يمكننا أن نتعلم كثيرا عما بعد عولمة من خلال الأخذ في الحسبان ما هو ليس عولمة. وفي الواقع فإن النظر في الأدبيات المتعلقة بالعولمة يكشف سريعا عددا من نماذج والأخرة للعولمة؛ وهي مصطلحات تم تقديمها إلى جانب العولمة لكنها تتعارض معها بشكل صارخ. ومن بين هذه الأنواع من الأزواج المتعارضة، قد تكون التالية هي الأكثر وضوخان
1. القومي مقابل العولمي، والذي يشير إلى المستوى الذي يمكن عنده رؤية موقع مركز جاذبية المنظومة العالمية، والطابع الرئيس للثقافات، والاقتصادات، والأنظمة السياسية الحاكمة ضمن المنظومة 2. الدولي بين الدولي مقابل العولمي، ويشير إلى طابع عمليات صنع القرارات فوق الوطنية (supra - national)، وتحديدا، إلى الحد الذي يمكن عنده رؤية هذه العمليات بكونها عبر قومية بدلا من كونها مجرد بين قومية (دولية) من حيث
الشكل.
3. الأقلمة (regionalization) مقابل العولمة، ويشير إلى النطاق والطابع الجغرافي المحدد لأي عملية معينة من عمليات التكامل (integration).
4. الحمائية (protectionism)/ الانكفائية (isolationism) مقابل العولمة النزعة الدولية (Internationalism)، ويشير إلى التوجه الداخلي أو الخارجي لصنع السياسات على المستوى المحلي [الوطني / القومي
تقدم هذه الأزواج توضيحا مفيدا بشكل مباشر، يكشف عن نطاق من المعاني المختلفة نوعا ما للعولمة، لا بل ربما أنه يكشف عن نطاق من الأبعاد الخاصة بالمصطلح، وكل واحد منها جدير بشرح موجز
في أول زوج من هذه الأزواج المفاهيمية، تتعارض العولمة وتقارن بالأمة والدولة (فعليا بالدولة القومية). ويكمن هذا التمييز والتباين بشكل واضح في صلب حوار العولمة الخاص بنظرية العلاقات الدولية. ويستمر التشككيون، أي الواقعيون والواقعيون الجدد، بتمييز المستوى القومي عن غيره، معطين تصورا مفاهيميا للسياسة العالمية في إطار تفاعل الثقافات السياسية المنفصلة والمتضمنة ضمن إطار قومي، وبالمقارنة، يشير العولميون إلى تجاوز القومي الوطنية وانحلاله في عديد من التدفقات عبر الحدودية المتكاثرة. ويقترحون أن هذا الأمر يولد ساحة عولمية جديدة من الصراع والخصام السياسيين، والتي هي حرفيا فوق وطنية (supra national)؛ أي فوق مستوى ما هو قومي
أما التعارض المفاهيمي الثاني فهو يتلو الأول على نحو منطقي تقريبا. إلا أن التشديد هنا مختلف قليلا بشكل أقل وضوحا، حيث إن التركيز يقع على الوحدات المكونة للمنظومة العالمية أقل من وقوعه على طابع صنع القرار فوق الوطني الذي يليه، وهنا يتعارض العولمي مع الدولي، وتتعارض العولمة مع النزعة الدولية بين الدول، مع بقاء كيان الدولة قويا). وهذا التعارض مرکزي بالدرجة نفسها لحوار العولمة في نظرية العلاقات الدولية المعاصرة. ويستمر التشككيون الواقعيون والواقعيون الجدد في رؤية السياسة العالمية في إطار التمركز حول الدولة والعلاقات بين القومية العلاقات الدولية، منکرين بذلك وجود مجال منفصل من التداول السياسي عبر القومي، وهو ليس مجرد تجميع للتفضيلات على مستوى الدولة. في المقابل يشير العولميون، أي الليبراليون الجدد والكوزموبوليتانيون، إلى الأهمية المتزايدة للمؤسسات الحوكمية عبر القومية، كما يشيرون إلى وجود عملية ودينامية سياسية منفصلة على هذا المستوى لا تقتصر على تفضيلات الدول.
أما التعارض المفاهيمي الثالث فهو مختلف نوعا ما وياخذنا في قضايا علينا مناقشتها في ما بعد بقدر من التفصيل. ويشير هذا التعارض إلى طابع سياسة المنظومة العالمية ذاتها، بشكل أقل من إشارته إلى الكيفية التي قد نصف من خلالها، وبادق ما يمكن، تلك التدفقات عبر الحدودية التي تشهدها. باختصار، فهو يأخذنا من القضايا المفاهيمية الأنطولوجية العمومية، إلى القضايا الإمبيريقية العمومية. وكما سنرى بتفصيل أكبر في القسم التالي، فإن اقتصاديي التجارة، وطائفة من الاقتصاديين السياسيين الدوليين النقديين يتحدون مدى دقة مصطلح العولمة في الاحتواء على الاتجاهات المعاصرة في التكامل الاقتصادي (economic integration). ويقترحون أن من الضروري أن نفرق بوضوح شديد بين الأقلمة (regionalization) والعولمة، وأننا إذا فعلنا ذلك، فإننا سنرى دليلا على الأقلمة أوضح نوعا ما من الدليل الذي ستراه على العولمة. وهذا الخلاف إمبيريقي أكثر من كونه نظريا، وهو خلاف سنعود إليه في القسم التالي.
أخيرا، توضع العولمة أيضا في مواجهة مع الحمائية (protectionism) والانكفائية (isolationism) في الأدبيات الأكثر تخصصا تقريبا والتي تميز توجهات صناع السياسات المحلية والخيارات التي يتخذونها. وقد يعمل صناع السياسات على تبني العولمة، مثلا من خلال تعزيز نظام عولمي من التجارة الحرة وحرية تحريك رؤوس الأموال على كلتا الساحتين المحلية والدولية؛ أو أنهم قد يقاومون العولمة، حاشدين دفاعاتهم القومية ضد الاختراق التجاري والتدفقات الاقتصادية الأخرى عبر الحدود من خلال سلسلة من التعرفات الجمركية الحمائية والقيود الأخرى.
كما تشير المناقشة السابقة، فإن العولمة هي مفهوم متعدد الأبعاد بلا شك، بمعنى أن هنالك مجموعة متنوعة من المعاني المختلفة نوعا ما للمصطلح الذي ينادي به المؤلفون بالصوت نفسه غالبا. لكن في حين يبدو هذا الأمر وكانه يقلل، إلى حد ما، من أهمية تحديد تعريف دقيق للعولمة، فإنه لا يحط من أهمية السؤال «إلى أي حد يجب عليها أن تكون عولمية الظاهرة من أجل أن تعتبر دليلا على العولمة؟». بالطبع، فإن هذه المناقشة، وببساطة، تستعرض هذا السؤال في عدد من الأبعاد المختلفة. لكن المؤسف أن هذا سوال نادرا ما ينم طرحه، كما أنه من الصعب إيجاد أي إجماع عليه. إلا أنه إذا كان من الواضح أننا نتطلب كثيرا من الأدبيات الموجودة حينما نتوقع منها أن تزودنا باجابة عن هذا السؤال، فيمكننا في الأقل أن نكون واضحين بشأن الكيفية التي سيتم من خلالها توظيف مصطلح العولمة في ما سيأتي. والتعريف الذي أفضله أنا هو تعريف محدد ومتشدد نسبيا، وهو تعريف يمكن تفعيله إمبيريقيا (كما سنرى عما قريب)، وهو يفرق بوضوح شديد بين عمليات الأقلمة وعمليات العولمة. وجميع هذه المتطلبات إليها التعريف الذي تقدم به دايفد هلد وزملاؤه. فبالنسبة إليهم، العولمة هي عملية (أو مجموعة من العمليات تجسد تحولا في التنظيم المكاني للعلاقات والمعاملات الاجتماعية، مولدة تدفقات وشبكات عبر قارية أو بين إقليمية من النشاط، والتفاعل والقوة (14)
إمبيريقيات العولة: مداها ونتائجها إن ما يعد دليلا على العولمة هو، كما اقترخت، قضية معان لغوية. لكن ما إذا كانت العولمة تحدث أم لا، وما هي النتائج المترتبة عليها، إن وجدت، فهذه تبقى في جوهرها مسألة إمبيريقية. إذا، وبما أننا ناقشنا الدلالات اللغوية للعولمة في القسم السابق، فمن المناسب أن نلتفت الآن إلى إمبيريقيات العولمة [الواقع العملي للعولمة، ولو أن ذلك سيكون بإيجاز أكبر.
هنالك أدبيات ضخمة، وفي بعض الأحيان تقنية للغاية، في هذا الخصوص، لا يمكننا استطلاعها بعمق في الصفحات القليلة المتاحة هنا (1). والأكثر من ذلك، هو أن كل المزاعم في هذه الأدبيات تقريبا هي مزاعم مختلف عليها، في الأقل بمعنى أن كل زعم إمبيريقي تقريبا هو إما دحض أو محاولة دحض الزعم تم تقديمه في مكان آخر في هذه الأدبيات، إلا أن هناك نمطا متميزا للأدلة الإمبيريقية وللحوار الذي ولدته؛ إذ بما أن الحوار أصبح من حيث طابعه إمبيريقيا أكثر فأكثر - وبما أننا في الواقع حصلنا على معرفة أكبر فأكبر عن مدى العولمة ونتائجها - فإن توازن الآراء تاليا قد أصبح متشكا أكثر فأكثر في طابع المبالغات المفرطة غالبا للأدبيات العولمية الأولى. ويبدو أن العولمة هي حقيقة أقل بداهة مما كان يعتقد في السابق، وهي مطورة بغير تساو بشكل أكبر نوعا ما مما كان يعتقد سابقا، ويحتمل أن تكون ذات نتائج لاستقلالية صناعة السياسات المحلية بشكل أقل نوعا ما مما كان مفترضا في ما مضى، وبالطبع، فإن هذا لا يعني أن العالم لم يتغير؛ وإنما يعني أن حقبة إعادة هيكلة المنظومة الدولية منذ الستينيات، والتي تميز بها العولمة دائما، هي نوعا ما حقبة ليست الأولى من نوعها تاريخيا إلى الحد الذي كان يفترضه كثيرون، وهي حقبة توصف من حيث العولمة بشكل أقل نوعا ما مما كان كثيرون يعتقدون، وهي حقبة أقل تأكد لاستقلالية الدولة مما اعتاد بعضهم أن يفترض
ما حقبة ليست رواللي كان يفترض
العولمة بشكل وما يلي إدا، هو بلا شك نظرة تشككية في العولمة، لكنها، كما آمل أن ابين، وجهة نظر مثبتة إمبيريقيا بشكل جيد. وأقترح في ما يلي أن هناك تفاوتا كبيرا، ومتزايدا بلا شك، بين افتراض العولمة البسيط في كثير من الأديات الموجودة وطبيعة التطورات في المنظومة العالمية ومسارها. والأدبيات التي أعتمد عليها في السعي للدفاع عن ذلك الزعم هي أديات ذات تركيز اقتصادي في المقام الأول، ومحتويات هذا القسم تعكس ذلك التركيز. وأسباب هذا التمييز للاقتصادي على غيره في الأدبيات الموجودة، وفي هذا القسم، هي أسباب بسيطة نسبيا، وهي متشعبة مبدئيا إلى أربع شعب. أولا، إن القيام إمبيريقيا بقياس مدى العولمة السياسية الاقتصادية هو أصعب بكثير من قياس مدى العولمة الاقتصادية. فالتدفقات الاقتصادية، على نقيض نظيرتها السياسية، يتم تسجيلها وتحديد کميتها، كما يسهل نسبيا قياس دلالاتها. في المقابل فإن التدفقات السياسية لا يمكن إلا تقديرها من الناحية الكمية. ثانيا، إذا كنا مهتمين بمدى تأكل استقلالية صنع السياسات وقدرة الدولة، من الضروري عندئذ أن نضع في الحسبان مدي العولمة الاقتصادية ونتائجها، بما أن ذلك يرى دائما أنه القيد الأمم على مثل هذه الاستقلالية. ثالا، إن عديدا من التصورات نصف العولمة بأنها إذا لم تكن ظاهرة اقتصادية بحتة، فهي في الأقل ظاهرة اقتصادية من حيث المبدا. إذا، فالاستقراء من المجال الاقتصادي أكثر قبولا من الاستقراء من أي مجال آخر. رابعا، وفي ما يتصل بذلك، إذا كان في الإمكان إظهار أن المزاعم بشان العولمة الاقتصادية مبالغ فيها، فسيتم إلحاق ضرر كبير بالأطروحة العولمية بما أنها المجال الاقتصادي الذي يقدم دائما على أنه الأكثر عولمة من بين جميع الميادين
إن الدليل الإمبيريقي الذي تم تجميعه في الأدبيات الأخيرة بتناول في الواقع فضيين مختلفتين، ومرتبطتين ما ارتباطا وثيقا، وهما مدى عملية العولمة الاقتصادية (إذا صح أن نسميها بهذا الاسم والطابع الجغرافي لهذه العملية من جانب، ونتائج العولمة الاقتصادية (أو كما يفضل معظم هذه الأدبيات تسمينها، والاعتمادية الاقتصادية المتبادلة المعقدة) لاستقلالية الدولة في صنع السياسات محليا من الجانب الآخر. أما الاستنتاجات التي تتوصل إليها هذه الأدبيات فهي ملخصة في الجدول 14 - 3.
الجدول 14 - 3 الحاجة الإمبيريقية ضد أطروحة العولة
مدى العولة | نتائج العولة أ. تكامل الاقتصاد العالمي منذ الستينيات 1. بالمقارنة بتوقعات العولمين، فإن |
سيصل إلى مستويات لا سابق لها، | العلاقة بين الإنفاق العام والعولمة معينا المنظومة الدولية إلى مستويات | الانفتاح الاقتصادي) نستمر في كونها من التكامل الاقتصادي التي شوهدت إيجابية وليست سلبية؛ وهذا الارتباط آخر مرة في الحقبة ما بين عامي | الإيجابي، إن طرا عليه أمر، فهو قد 1930 و 14 19.
قوي منذ ستينيات القرن العشرين: وسبعينياته. 2. العولمة هي وصف ضعيف للمرحلة 2، مقارنة بتوقعات العولمبين، ليس
الحالية في التكامل الاقتصادي الدولي | هنالك علاقة عكسية بين مستويات التي توصف بدقة اكبر بكونها مرحلة | الاستثمار الأجنبي المقبل إلى الداخل تتميز بالأقلمة (regionalization | ومؤشرات الإنفاق العام، والضرائب، وبما يسمى بالتشكيل الثلاثي | ومعايير سوق العمالة، والمعايير البيئية
ومعايير أخرى د. لا يزال على المرحلة الحالية من 3, في حين أن تحرير الأسواق المالية
التكامل الاقتصادي أن تج إما تقاريا | قد زاد من التأثير المحتمل لهجمات في اسعار الفائدة في أنحاء العالم، أو المضاربة على العملات، فإن تقاربا في معدلات الادخار المحلي المشاركين في سوق رأس المال أقل والاستثمار المحلي التنوع في غرضة، مما كان مفترضا تقليديا، سوق متكاملة تماما لرؤوس الأموال لمعاقبة المستويات المرتفعة من العالمية
الإنفاق العام وتدخلات الدولة لتنظيم السوق
(trindication)
مدى العولمة
كما هو موضح في الجدول 14 - 3، فإن الحجة الإمبيريقية التي تقدم ضد التصوير المقياسي لعملية العولمة الاقتصادية تأتي في ثلاثة أجزاء. وقد يكون أكثر الجوانب شيوعا في حجة التشككيين هو مشاهدتهم أن المستويات الحالية للتكامل الاقتصادي العولمي، وعلى الرغم من أنها أكبر بكثير منها في أي مرحلة أخرى خلال حقبة ما بعد الحرب، فإنها ليست الأولى من نوعها تاريخيا ولا بأي شكل من الأشكال. في الواقع، وكما يبنون بالنسبة إلى كل من مستويات التجارة وتدفقات رؤوس الأموال، فإن الاقتصاد العالمي اليوم متكامل اقتصاديا بشكل أوثق من أي مرحلة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، لكنه في الواقع، ومن حيث المجموع الكلي، ليس أكثر تکاملا مما كان عليه في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين (20)
على الرغم من أن هذا البند الأول، الركن الأول في الجدول قد يكون اکثر جوانب الحجة التشككية قابلية للمناقشة، إلا أنه أيضا قد يكون الأقل أهمية، كما أنه أكثر جانب يساء فهمه. في النهاية، فإنه أقرب ما يكون إلى بيان للحقيقة الإمبيريقية، أو زعم إمبيريقي، وذلك بقدر ما هو جدلي، وغالبا ما يساء فهم التشككيين حيث يعتقد بأنهم يقترحون أن الاقتصاد العالمي، وبكل بساطة، لم يتغير. وهذا في الواقع تحريف كبير للحجة التي يقدمونها. فما يقترحونه هو أن إعادة التكامل الحالي والمستمر للاقتصاد العالمي ما زال أمامه طريق طويل يسلكه قبل أن يكون الأول من نوعه تاريخيا، من الناحية الكمية. وهذا استنتاج مهم بالتأكيد، لكنه ليس باي شكل من الأشكال دحضا نهائيا لأطروحة العولمة بحد ذاتها. فهو يقترح على وجه التحديد، بأن علينا أن نكون حذرين نوعا ما بشأن هذه التصورات التي ستد تاريخيا على درجات لا سابق لها من القيود على استقلالية صنع السياسات المحلية فقط من خلال القوة الكمية للعولمة وعلى الرغم من ذلك، لا يمكننا أن نستنتج من هذا أن العولمة ليست فيذا لا سابق له على استقلالية صنع السياسات. فكما قام مؤلفون أمثال هيرست وطومسون (21)، بالاعتراف وبرية، من الناحية النوعية وليس من الناحية الكمية، فإن هنالك فروقا كبيرة بين الحقبة المعاصرة وآخر مرة كان الاقتصاد العالمي فيها متكاملا إلى حد بعيد.
أما الركن الثاني في الحجة ضد أطروحة العولمة فهو ذو أهمية أكبر نوعا ما، على الرغم من أن الاعتراف به لا يزال ضيقا إلى الآن. فقد قام اقتصاديو التجارة، على مدى عقود، وبتفصيل دقيق، برسم مخطط للأنماط في التوزيع العولمي للتجارة، مفرقين بذلك بين عمليات تكامل التجارة التي هي داخل الإقليم (intra - regional)، وتلك التي هي بين الأقاليم (inter
- regional) من حيث طابعها. وفي السنوات الأخيرة، فإن الأساليب التي استخدمت في هذه الأدبيات قد تولاها عدد من اقتصاديي الاقتصاد السياسي الدولي لرسم مخطط لأنماط التوزيع الجغرافي للتجارة وللاستثمار الأجنبي المباشرة). وما ظهره هذه الأدبيات هو أن مصطلح العولمة وصف ضعيف، وهو وصف ضعيف على نحو متزايد للمسار الحالي لأنماط التكامل الاقتصادي الدولي. أما النتائج التي توصلوا إليها فيمكن تلخيصها على النحو الآتي:
، تقريبا في جميع الأقاليم ضمن الاقتصاد العالمي، فإن وتيرة التكامل عبر الإقليم أعلى الآن من وتيرة التكامل بين الأقاليم، وهي على هذا النحو منذ زمن، وينطبق هذا الأمر على التجارة وعلى الاستثمار الأجنبي المباشر على حد سواء، |
2. كنتيجة لذلك، فإن أقوى الديناميات في الاقتصاد العالمي اليوم هي الأقلمة وليست العولمة
3. إضافة إلى مثل هذه التوجهات في الأقلمة، هنالك شواهد على أن بعض الأقاليم ضمن الاقتصاد العالمي تتكامل بشكل أوثق. 4. غير أن مثل هذه العمليات المتمثلة بالأقلمة الداخلية. ints) (regionalization هي موزعة على نحو غير متساو مطلقا.
5. بناء عليه، وبالنسبة إلى الاقتصاد العالمي ككل، فإن أدق وصف لمثل هذه التوجهات ليس هو العولمة، وإنما التشكيل الثلاثي (trindization)، حيث إن الثلاثية مثل الاقتصادات الإقليمية الشمال أميركية، والجنوب شرق آسيوية، والأوروبية (لاحظ عدم وجود ذكر للإقليم العربي، وإقليم أميركا اللاتينية، وإقليم روسيا ومحيطها).
إن هذه النتائج مجتمعة ما هي استنتاجات مهمة للغاية، تقترح بأن الوصف المعاصر للاقتصاد الدولي من خلال مصطلح العولمة ليس غير دقيق فحسب، وإنما هو غير دقيق على نحو متزايد. وعندما يعد أن جزءا كبيرا من صناعة السياسات المعاصرة، على المستويين القومي وعبر القومي على حد سواء، مبني على الافتراض أنه يجب على الاقتصادات أن تثبت بشكل متزايد أنها تنافسية عولميا، فإن الأهمية السياسائية المحتملة لمثل هذه الاستنتاجات تتكتف.
أما الركن الأخير من أركان الحجة ضد أطروحة العولمة القياسية فهو الأكثر عملية. ومرة أخرى، فإن له تأثيرا كبيرا في ردود صناع السياسات على عالم العولمة الذي يفترضون دوما أنهم يقطنونه. والنماذج الجبرية المبسطة للاقتصاد العالمي التي توجه صناعة السياسات الاقتصادية اليوم في جميع العواصم القومية تقريبا نفترض دائما وجود سوق مالي عالمي متكامل تماما. وبالطبع، فمن حيث الجوهر، ينبغي لمساهماتهم في صنع السياسات الاقتصادية أن تستمد من هنا النوع من الافتراضات مجموعة مثلي من الظروف السياساتية الملائمة لحقبة من العولمة. إلا أن مثل هذه النماذج تصوغ أيضا سلسلة من التنبؤات حول الاقتصاد العالمي، والتي هي، من حيث المبدأ، قابلة للاختبار إمبيريقيا (22). والمشكلة هي أن مثل هذه التنبؤات لم يتم إثباتها من خلال الأدلة الإمبيريقية المتاحة.
لا حاجة لنا بالتفاصيل التقنية هنا 29). ويكفي أن نشير إلى أن هناك تثبين قد أقلقا الاقتصاديين، وهما:
1. أنه في سوق مالية متكاملة أكثر من أي وقت مضى، يجب على أسعار الفائدة أن تتقارب، وأنه في عالم متكامل بشكل كامل، يجب القضاء على الفروق في أسعار الفائدة في الأسواق المالية؛ بحيث إن دوام الفروق في أسعار الفائدة يعطي مؤشرا بسيطا على عدم وجود تكامل للسوق المالي العولمي.
2. أنه في سوق مالية متكاملة أكثر من أي وقت مضى، يجب على الارتباط بين الادخارات المحلية والاستثمار أن يقل، وأنه يجب على هذا الارتباط أن ينخفض إلى الصفر في سوق رأس المال المتكاملة بشكل كامل، حيث إن درام الارتباط بين الادخار والاستثمار هو المؤشر المساوي لعدم وجود تکامل في الأسواق المالية
المشكلة هي أنه ليست هنالك أدلة تشير إلى أي من ذلك، حيث أظهرت الفروق في اسعار الفائدة، والارتباطات بين الادخار المحلي والاستثمار أنها اكثر مرونة مما توقعه الاقتصاديون لها. والاستنتاج الواضح الذي يستخلص من هذه النتائج هو أن الأسواق المالية ليست متكاملة عولميا إلى الحد الذي غالبا ما نفترضه، وهذه نقطة مهمة في حد ذاتها. إلا أن النقطة الأهم هي أن الأسواق المالية ليست متكاملة عولميا بالقدر الذي يفترضه صناع السياسات الذين يستخدمون نماذج اقتصادية تعد الآن) قياسية.
مصادر و المراجع :
١- نظرية العلاقات الدولية
المؤلف: تيم دان، ميليا كوركي، وستيف سميث
المترجم: ديما الخضرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات - بيروت
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: كانون الثاني - يناير 2016
تعليقات (0)