المنشورات

لغات الهند

السنسكريتية - اللهجات القومية - النحو
كما أن الفلسفة وكثيراً من الأدب في أوربا الوسيطة كانا يكتبان بلغة ميتة لا يفهمها الشعب، فكذلك كانت الفلسفة والأدب الكلاسيكي في الهند يكتبان بسنسكريتية كانت قد أهملت بين الناس كأداة للتفاهم منذ زمن طويل، لكنها عاشت لتكون لغة للعلماء الذين لا تربطهم لغة مشتركة أخرى، كأنها في ذلك لغة "الإسبرنتو" (التي يحاولون صناعتها لتكون أداة تفاهم بين الشعوب المختلفة الآن).
ولما كانت هذه اللغة الأدبية بعيدة عن الاتصال بحياة الأمة؛ فقد أصبحت نموذجاً يحتذيه من أراد أن يكون اسكولائيَّ التفكير أو مهذب اللسان؛ وكانت الكلمات الجديدة تصاغ - لا بخلق تلقائي يصدر من عامة الناس - بل تبعاً لحاجة المدارس في بحوثها الفنية؛ حتى انتهى الأمر بالسنسكريتية التي كتبت بها الفلسفة إلى فقدانها للبساطة القوية التي تلمسها في الترانيم الفيدية، وأصبحت أفعواناً صناعياً تزحف كلماتها على الصفحات زحفاً كأنها شرائط الدود (1). 

ولكن عامة الناس في الوقت نفسه كانوا - في شمال الهند حول القرن الخامس قبل الميلاد - قد حوروا السنسكريتية إلى براكريتية، وما أشبه ذلك بإيطاليا حين غيرت اللاتينية إلى الإيطالية فأصبحت اللغة البراكريتية حيناً من الدهر لغة البوذية والجانتية، ولبثت كذلك حتى تطورت بدورها إلى الباليّة - وهي اللغة التي كتب بها أقدم ما هبط إلينا من الأدب البوذي (2)؛ فلما أن كان ختام القرن العاشر من تاريخنا المسيحي، كان قد تولد عن هذه اللغات التي شهدتها "الهند الوسيطة" لهجات مختلفة كان أهمها اللغة "الهندية" ثم ولّدت هذه بدورها في القرن الثاني عشر اللغة الهندستانية التي باتت لغة النصف الشمالي من الهند؛ وأخيراً جاء الغزاة المسلمون وملئوا الهندستانية بألفاظ فارسية فكوّنوا بذلك لهجة جديدة هي الأردية؛ وهذه كلها لغات "هندية جرمانية" انحصرت في الهندستان؛ أما الدكن فقد احتفظت بلغتها الدرافيدية القديمة وهي: لغات "تامِلْ" و "تلوجو" و "كاناريس" و "وملايالام" وأصبحت لغة "تامِل" من بينها هي الأداة الأدبية الرئيسية في الجنوب؛ ولما كان القرن التاسع عشر حلّت الباليّة محل السنسكريتية لغة أدبية في البنغال، وكان الكاتب القصصي ("شاترجي" لهذه اللغة بمثابة "بوكاتشو" للإيطالية الحديثة) كما كان لها الشاعر طاغور بمثابة "بترارك"؛ وإنك لترى مائة لغة في الهند حتى في يومنا هذا على أن أدب الحركة الاستقلالية يستخدم لغة الفاتحين أداة للتعبير.
ولقد أخذت الهند منذ تاريخ عريق في القدم تتعقب جذور الألفاظ وتاريخها وعلاقاتها وتركيبها، ولم يظللها القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت قد اصطنعت لنفسها (1) علم النحو، وأنجبت من يجوز أن يكون أعظم النحاة جميعاً ممن نعرف وهو بانيني؛ وكانت دراسات بانيني، وباتايخالي (حوالي 150 م) وبهارْتريهاري (حوالي 650م) هي الأسس التي قام عليها علم اللغات؛ كما أن هذا العلم الشائق الذي يبحث في ولادة الألفاظ اللغوية، مدين بكل حياته تقريباً في العصور الحديثة لإعادة كشف الغطاء عن السنسكريتية.
ولم تكن الكتابة - كما رأينا - شائعة في الهند الفيدية، فحوالي القرن الخامس قبل الميلاد، اقتبست الكتابة الخاروسثية من أصول سامية، وبدأنا نسمع عن كاتبين في أدب الملاحم وفي الأدب البوذي (3)، وكانت أوراق النخيل ولحاء الشجر يستخدمان أداة للكتابة كما كان القلم شبيه بمسمار من الحديد؛ وكانوا يدبغون لحاء الشجر دبغاً يجعله أصلب ديباجه، ثم يحفرون عليه الأحرف بالقلم، ويلطخون اللحاء بالحبر فيبقى في فجوات الحروف المحفورة ثم تمحى بقيته (4) ولما جاء المسلمون أدخلوا معهم الورق (حوالي 1000م) لكن الورق لم يحل محل اللحاء تماماً إلا في القرن السابع عشر، وكانوا ينفذون خيطاً سميكاً في صفحات اللحاء لتربطها معاً على الترتيب المطلوب، على أن تجمع الكتب المكونة من أمثال هذه الصفحات في مكتبات أطلق الهنود عليها اسم "خزائن إلهة الكلام" وقد بقيت لنا مجموعات ضخمة من هذا الأدب الخشبي على الرغم مما تعاورها من تدميرات الزمن والحروب (1). 










مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید