الانهيار - ملخص - نقد - أثرها
جاءت الفتوح الإسلامية فختمت على عصر الفلسفة الهندية؛ وأدت هجمات المسلمين- ثم هجمات المسيحيين فيما بعد- على الديانة القومية إلى انكماش هذه العقيدة القومية نفسها دفاعاً عن نفسها، فوحّدت أجزاءها، وحرّمت كل جدل في الدين، وألجمت حركة الزندقة مع أنها مصدر التجديد، بحيث لم يبق إلا اطراداً راكداً في التفكير؛ ولما جاء القرن الثاني عشر، وجد مذهب "الفيدانتا"- الذي حاول على يدي شانكارا أن يكون ديناً للفلاسفة- من يفسره من القديسين، مثل "رامانوجا" (حوالي 1050م) - تفسيراً لا يجعل فرقاً بينه وبين العبادة الأصلية القديمة لفشنو، وراما، وكرشْنا؛ ولما حرم على الفلسفة أن تفكر فكراً جديداً، لم يكفْها أن تنحدر إلى اسكولائية، بل باتت عقيماً، وجعلت تتلقى العقائد من الكهنوت، وراحت تتعب نفسها في البرهنة عليها، بحيث تبين ما بينها من مميزات للواحدة عن الأخرى دون أن تدل تلك المميزات على فروق حقيقية، مصطنعة في ذلك منطقاً بغير عقل (126).
ومع ذلك فالبراهمة قد استطاعوا في عزلتهم التي أووا إليها وتحت درع واقية اتخذوها من إلغاز عباراتهم إلغازاً لا يفهمه أحد سواهم، استطاعوا أن يصونوا المذاهب القديمة من العبث، بأن صبوها في (سُوترات) (أي حِكَم أو عبارات موجزة) غامضة، وتعليقات ملغزة؛ وبهذا نقلوا نتائج الفلسفة الهندية عبر الأجيال والقرون؛ وقد كانت كل هاتيك المذاهب، برهمية كانت أو غير برهمية، تعتبر ملكات العقل ضعيفة لا حول لها، أو خادعة إزاء حقيقة الكون التي يراها الإنسان أو يحسها رؤية وإحساساً مباشرين (1).
وكل اتجاهاتنا العقلية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، إن هي في رأي الميتافيزيقي الهندي إلا محاولة سطحية عابثة لإخضاع الكون الذي يستحيل حساب دقائقه، لتصورات سيدة رقيقة ممن يرتدن "الصالونات الأدبية"؛ "في ظلام دامس يمضي أولئك الذين يعبدون الجهل، وفي ظلام أشد دماسة يتخبط أولئك الذين يطمئنون نفساً بما لهم من علم" (129)؛ إن الفلسفة الهندية تبدأ حيث تنتهي الفلسفة الأوربية- وهو البحث في طبيعة المعرفة وفي حدود العقل؛ فهي لا تبدأ بمثل فيزيقياً "طاليس" و "ديمقريطس" ولكن بمثل نظرية المعرفة عن "لُكْ" و "كانْت"؛ والعقل عندها هو ذلك الذي ندركه إدراكا مباشراً، ولذا فهي تأبى أن تحلله إلى معلوم عرفناه بطريق غير مباشر، أي عرفناه بالعقل، وهي تسلّم بالعالم الخارجي، لأنها لا تؤمن بأن حواسنا في مقدورها أن تعرفه على حقيقته الواقعة؛ إن العلوم كلها جهل "رسميٌّ" وهو ينتمي إلى دنيا الظواهر "مايا" فهي تصوغ في ألفاظ وعبارات لا تنفك متغيرة، الجانب العقلي من عالم ليس العقل فيه إلا جزءًا يسيراً- إن العقل في هذا العالم تيار واحد متنقل في بحر ليس له حدود؛ بل إن الشخص نفسه الذي يقوم بالتدليل العقلي لا يزيد على ظاهرة "مايا" أي أنه وهم من الأوهام؛ فماذا عسى أن يكون سوى التقاء مؤقت لطائفة من حوادث، أو سوى عُقدة عابرة في مسارات المادة والعقل خلال المكان والزمان؟ - وماذا عسى أن تكون أفعاله وأفكاره سوى نتيجة لطائفة من القُوى التي سبقت بوجودها وجوده بعهد بعيد؟ ليس ثمة من حقيقة إلا براهما، ذلك المحيط الكوني الفسيح الذي لا تكون صورة أي شئ إلا بمثابة موجة عابرة فيه، أو إن شئت فقل لا تكون صورة الشيء إلا نقطة زَبَدِ على موجة من موجاته؛ فليست الفضيلة هي ما في أعمال الخير من بطولة صامتة، كلا ولا هي نشوة من التقوى ينتشيها من يوصف بها؛ بل هي مجرد الاعتراف بوحدة النفي مع كل نفس أخرى في حقيقة واحدة هي براهما؛ والحياة الخلقية إن هي إلا ضرب من الحياة يكون أساسه الشعور بما بين الأشياء كلها من اتحاد (1)، "إن من يدرك كل الكائنات في نفسه، ويدرك نفسه في كل الكائنات، لن يصيبه شئ من القلق بعدئذ، إذ كيف يمكن أن يصاحبه بعد ذلك وهم أو أسى؟ " (130).
إن ما حال دون أن توسع هذه الفلسفة نطاقها بحيث تؤثر في المدنيات الأخرى، هو بعض الخصائص المميزة لها، التي لا يرى الهندي من وجهة نظرة شيئاً يعاب؛ فمنهجها، واصطلاحاتها الاسكولائية ومزاعمها الفيدية تحول بينها وبين أن تجد إقبالاً في أمم لها مزاعم أخرى، أو تثقفت بثقافات أكثر اتصالاً بهذا العالم الذي تعيش فيه؛ فمذهبها الخاص "بالمايا"- أي الظواهر- لا يبعث إلا قليلاً على الحياة الخلقية وفعل الفضيلة، وتشاؤمها هو بمثابة الاعتراف منها بأنها لم تفسر الشر، على الرغم من نظرية "الكارما" التي تحتوي عليها؛ وقد كان بعض تأثير هذه المذاهب الفلسفية، أن تزيد في حمل الناس على السكينة الهامدة في وجه الشرور التي كان يمكن عقلاً أن تصحح، أو إزاء عمل كان كأنما يصيح منادياً لعله يجد من يؤديه؛ ومع ذلك ففي هذه التأملات عمق، إذا ما قارنته بالفلسفات التي تحض على النشاط، والتي نشأت في مناطق أبعث على الفاعلية، أقول إن في هذه الفلسفات عمقاً يصبغ الفلسفات الأخرى الباعثة على النشاط، بلون التفاهة؛ فيجوز أن تكون مذاهبنا الغربية التي وثقت وثوقاً شديداً بأن "المعرفة قوة" بمثابة أصوات شباب مضى، كان فيه شهوة تضخم له الطبيعة قدرة الإنسان ومستطاعه حتى إذا ما أنهكت قوانا في كفاحنا اليومي ضد الطبيعة التي لا تعبأ بنا، والزمن الذي يناصبنا العداء، ازددنا عندئذ رحابة صدر حين ننظر إلى الفلسفات الشرقية التي توصي بالاستسلام والسلام؛ ومن ثم كان أثر الفكر الهندي على الثقافات الأخرى أشد ما يكون، في العهود التي تتعرض فيها تلك الثقافات لعوامل الضعف والانهيار؛ فلما كانت اليونان تحرز نصراً بعد نصر، لم تصرف إلا قليلاً من سمعها لما يقوله فيثاغورس أو بارمنيدس؛ ثم لما أخذت اليونان في التدهور، ذهب أفلاطون وذهب معه الكهنة الأورفيون مذهب تناسخ الأرواح، وطفق زينون الشرقي يبشر بما أوشك أن يكون استسلاماً للقضاء والقدر، وتسليماً للدهر وصروفه؛ ولما كانت اليونان تحتضر، ارتاد أنصار الأفلاطونية الجديدة والغنوسطيون (الذين يأخذون بإمكان معرفة الله) حياض الهند يعبون من أعماقها؛ والظاهر أن ما أصاب أوروبا من فقر بسقوط روما وفتوح المسلمين للطرق الموصلة بين أوروبا والهند، قد كان حجر عثرة مدى ألف عام، يعرقل تبادل الأفكار بين الشرق والغرب تبادلاً مباشراً؛ لكن لم يكد البريطانيون يثبتون أقدامهم في الهند حتى جعلت كتب اليوبانشاد تحرك الفكر الغربي بإعادة نشرها، أو بترجمتها؛ فتصور فخته مذهباً مثالياً على شبه شديد بمثالية شانكارا (132) وأوشك شوبنهور أن يدخل في فلسفته مذاهب البوذية واليوبانشاد والفيدانتا، إدخالاً يجعلها جزءاً من فلسفته لا يتجزأ؛ وكانت اليوبانشاد في رأي شلنج وهو في شيخوخته أنضج ما وصل إليه الإنسان من حكمة؛ أما نيتشه فقد خالط بسمارك واليونان أمداً أطول من أن يتيح له الفرصة للعناية بثقافة الهند، ومع ذلك فقد اعتنق آخر الأمر فكرة آثرها على كل فكرة سواها، وهي فكرة ظلت متشبثة بعقله لا تبرحه إلا وهي فكرة دورة الحياة دورة أبدية تظل فيها تعيد ما مضى من مراحل- وما تلك الفكرة إلا صورة من مذهب عودة الروح إلى التقمص في أجساد كثيرة.
إن أوروبا في عصرنا هذا تزداد أخذاً من فلسفة الشرق (1) كما يزداد الشرق أخذاً من علوم الغرب؛ ويجوز أن تنشأ حرب عالمية أخرى فتفتح أبواب أوروبا (كما انفتحت اليونان عند تحطم إمبراطورية الإسكندر، وكما انفتحت روما عند سقوط الجمهورية الرومانية) بحيث تتدفق فيها فلسفات الشرق وعقائده؛ فثورة الشرق على الغرب ثورة متزايدة، وفقدان الأسواق الآسيوية التي كان من شأنها أن تقيم صناعة الغرب وازدهاره، وضعف أوروبا لما يصيبها من فقر وانقسام وثورة، كل ذلك قد يجعل من هذه القارة المنقسمة على بعضها غنيمة سهلة لديانة جديدة تجعل الناس يعقدون رجاءهم في السماء، ويفقدون الأمل في الأرض؛ ويجوز جداً أن يكون الهوى وحده هو الذي يجعل مثل هذا المصير مستحيلاً في رأي الناس في أمريكا، لأن السكينة والاستسلام لا تتلاءم مع الجو الكهربائي الذي نعيش فيه، أو مع الحيوية التي تنشئ عن مصادر الثروة الغزيرة والأرض الفسيحة الأرجاء؛ ولا شك في أن مناخنا سيكون لنا في نهاية الأمر درعاً واقية.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)