المنشورات
حرابة
1 - التعريف:
الحرابة في اللغة: من حَرَبَ، ومن معانيها: الطعن، والسلب، والمقاتلة، يقال: حَرَبَه بالحربة: أي طعنه بها، وحَرَبَه حربا: أي سلبه جميع ما يملك، وحَرَبَه مُحَارَبة:أي قاتله، ومحاربة الله معصيته، قال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا } [المائدة 33](1).
والحرابة في الاصطلاح: هي البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو لإرعاب ، على سبيل المجاهرة والمكابرة، اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث(2).
وتسمى قطع الطريق عند أكثر الفقهاء.
2 - من هم المحاربون وما هي حقيقة الحرابة ؟
المحارب: هو كل مكلف ملتزم بأحكام الإسلام يسعى في الأرض فسادا بقطع الطريق، وإخافة السبيل والسطو على أعراض الناس وممتلكاتهم، وترويج المخدرات، وزرع المتفجرات في الصحراء أو البنيان أو البحر، على سبيل المجاهرة والمكابرة، وتحت التهديد بالسلاح أو العصا، أو الحجر، فإن أخذوا المال مختفين فهم سُرَّاق، وإن اختطفوا وهربوا فهم منتهبون، وإن روجوا المخدرات، وزرعوا المتفجرات وسطوا على المنازل، فهم مفسدون في الأرض، وينتقض عهد الذميين بهذه الأفعال. والمحاربة ليست مختصة بالأموال فقط بل هي في الأعراض أعظم، وفي ذلك يقول ابن العربي رحمه الله: ( قال القاضي رضي الله عنه: ولقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي قوم خرجوا محاربين إلى رفقة، فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملوها، ثم جد فيهم الطلب فأخذوا وجيء بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين ; لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج ؛ فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وإن الناس كلهم ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب من بين أيديهم ولا يحرب المرء من زوجته وبنته، ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء)(1).
وقال ابن فرحون رحمه الله: ( والحرابة كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه يتعذر معه الاستغاثة عادة كإشهار السلاح والخنق وسقي السكران لأخذ المال، وإن قتل عبدا أو ذميا على ما معه وإن قل فهو محارب. وفي المنتقى قال القاضي أبو أحمد: المحارب هو القاطع للطريق المخيف للسبيل، الشاهر السلاح لطلب فإن أعطي وإلا قاتل عليه، كان في الحضر أو خارج المصر، قال ابن القاسم وأشهب: وقد يكون محاربا، وإن خرج بغير سبيل وفعل فعل المحاربين من التلصص وأخذ المال مكابرة، ويكون الواحد محاربا )(1).
وترى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية: أن من كان ذا منعة وسطا جهارا بسلاح في صحراء ونحوها، أو في طائرة في جو أو سفينة في بحر أو سيارة في بر مثلا فقتل أو أخذ مالاً أو انتهك عرضا أو أرهب وأخاف فهو محارب... ومن كان ذا قوة أو منعة فخطف إنسانا جهارا في صحراء فقتل أو أخذ مالا أو انتهك عرضا أو جنى جناية أقل من القتل أو أخاف وأرهب فقط فهو محارب(2).
وجاء في البند ( أولا ) فقرة ( أ ) من قرار هيئة كبار العلماء رقم ( 85 ) وتاريخ 11/ 11/1401هـ النص التالي: ( إن جرائم الخطف والسطو لانتهاك حرمات المسلمين على سبيل المكابرة والمجاهرة من ضروب المحاربة والسعي في الأرض فساداً المستحقة للعقاب الذي ذكره الله سبحانه في آية المائدة سوى وقع ذلك على النفس أو المال أو العرض، أو أحدث إخافة السبيل وقطع الطريق، ولا فرق بين وقوعه في المدن والقرى أو في الصحارى والقفار كما هو الراجح من آراء العلماء رحمهم الله تعالى)(3).
3 - حكم الحرابة:
الحرابة من الكبائر، وهي من الحدود باتفاق الفقهاء، وسمى القرآن مرتكبيها: محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض فساداً، وغلظ عقوبتها أشد التغليظ، فقال عز من قائل: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } [ المائدة 33 ] الخ. ونفى الرسول صلى الله عليه وسلم انتسابهم إلى الإسلام فقال في الحديث المتفق عليه: { من حمل علينا السلاح فليس منا } (1).
4 - شروط إقامة حد الحرابة:
لا بد من توافر شروط في المحاربين حتى يقام عليهم حد الحرابة ؛ وهذه الشروط هي:
أ - الالتزام بأحكام الشريعة:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يشترط في المحارب: أن يكون ملتزما بأحكام الشريعة، بأن يكون مسلما، أو ذميا، أو مرتدا ، فلا يحد الحربي ، ولا المعاهد ، ولا المستأمن ؛ واستدلوا بقوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } [ المائدة 34 ]، وهؤلاء تقبل توبتهم قبل القدرة، وبعدها، لقوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال الآية 38 ] ؛ ولخبر: { الإسلام يجب ما كان قبله } ؛ ولم يلتزموا أحكام الشريعة، أما الذمي فقد التزم أحكام الشريعة فله ما لنا، وعليه ما علينا ؛ وأما المستأمن فقد وقع الخلاف بينهم في أنه كونه محاربا أو لا(2).
ب - التكليف:
لا خلاف بين الفقهاء في أن البلوغ والعقل شرطان في عقوبة الحرابة لأنهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود.
ج - وجود السلاح معهم:
اختلف الفقهاء في اشتراط السلاح في المحارب؛ فقال الحنفية والحنابلة: يشترط أن يكون مع المحارب سلاح، والحجارة والعصي سلاح هنا، فإن تعرضوا للناس بالعصي والأحجار فهم محاربون؛ أما إذا لم يحملوا شيئا مما ذكر فليسوا بمحاربين.
ولا يشترط المالكية والشافعية حمل السلاح بل يكفي عندهم القهر والغلبة وأخذ المال ولو باللكز والضرب بجمع الكف(1).
د - البعد عن العمران:
ذهب المالكية والشافعية وهو رأي أبي يوسف من الحنفية، وكثير من أصحاب أحمد إلى أنه لا يشترط البعد عن العمران وإنما يشترط فقد الغوث، ولفقد الغوث أسباب كثيرة، ولا ينحصر في البعد عن العمران فقد يكون للبعد عن العمران أو السلطان، وقد يكون لضعف أهل العمران، أو لضعف السلطان ؛ فإن دخل قوم بيتا وأشهروا السلاح ومنعوا أهل البيت من الاستغاثة فهم قطاع طرق في حقهم، واستدل الجمهور بعموم آية المحاربة، ولأن ذلك إذا وجد في العمران والأمصار والقرى كان أعظم خوفا وأكثر ضررا، فكان أولى بحد الحرابة.
وذهب الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة إلى اشتراط البعد عن العمران، فإن حصل منهم الإرعاب وأخذ المال في القرى والأمصار فليسوا بمحاربين، وقالوا: لأن الواجب يسمى حد قطاع الطرق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولأن من في القرى والأمصار يلحقه الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين وهو ليس بقاطع، ولا حد عليه(2).
هـ - الذكورة:
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يشترط في المحارب الذكورة ؛ فلو اجتمع نسوة لهن قوة ومنعة فهن قاطعات طريق ولا تأثير للأنوثة على الحرابة، فقد يكون للمرأة من القوة والتدبير ما للرجل فيجري عليها ما يجري على الرجل من أحكام الحرابة.
وقال الحنفية: يشترط في المحارب الذكورة: فلا تحد المرأة وإن وليت القتال وأخذ المال، لأن ركن الحرابة هو: الخروج على وجه المحاربة والمغالبة ولا يتحقق ذلك في النساء عادة لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن، فلا يكن من أهل الحرابة(1).
و - المجاهرة:
وهي أن يأخذ قطاع الطريق المال جهرا فإن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوا وهربوا فهم منتهبون ولا قطع عليهم ؛ وكذلك إن خرج الواحد، والاثنان على آخر قافلة، فاستلبوا منها شيئا، فليسوا بمحاربين لأنهم لا يعتمدون على قوة ومنعة. وإن تعرضوا لعدد يسير فقهروهم، فهم قطاع طرق (2).
5 - معنى المجاهرة والمجاهرين :
المجاهرة إظهار الأمر وإعلانه، جاء في المصباح المنير: ( جَهَرَ الشيء يجهر بفتحتين ظهر وأجهرته بالألف أظهرته ويعدى بنفسه أيضا وبالباء فيقال جهرته وجهرت به وقال الصَّغاني: أجهر بقراءته وجهر بها ورجل أجهر لا يبصر في الشمس وامرأة جهراء مثل: أحمر وحمراء والفعل من باب تعب ورأيته جهرة أي عيانا وجاهره بالعداوة مجاهرة وجهارا أظهرها وجهر الصوت بالضم جهارة فهو جهير )(3). وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح، وقد ستره عليه الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله عز وجل، ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه } (4).
قال الخادمي: ( من جاهر بكذا بمعنى جهر به أي المعلنين بالمعصية لا يعافون وعبر بفاعل للمبالغة أو هو على ظاهر المفاعلة أو المراد الذين يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي )(5).
وقال الصنعاني: ( المجاهرون، هم الذين جاهروا بمعاصيهم فهتكوا ما ستر الله عليهم فيبيحون بها بلا ضرورة ولا حاجة )(1).
ويتبين من ذلك أن معنى المجاهرة في جريمة الحرابة، هو ارتكاب الجريمة علانية.
6 - معنى المكابرة:
المكابرة هي المغالبة والتكبر ، قال الفيومي: ( كابرته مكابرة غالبته مغالبة وعاندته)(2).
وذكر الزيلعي أن معنى المكابرة: المقاتلة بالسلاح، والمغالبة والمدافعة(3).
وقال البابرتي: ( وأخذ المال من المالك مكابرة: أي مقاتلة بسلاح )(4)
وقال الخرشي: ( لا يخفى أن المكابرة ، المغالبة والمعاندة ، أي مغالبة بسبب قتال كذا مقتضى ما قاله أهل اللغة )(5).
وقال ابن عابدين: ( المكابر ، أي الآخذ علانية بطريق الغلبة والقهر)(6).
ومن هذه النصوص يتبين أن معنى المكابرة: هو غلبة المُحَارب ومعاندته وقهره لمن حاربه ، سواء كان ذلك بالسلاح أو بغيره.
7 - إثبات جريمة الحرابة:
لا خلاف بين الفقهاء في أن جريمة الحرابة تثبت بالإقرار، أو بشهادة عدلين، وتقبل شهادة الرفقة في الحرابة، فإذا شهد على المحارب اثنان من المقطوع عليهم لغيرهما ولم يتعرضا لأنفسهما في الشهادة قبلت شهادتهما، وليس على القاضي البحث عن كونهما من المقطوع عليهم، وإن بحث لم يلزمهم الإجابة، أما إذا تعرضوا لأنفسهما بأن يقولا: قطعوا علينا الطريق، ونهبوا أموالنا لم يقبلا، لا في حقهما ولا في حق غيرهما للعداوة.
قال ابن قدامة رحمه الله: ( إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان، وأخذ متاعهم، لم تقبل شهادتهما ; لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما، وإن قالا: نشهد أن هذا قطع الطريق على فلان، وأخذ متاعه، قبلت شهادتهما، ولم يسألهما الحاكم: هل قطع عليكما معه أم لا ؟ لأنه لا يسألهما ما لم يدع عليهما ؛ وإن عاد المشهود له، فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق، وأخذ متاعهما، لم تقبل شهادته لأنه صار عدوا له بقطعه الطريق عليه ؛ وإن شهد شاهدان أن هؤلاء عرضوا لنا في الطريق، وقطعوها على فلان، قبلت شهادتهما ; لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه)(1).
8 - ضبط اعتراف المحارب وتوجيه الاتهام له:
جريمة الحرابة كغيرها من جرائم الحدود التي يجب على المحقق العناية بضبط اعتراف المتهم بها بكل دقة، وتوجيه الاتهام له بما يتفق مع الأوصاف الجرمية التي ارتكبها ؛ ولكن تزداد جريمة الحرابة حساسية ودقة لتعدد الأوصاف الجرمية لها، وهذه الأوصاف قد يأتي واحد منها بمفرده وقد تجتمع، فعلى سبيل المثال المحارب، إما أن يخيف السبيل فقط، أو يخيفه ويأخذ المال، وقد ينضم إلى هذين الوصفين وصف ثالث وهو القتل، كما أن تحديد صفتي المجاهرة والمكابرة من أهم الجوانب في جريمة الحرابة لما يترتب عليهما من آثار، ولهذا يجب على المحقق الاهتمام بكل دقة بهذه الجوانب، وتدوينها بكل عناية، كما أن جرائم السطو والخطف التي ألحقت بجريمة الحرابة تحتاج أيضا لوصفها وصفا دقيقا طبقا للواقعة الجرمية.
9 - الاشتراك في جريمة الحرابة:
المشتركون في جريمة الحرابة يندرج عليهم جميعا الحكم بالحرابة، لأنهم متضامنون بفعلهم، وقد بيَّن ابن قدامة رحمه الله ذلك بقوله: ( وحكم الردء من القطاع حكم المباشر، وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة ؛ وقال الشافعي: ليس على الردء إلا التعزير ; لأن الحد يجب بارتكاب المعصية، فلا يتعلق بالمعين، كسائر الحدود ؛ ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة، فاستوى فيه الردء والمباشر، كاستحقاق الغنيمة ; وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء، بخلاف سائر الحدود، فعلى هذا، إذا قتل واحد منهم، ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل جميعهم، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال، جاز قتلهم وصلبهم، كما لو فعل الأمرين كل واحد منهم. وإن كان فيهم صبي، أو مجنون، أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره، في قول أكثر أهل العلم ؛ وقال أبو حنيفة: يسقط الحد عن جميعهم، ويصير القتل للأولياء، إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا ; لأن حكم الجميع واحد، فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع ؛ ولنا أنها شبهة اختص بها واحد، فلم يسقط الحد عن الباقين، كما لو اشتركوا في وطء امرأة، وما ذكروه لا أصل له ؛ فعلى هذا، لا حد على الصبي والمجنون وإن باشرا القتل وأخذا المال; لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما، ولا شيء على الردء لهما; لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر، لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى، وإن كان المباشر غيرهما، لم يلزمهما شيء; لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة، وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة.
وإن كان فيهم امرأة، ثبت في حقها حكم المحاربة، فمتى قتلت وأخذت المال، فحدها حد قطاع الطريق، وبهذا قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا يجب عليها الحد، ولا على من معها ; لأنها ليست من أهل المحاربة، كالرجل، فأشبهت الصبي والمجنون ؛ ولنا أنها تحد في السرقة، فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتخالف الصبي والمجنون; ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود، فلزمها هذا الحد، كالرجل؛ إذا ثبت هذا، فإنها إن باشرت القتل، أو أخذ المال، ثبت حكم المحاربة في حق من معها ; لأنهم ردء لها، وإن فعل ذلك غيرها، ثبت حكمه في حقها ; لأنها ردء له، كالرجل سواء ؛ وإن قطع أهل الذمة الطريق، أو كان مع المحاربين المسلمين ذمي، فهل ينتقض عهدهم بذلك ؟ فيه روايتان; فإن قلنا: ينتقض عهدهم، حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال، وإن قلنا: لا ينتقض عهدهم، حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين )(1).
10 - توبة المحارب:
المحارب الذي يتوب قبل القدرة عليه، وتثبت توبته، يسقط عنه الحد، ولكن لا تسقط حقوق الآدميين إلا بعفو منهم، وفي ذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: ( فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى، وأخذوا بحقوق الآدميين ; من الأنفس، والجراح، والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها ، لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي وأبو ثور ؛ والأصل في هذا قول الله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة 34 ]. فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب، والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه ؛ فأما إن تاب بعد القدرة عليه ، لم يسقط عنه شيء من الحدود ; لقول الله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة 34 ]. ؛ فأوجب عليهم الحد، ثم استثنى التائبين قبل القدرة، فمن عداهم يبقى على قضية العموم; ولأنه إذا تاب قبل القدرة، فالظاهر أنها توبة إخلاص، وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه; ولأن في قبول توبته، وإسقاط الحد عنه قبل القدرة، ترغيبا في توبته، والرجوع عن محاربته وإفساده، فناسب ذلك الإسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه; لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة )(1).
11 - عقوبة المحاربين:
اختلف العلماء في عقوبة جرائم الحرابة والسعي في الأرض فسادا هل هي على التنويع حسب نوع الجريمة؛ أو هي على التخيير، أيها شاء الإمام فعل، أو بعضها على التخيير وبعضها على التنويع، ومنشأ الخلاف في ذلك، هو الخلاف الحاصل في معنى ( أو ) الواردة في قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ المائدة 33 ]، هل هو لتنويع للعقوبة تبعا لنوع الجريمة أو لتخيير الإمام فيها، مع اتفاق الجميع على أنها من الحدود، فلا يجوز العفو فيها من الإمام ولا من ولي الدم.
وللمحاربين أربع حالات نبينها مع بيان عقوبتها على قول من قال إن (أو) للتنويع: الأولى: أن يقتلوا ولم يأخذوا مالا ففي هذه الحالة يتحتم قتلهم جميعا، يستوي في ذلك المباشر، والمعين والردء، وبعد القتل، إن كانوا مسلمين يغسلوا و يكفنوا، ويصلى عليهم ويدفنوا. الثانية: أن يقتلوا ويأخذوا المال، ففي هذه الحالة يتحتم قتلهم وصلبهم، حتى يشتهر أمرهم ليرتدع غيرهم. الثالثة: أن يأخذوا المال ولم يقتلوا، ففي هذه الحالة تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف حتما، في آن واحد، لوجوبه لحق الله تعالى، والله تعالى أمر بقطعهم، والأمر للفور، فلا ينتظر بقطع أحد الطرفين اندمال الآخر. الرابعة: إن أخافوا السبيل فقط ، ولم يقتلوا، ولم يأخذوا مالا، نفوا من الأرض.
وهذا التقسيم كما سبق على قول من قال إن ( أو ) في آية الحرابة للتنويع، وليست للتخيير، أما من قال إن ( أو ) للتخيير فإنه يقول اختيار العقوبة راجع للإمام حسب ما يراه مما يدرأ المفسدة ويحقق المصلحة لا بالهوى والتشهي(1).
12 - كيفية تنفيذ عقوبة الحرابة:
أ - تنفيذ عقوبة القتل:
صفة تنفيذ القتل في جريمة الحرابة، هو ضرب عنق الجاني بالسيف، ولا يقتل بغيره، ولا يسقط القتل هنا بالعفو لا من الإمام ولا من ولي المقتول(1).
ب - تنفيذ عقوبة الصلب:
اختلف الفقهاء في وقت الصلب، ومدته: فقال الحنفية والمالكية: يصلب حيا، ويقتل مصلوبا ؛ وعند الحنفية: يترك مصلوبا ثلاثة أيام بعد موته ؛ وعند المالكية تحدد مدة الصلب باجتهاد الإمام(2).
وقال الشافعية في المعتمد، وهو المذهب عند الحنابلة(3): يصلب بعد القتل، لأن الله تعالى قدَّم القتل على الصلب لفظا ؛ فيجب تقديم ما ذكر أولا في الفعل كقوله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ البقرة 158 ] ؛ ولأن في صلبه حيا تعذيبا له ؛ وقال صلى الله عليه وسلم: { إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة } (4).
ج - صفة تنفيذ عقوبة القطع في الحرابة:
تقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى، في آن واحد، ويراعى في ذلك ما يراعى في القطع في جريمة السرقة.
د - تنفيذ النفي:
اختلف الفقهاء في معنى النفي فقال الحنفية: نفيه حبسه حتى تظهر توبته أو يموت. وذهب المالكية: إلى أن المراد بالنفي إبعاده عن بلده إلى مسافة البعد، وحبسه فيه حتى يتوب. وقال الشافعية: المراد بالنفي الحبس أو غيره كالتغريب كما في الزنى. وقال الحنابلة: نفيهم: أن يشردوا فلا يتركوا يستقرون في بلد(5).
مصادر و المراجع :
١- الموسوعة الجنائية الإسلامية المقارنة بالأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية
المؤلف: سعود بن عبد العالي البارودي العتيبي
الطبعة: الثانية 1427
28 يناير 2025
تعليقات (0)