مكان المسرحية
إعادة كشف الهند - نظرة عجلى إلى الخريطة - المؤتمرات المناخية
ليس ثمة ما يجلل طلب العلم في عصرنا بعارٍ أكثر من حداثة معرفته بالهند ونقص هذه المعرفة، فهاهنا شبه جزيرة فسيحة الأرجاء يبلغ اتساعها ما يقرب من مليوني ميل مربع، فهي ثلثا الولايات المتحدة في مساحتها، وهي أكبر من بريطانيا العظمى- صاحبة السيادة عليها (1) - عشرين مرة، ويسكنها ثلاثمائة وعشرون مليوناً من الأنفس، وهو عدد أكبر من سكان أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية مجتمعتين، أو هو خُمسُ سكان الأرض جميعاً، وفيها اتصال عجيب في مراحل تطورها وفي مدنيتها من "موهنجو- دارو"، سنة 2900 ق. م أو قبل ذلك، إلى غاندي ورامان وطاغور، ولها من العقائد الدينية ما يمثل كل مراحل العقيدة من الوثنية البربرية إلى أدق عقيدة في وحدة الوجود وأكثرها روحانية، ولها من الفلاسفة من عزفوا مئات الأنغام على وتر التوحيد بادئين من أسفار "اليوبانشاد" في القرن الثامن قبل الميلاد، إلى شانكارا في القرن الثامن بعد الميلاد، ومنها من العلماء الذين تقدموا بالفلك منذ ثلاثة آلاف عام والذين ظفروا بجوائز "نوبل" في عصرنا هذا، ويسودها دستور ديمقراطي لا نستطيع أن نتعقبه إلى أصوله الأولى في القرى، كما سادها في العواصم حكام حكماء خيّرون مثل "أشوكا" و "أكبر" وأنشد لها من الشعراء من تغنى لهم بملاحم عظمى تكاد تعادل هومر في قدم العهد، ومن يستوقف أسماع العالم اليوم، ولها من رجال الفن من شيدوا لها المعابد الجبارة لآلهة الهندوس، تراها منتشرة من التبت إلى سيلان؛ ومن كامبوديا إلى جاوة، أو مَن زخرفوا القصور الرائعة بالعشرات لملوك المغول وملكاتهم- تلك هي الهند التي يفتح لنا أبوابها البحثُ العلمي الدءوب، كأنها قارة عقلية جديدة يفتتحها البحث العلمي أمام العقل الغربي الذي كان بالأمس يظن أن المدنية نتاج أوربي خالص لا يشاركها فيه بلد آخر (1).
إن مسرح التاريخ مثلّث كبير تضيق جوانبه تدريجياً من ثلوج الهملايا الدائمة إلى حرارة سيلان التي لم تبرد منذ الأزل، وفي ركن من جهة اليسار تقع فارس التي تشبه الهند الفيدية شبهاً قوياً في أهلها ولغتها وآلهتها، فإذا ما تتبعت الحدود الشمالية متجهاً نحو الشرق، وقعت على أفغانستان، حيث ترى "قندهار"، وهي "جاندهار" قديماً، وفيها التقى النحت اليوناني الهندوسي (1) حيناً ثم افترقا بحيث لا يلتقيان إلى الأبد، وإلى الشمال ترى "كابل" التي أغار منها المسلمون والمغول تلك الإغارات الدموية التي مكنتهم من الهند مدى ألف عام؛ فإذا توغلْت في حدود الهند مسيرة يوم قصير وأنت راكب من "كابل" وصلت "بشاور" التي لا تزال على العهد القديم الذي ألفناه في أهل الشمال؛ وأعني به الميل إلى غزو الجنوب، والْحَظْ كم تقرب الروسيا من الهند عند جبال البامير وممرات هندوكوش، فها هنا سترى كثيراً من المشكلات السياسية يثور؛ وإلى الطرف الشمالي من الهند مباشرة يقع إقليم "كشمير" الذي يدل اسمه نفسه على مجلد تليد ظفرت به صناعات النسيج في الهند وجنوبيها يقع البنجاب، ومعناها (أرض الأنهار الخمسة) بمدينتيه العظيمتين "لاهور" و "شِمْلا" عاصمة الصيف عند سطح الهملايا، ومعناها (بيت الثلج).
ويجري نهر السند خلال الجزء الغربي من بنجاب، وهو نهر جبار طوله ألف ميل، واسمه مشتق من اللفظة الإقليمية التي معناها "نهر" (وهي سندو)، وقد حورها الفرس إلى كلمة "هندو" ثم أطلقوها على الهند الشمالية كلها في كلمتهم "هندوستان" (أي بلاد الأنهار)، ومن هذه الكلمة الفارسية "هندو" نحت الإغريق الغزاة كلمة "الهند" وهي التي بقيت لنا إلى اليوم.
وينبع من البنجاب نهرا جمنة والكنج، اللذان يجريان في خطوٍ وتيد، إلى الجنوب الشرقي، أما "جمنة" فيروي العاصمة الجديدة "دلهي" ويعكس على صفحته "تاج محل" عند "أجرا"، وأما نهر الكنج فيزداد اتساعاً كلما سار نحو "المدينة المقدسة" بنارس، ويطَّهر بمائه مائة ألف عابد من عُبَّاده كل يوم، ويخصب بمصباته الاثنى عشر إقليم البنغال والعاصمة البريطانية القديمة كلكتا؛ فإذا ما ازددت إيغالاً في مسيرك ناحية الشرق، ألفيت "بورما" بمعابدها الذهبية في رانجون وطريقها المشرق بشمسه إلى مندلاي، وعد من مندلاي عابراً الهند إلى مطارها الشرقي في كراتشي. تجدك قد قطعت في الهواء طريقاً يكاد يقرب من المسافة التي تقطعها بالطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس، وإذ أنت في طائرتك عائداً، سترى جنوبي السند إقليم راجبوتانا، وهو الإقليم الذي شهد مدن راجبوت المعروفة ببطولتها، والمشهورة على الدهر، وهي "جواليور" و "شيتور" و "جابور" و "آجمر" و "أورايبور"، وإلى الجنوب والغرب ترى "مكان الرئاسة" أو إقليم بمباي، الذي تموج مدائنه بأهليها: سورات، احمد أباد، بمباي، بونا، وإلى الجنوب والشرق تقع دويلتان متقدمتان يحكمهما حكام وطنيون، وهما حيدر أباد وميسور، بعاصمتيهما الرائعتين المسماتين بهذين الاسمين؛ وعلى الساحل الغربي تقع "جوا"، وعلى الساحل الشرقي تقع "بندشيري"، حيث ترك الغزاة البريطانيون للبرتغاليين وللفرنسيين- على هذا التوالي- بضعة أميال مربعة على سبيل التعويض، وعلى امتداد خليج البنغال تمتد "رئاسة مِدْرَاسْ" بمدينتها مِدْرَاسْ المعروفة بدقة الحكم فيها، مركزاً لها، وبمعابدها الفخمة في اكتئاب عند "نانجور" و "ترتشيفوبولي" و "مادورا" و "رامشفارام" تزين حدودها الجنوبية، ثم يأتي "جسر آدم"- وهو خط من الجزائر الغائصة في الماء- يأتي بعدئذ فيشير لنا داعياً أن نعبر عليه المضيق إلى سيلان حيث ازدهرت المدينة منذ ستة عشر قرناً، وكل هذه الأرجاء لا تزيد عن جزء صغير من الهند.
فلا ينبغي إذن أن ننظر إليها نظرتنا إلى أمة واحدة مثل مصر أو بابل أو إنجلترا، بل لابد من اعتبارها قارة بأسرها فيها من كثرة السكان واختلاف اللغات ما في القارة الأوربية، وتكاد تشبه القارة الأوربية كذلك في اختلاف أجوائها وآدابها وفلسفاتها وفنونها؛ فالجزء الشمالي منها يتعرض للرياح الباردة التي تهب عليه من الهملايا، كما يتعرض للضباب الذي يتكون حين تلتقي هذه الرياح الباردة بشمس الجنوب؛ وفي البنجاب تكونت بفعل الأنهار سهول خصيبة عظيمة لا يدانيها في خصوبتها بلد آخر (4)، لكنك إذا ما توجهت جنوبي وديان تلك الأنهار، وجدت الشمس تحكم حكم المستبد الذي لا يقف استبداده شيء، ولهذا جفت السهول وتعرّت، وتحتاج في زراعتها لكي تثمر، لا إلى مجرد الفلاحة، بل تحتاج من الجهود الشاقة إلى ما يكاد يدنو من العبودية المميتة (5) ولذلك لا يقيم الإنجليز في الهند أكثر من خمس سنوات في المرة الواحدة،، فإذا رأيت مائة ألف إنجليزي يحكمون من الهنود عدداً يكبر عددهم ثلاثة آلاف مرة فاعلم أن سبب ذلك هو أنهم لم يقيموا هناك مدة تكفي لصبغهم بصبغة الإقليم.
وتنتشر في أرجاء البلاد هنا وهناك غابات بدائية لم تزل باقية تكوّن خُمْس البلاد، ترتع فيها النمور والفهود والذئاب والثعابين، وفي الثلث الجنوبي من الهند يقع إقليم "دِكن" (1) حيث تزداد حرارة الشمس جفافاً إلا إذا لطفتها نسائم تهب عليها من البحر، لكن الحرارة هي العنصر الرئيسي السائد من دلهي إلى سيلان، تلك الحرارة التي أضعفت الأبدان، وقصرت الشباب، وأنتجت للناس هناك ديانتهم وفلسفتهم المسالمتين، فليس يخفف عنك هذه الحرارة إلا أن تجلس ساكناً، لا تعمل شيئاً، ولا ترغب في شيء، أو قد تأتي أشهر الصيف فتأتي رياحها الموسمية برطوبة منعشة ومطر مخصب من البحر، فإذا امتنعت الرياح الموسمية عن هبوبها، تضورت الهند بالجوع، وطافت بها أحلام النرفانا.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)