المنشورات
فتنة
1 - التعريف:
الفِتْنة في اللغة: الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار، وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إِذا أَذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيِّدِ(1).
وفي الاصطلاح: عرفها المنَّاوي: بأنها المحنة وكل ما يشق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة(2).
وعرفها الجرجاني : بأنها ما يُبيَّن به حال الإنسان من الخير والشر(3).
وقال الأصفهاني: ( والفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى، ومن العبد كالبلية والمصيبة ، والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة ، ومتى كان من الله يكون على وجه الحكمة ، ومتى كان من الإنسان يكون بضد ذلك ، ولهذا يذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان نحو قوله: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة191] { فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ } [البروج10] { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [الصافات 162])(4).
2 - أنواع الفتن:
قال ابن القيم رحمه الله: ( والفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهى أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما.
فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه. وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة.
وأما النوع الثاني من الفتنة. ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ } [التوبة: 69]. أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال وخضتم كالذي خاضوا فهذا الخوض بالباطل ، وهو الشبهات. فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاق ، والخوض بالباطل ، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به ، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسق الأعمال. فالأول فساد من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون " إحذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه ". وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة.
ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة : 24]. فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. وجمع بينهما أيضاً في قوله: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 3]. فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات. وجمع بينهما في قوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ص: 45]. فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله )(1).
3 - التحذير من الفتن:
تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على التحذير من الفتن والأمر بتجنبها واعتزالها وعدم الخوض فيها , فمن ذلك قوله تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفال 25 ] ، وما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة : { اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر , وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال , وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات , اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم } . قال ابن دقيق العيد : فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتنان بالدنيا والشهوات والجهالات , وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت (2).
وفي الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ؛ فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال: نعم ، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن ، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلت : يا رسول الله صفهم لنا ، قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت : يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك(1). وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ) قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال: ( يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء ، اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ) ، قال : فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني ؛ قال: ( يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار )(2).
قال الماوردي - رحمه الله - ( فأما الفتنة في الأغلب فتحيط بصاحبها , وتنعكس عن البادئ بها , فلا تنكشف إلا وهو بها مصروع كما قال الله تعالى: { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [ فاطر 43]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { الفتنة نائمة فمن أيقظها صار طعاما لها } (1). وقال جعفر بن محمد: الفتنة حصاد للظالمين. وقال بعض الحكماء: صاحب الفتنة أقرب شيء أجلا وأسوأ شيء عملا. وقال بعض الشعراء :
وكنتَ كعنز السَّوْء قامتْ لحتفها إلى مدية تحت الثرى تَستثيرُها) (2).
4 - عقوبة من يثير الفتن:
الفتان الذي يثير الفتن يُعزَّر تعزيراً بليغاً بحسب ما أثاره من فتنة ، وما نتج عنها من قولٍ أو فعل ، وقد عزر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصر بن حجاج بنفيه من المدينة إلى البصرة عندما علم أنه فتن النساء بجماله ؛ وعزَّر صبيغاً عندما سأل عن الذاريات والنازعات ونظائرها من القرآن وبان لعمر فيه الزيغ فضربه حتى أدبر ظهره وكان من أهل البصرة وكتب إلى أميرهم وإليهم أن لا تجالسوه(1). وكذلك فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع ابن الكوَّاء(2). فإذا كان الأمر كذلك فكيف بمن يفتن الناس في دينهم ، وفي معتقداتهم ، ويثير الشبه بينهم ويفرق صفوفهم ويشتت كلمتهم ، ويكفِّر العلماء ، وولاة الأمر ورجال الأمن ، ويؤول النصوص الشرعية لتخدم هواه ؛ إنه بحق يستحق عقوبة رادعة تكبح جماحه وتقطع شره عن المجتمع.
وقد نصت (المادة الثانية عشرة )من النظام الأساسي للحكم على أن : تعزيز الوحدة الوطنية واجب وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام.
وحظرت المادة (التاسعة والثلاثون) من ذات النظام كل ما يؤدي إلى الفتنة أو الانقسام بالنص التالي: ( تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة وبأنظمة الدولة، وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو الانقسام أو يمس بأمن الدولة وعلاقاتها العامة أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه وتبين الأنظمة كيفية ذلك ).
من وقع في الفجور وجبت معاقبته بحسب نوع الجريمة التي ارتكبها، فإن كانت الجريمة موجبة للحد أو القصاص عوقب بما وجب من عقاب، وإن كانت لا توجب حدا ولا قصاصاً، عاقبه القاضي بما يراه زاجرا له عن الانهماك في المعاصي.
مصادر و المراجع :
١- الموسوعة الجنائية الإسلامية المقارنة بالأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية
المؤلف: سعود بن عبد العالي البارودي العتيبي
الطبعة: الثانية 1427
30 يناير 2025
تعليقات (0)