بولينزيا - أطلانطس
ما دمنا الآن قد دنونا من تاريخ الأمم المتحضرة، فلا بد لنا أن نلاحظ أننا سنكتفي من كل ثقافة نعرضها بجزء يسير نختاره منها، وليس ذلك فحسب، بل قد لا نتناول بوصفنا إلا عدداً قليلا من المدنيات التي يجوز أن تكون قد قامت قوائمها يوماً على الأرض؛ فليس في وسعنا أن نُصَمَّ آذاننا فلا نسمع هذه الأساطير التي لم تنقطع روايتها طوال عصور التاريخ، عن مدنيات كانت ذات يوم عظيمة عالية الثقافة، ثم حلت بها كارثة من كوارث الطبيعة أو الحرب فحطمتها تحطيماً لم يُبق منها ولم يَذَر، فإن حفائرنا الحديثة في مدنيَّات كريت وسومر ويقطان تدل كلها على مدى احتمال الصدق في هذه الأساطير.
ففي المحيط الهادي آثار مدنيَّة واحدة على الأقل من هذه المدنيَّات الضائعة؛ فالتماثيل الضخمة في جزيرة "إبستر" وما يرويه الرواة في بولينزيا عن أمم قوية ومقاتلين أبطال كانوا ذات يوم يكتبون المجد لساموا وتاهيتي؛ ثم ما لسكانها من قدرة في الفن وحساسية في الشعر، كل ذلك يدل على مجد ذاهب، يدل على شعب لا يبدأ اليوم نهوضه ليأخذ في الحضارة، بل يتدهور من منزلة عالية كان ينزلها؛ وفي قاع المحيط الأطلسي، يمتد جزء مرتفع تحت الماء (1) من أيسلندة شمالا إلى القطب الجنوبي، فينهض دليلا جديدا يؤيد هذه الأسطورة التي نقلها إلينا أفلاطون (68) في صورة جذابة خلابة الأسطورة التي تروى عن حضارة ازدهرت يوما على قارة محاطة بالماء بين أوربا وآسيا، ثم ضاعت بين عشية وضحاها حين ارتجَّت الأرض ارتجاجا فابتلع اليمُّ تلك القارة في جوفه ابتلاعا؛ ويعتقد "شليمان"
- الذي بعث طروادة بعد موت- أن قارة أطلنطس كانت بمثابة حلقة اتصال بين ثقافتي أوربا ويقطان، وأن مصر كانت قد استمدت حضارتها من أطلنطس هذه (69) ولعل أمريكا نفسها أن تكون هي أطلنطس وأنها كانت ذات حضارة قديمة متصلة بحضارات إفريقية وأوربا في العصر الحجري الحديث؛ ويجوز أن كل كشف جديد يقع عليه الإنسان اليوم، هو كشف للمرة الثانية، سبقه في العصر السالف كشف أول.
لاشك أنه من الجائز- كما ظن أرسطو- أن يكون العالم قد شهد مدنيات كثيرة، وصلت إلى كثير من المخترعات وأسباب الترف ثم أصابها الدمار وزالت من ذاكرات البشر؛ ويقول "بيكُن" عن التاريخ إنه حطام سفينة، إذ ضاع من الماضي أكثر مما بقى؛ وإننا لنجد العزاء عن هذا الضائع في الرأي القائل بأنه كما أن ذاكرة الفرد لا بد أن تنسى الجزء الأعظم مما يصادفه في خبرته من حوادث، لكي يحتفظ الفرد بقوته العاقلة، فكذلك الجنس البشري كله لم يحتفظ في تراثه إلا بأنصع وأقوى ما مَر به من تجارب ثقافية- أم هل استمد هذا المحفوظ نصوعه في الذاكرة وقوته لأنه وحده ما أجاد الذاكرة الاحتفاظ به؟ - ومهما يكن من أمر تراثنا الذي نعيه، فحتى لو لم يكن إلا عُشر ما مَر بالإنسان من تجارب، فليس في وسع إنسان أن يلم به كله؛ وسنجد قصة الإنسان رغم ذلك كله مليئة مترعة بما يكفي.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)