المنشورات

ملاحم الهند

"الماهابهاراتا" - قصتها - قالبها - "البهاجافاد - جيتا" -
ميتافيزيقا الحرب - ثمن الحرية - "الرامايانا" ترنيمة الغابة-
اغتصاب سيتا - الملاحم الهندية والملاحم اليونانية
لم تكن المدارس والجامعات إلا جزءاً من النظام التعليمي في الهند؛ فلما كانت الكتابة أقل قيمة هناك منها في سائر المدنيات، وكان التعليم الشفوي هو وسيلة الاحتفاظ بتاريخ الأمة وشعرها، ووسيلة نشرها في الناس، فقد نشرت الرواية الشفوية العلنية بين الناس أنفَس ما في تراثهم الثقافي من أجزاء؛ فكما قام رواة مجهولون بين اليونان بنقل الإلياذة والأوذيسية، وتوسيعها على مر الأجيال، كذلك فعل الرواة والخطباء في الهند بنقل الملاحم من جيل إلى جيل، ومن بلاط السلطان إلى عامة الشعب، تلك الملاحم التي ركز فيها البراهمة أساطيرهم الشعبية.
وفي رأي عالم هندي أن "الماهابهاراتا" هي (أعظم آية من آيات الخيال التي أنتجتها آسيا) (20) وقال عنها سير تشارلز إلْيَتْ إنها: (قصيدة أعظم من الإلياذة) (21) ولا ارتياب في صدق هذا الحكم الأخير بمعنى من معانيه؛ بدأت الماهابهاراتا (حوالي سنة 500 ق. م) قصيدة قصصية قصيرة، لا يتجاوز طولها حداً معقول، ثم أخذت تضيف إلى نفسها في كل قرن من القرون المتعاقبة حكايات ومقطوعات، وامتصت في جسمها قصيدة (بهاجافادجيتا) كما ضمت بعض أجزاء من قصة راما، حتى بلغ طولها في نهاية الأمر 000ر107زوج من أبيات الشعر الثمانية المقاطع - أي ما يساوي الإلياذة والأوذيسية مجتمعين سبع مرات واسم مؤلفها أسطوري، إذ ينسبها الرواة لمن يسمونه (فياسا) وهي كلمة معناها "المنظم" (22) فقد كتبها مائة شاعر، وصاغها ألف منشد، ثم جاء البراهمة في عهد ملوك جوبتا (حوالي 400 م) فصبوا أفكارهم الدينية والخلقية في هذا المؤلف الذي بدأ على أيدي أفراد من طبقة الكشاترية؛ وبهذا خلعوا على القصيدة تلك الصورة الجبارة التي نراها عليها اليوم.
لم يكن موضوع القصيدة الأساسي مقصوداً به الإرشاد الديني بمعنى الكلمة الدقيق، لأنها تقص قصة عنف ومقامرة وحروب، فيقدم الجزء الأول من القصيدة "شاكونتالا" الجميلة (التي أريد لها أن تكون بطلة في أشهر مسرحية هندية) وابنها القوي (بهارفا)؛ الذي من أصلابه جاءت قبائل (بهاراتا العظيم) (أي الماهابهاراتا) وقبائل كورو وباندافا التي تتألف من حروبها الدموية سلسلة الحكاية ولو أنه كثيراً ما تخرج الحكاية عن موضوعها لتعرج على موضوعات أخرى؛ فالملك "يوذسشيرا" - ملك البندافيين - يقامر بثروته حتى تضيع كلها، ثم بجيشه وبمملكته وبإخوته وأخيراً بزوجته "دراوبادي" وكان في هذه المقامرة يلاعب عدواً له من قبيلة كورو، كان يلعب بزهرات مغشوشة، وتم الاتفاق على أن يسترد الباندافيون مملكتهم بعد اثني عشر عاماً يتحملون فيها النفي من أرض وطنهم وتمضي الاثنا عشر عاماً، ويطالب الباندافيون أعداءهم الكوريين برد أرضهم، لكن لا جواب، فتعلن الحرب بين الفريقين ويضيف كل فريق إلى نفسه حلفاء حتى تشتبك الهند الشمالية كلها تقريباً في القتال (1) وتظل الحرب ناشبة ثمانية عشر يوماً، وتملأ من الملحمة خمسة أجزاء، وفيها يلاقي الكوريون جميعا مناياهم، كما يقتل معظم الباندافيين فالبطل (بهشما) وحده يقتل مائة ألف رجل في عشرة أيام، ويروي لنا الشاعر الإحصائي أن عدد من سقط في القتال قد بلغ عدة مئات من ملايين الرجال (23)؛ وتسمع "جانذاري"- الملكة زوجة ملك كورو الأعمى واسمه "ذريتا راشترا" - تسمعها وسط هذا المشهد الدامي المترع بمناظر الموت، تصرخ جازعة عندما تبصر العقبان محومة في لهفة الشره فوق جثة ابنها الأمير "درْيوذان":
ملكة طاهرة وامرأةٌ طاهرة، فاضلة أبداً خيِّرةٌ أبداً

هي "جانذارا" التي وقفت وسط الميدان شامخة في حزنها العميق

والميدان مليء بالجماجم، وجدائل الشعر انعقدت عليها الدماء،

وقد اسود وجهه بأنهار من دم متجمد؛

والميدان الأحمر مليء بأطراف من لا يحصيهم العد من المقاتلين ...

وعواء أبناء آوي الطويل المديد يرن فوق منبطح الأشلاء

والعُقاب والغراب الأسحم يرفرفان أجنحة كريهة سوداء

وسباع الطير تملأ السماء طاعمة من دماء المحاربين

وجماعات الوحش البغيضة تمزق الأجساد الملقاة شلوا شلوا

سيق الملك الكهل في هذه الساحة، ساحة الأشلاء والموت

ونساء كورو بخطوات مرتعشة خطون وسط أكداس القتلى

فدوت في أرجاء المكان صرخات عالية من جزع

عندما رأين القتلى أبنائهن وآبائهن وأخوتهن وأزواجهن

عندما رأين ذئاب الغابة تطعم بما هيأ لها القدر من فرائس

عندما رأين جوَّابات الليل السود ساعيات في ضوء النهار

ورنت أرجاء الميدان المخيف بصرخات الألم وولولة الجزع

فخارت منهن الأقدام الضعيفة، وسقطن على الأرض

وفقد أولئك الراثيات كلَّ حسٍّ وكل حياة، إذ هن في إغماءة من حزن مشترك. 

ألا إن الإغماءة الشبيهة بالموت، التي تعقب الحزن، فيها لحظة قصيرة من راحة للمحزون.

ثم انبعثت من صدر "جانذاري" آهةٌ عميقة من قلب مكروب ونظرت إلى بناتها المحزونات،

وخاطبت كرِشنا قائلة:

"انظري إلى بناتي اللائي ليس لهن عزاء، انظري إليهن وهن ملكاتٌ أرامل لبيت كورو.

انظري إليهن باكيات على أعزائهن الراحلين، كما تبكي إناث النسور ما فقدت من نسور

انظري كيف يثير في قلوبهن حب المرأة كلُّ قَسْمة من هاتيك القسمات الباردة الذاوية

انظري كيف يجبن بخطوات قلقة وسط أحساد المقاتلين وقد أخمدها الموت

وكيف تضم الأمهات قتلى أبنائهن إذ هم في نومهم لا يشعرون

وكيف تنثني الأرامل على أزواجهن فيبكين في حزن لا ينقطع ...

هكذا جاءت الملكة "جانذاري" لتبلّغ "كرِشْنا" حزين أفكارها؛

وعندئذ - واحسرتاه - وقع بصرها الحائر على ابنها "درْيوذان"

فأكل صدرها غمٌّ مفاجئ، وكما زاغت حواسُّها عن مقاصدها

كأنها شجرة هزتها العاصفة، فسقطت لا تحس الأرض التي سقطت عليها؛

ثم صحت في أساها من جديد، وأرسلت بصرها من جديد

إلى حيث رقد ابنها مخضباً بدمائه يلتحف السماء 

وضمت عزيزها درْيوذان، ضمته قريباً من صدرها

وإذ هي تضم جثمانه الهامد اهتز صدرها بنهنهة البكاء

وانهمرت دموعها كأنها مطر الصيف، فغسلت به رأس النبيل

الذي لم يزل مزدانا بأكاليله، لم يزل تكلله أزاهير المشكا ناصعة حمراء

"لقد قال لي ابني العزيز درْيوذان حين ذهب إلى القتال، قال:

"أماه ادْعي لي بالغبطة وبالنصر إذا ما اعتليت عجلة المعمعة"

فأجبت: عزيزي درْيوذان: "اللهم - يا بني - اصرف عنه الأذى ألا إن النصر آت دائماً في ذيل الفضيلة"

ثم انصرف بقلبه كله إلى المعركة، ومحا بشجاعته كلَّ خطاياه

وهو الآن يسكن أقطار السماء حيث ينتصر المحارب الأمين

ولست الآن أبكي دريوذان، فقد حارب أميراً ومات أميراً

إنما أبكي زوجي الذي هده الحزن، فمن يدري ماذا هو ملاقيه من نكبات؟

"اسمع الصيحة الكريهة يبعثها أبناء آوي، وأنظر كيف يرقب الذئاب الفريسة -

وأرادت العذارى الفاتنات بما لهن من غِناء وجمال أن يحرسنه في رقدته،

اسمع هاتيك العقبان البغيضة المخضبة مناقيرها بالدماء، تصفق بأجنحتها على أجسام الموتى -

والعذارى يلوحن بمراوح الريش حول درْيوذان في مخدعه الملكي

انظر إلى أرملة درْيوذان النبيلة، الأم الفخورة بابنها الباسل لاكشمان

إنها في جلال الملكة شباباً وجمالاً، كأنها قُدّتْ من ذهب خالص

انتزعوها من أحضان زوجها الحلوة، ومن ذراعي ابنها يطوقانها

كتب عليها أن تقضي حياتها كاسفة حزينة، رغم شبابها وفتنتها 

ألا مزق اللهم قلبي الصلب المتحجر، واسحقه بهذا الألم المرير

هل تعيش "جانذاري" لتشهد ابنها وحفيدها النبيلين مقتولين؟

وانظر مرة أخرى إلى أرملة درْيوذان، كيف تحتضن رأسه الملطخ بدمه الخاثر

انظر كيف تمسك به على سريره في رفق بيدين رقيقتين رحيمتين

انظر كيف تدير بصرها من زوجها العزيز الراحل إلى ابنها الحبيب

فتختنق عبرات الأم فيها أنّةَ الأرملة وهي أنَّةٌ مريرة

وإن جسدها لذهبي رقيق كأنه من زهرة اللوتس

أواه يا زهرتي، أواه يا ابنتي، يا فخر "بهارات" ويا عز "كورو"

ألا إن صدقتْ كتب الفيدا، "فدريوذان" الباسل حي في السماء

ففيم بقاؤنا على هذا الحزن، لا ننعم بحبه العزيز؟

إن صدقت آيات "الشاسترا" فابني البطل مقيم في السماء

ففيم بقاؤنا في حزن مادام واجبهما الأرضي قد تأدَّى.

فالموضوع موضوع حب وحرب، لكن آلاف الإضافات زيدت عليه في شتى مواضعه؛ فالإله "كرشنا" يوقف مجرى القتال حيناً بقصيدة منه يتحدث فيها عن شرف الحرب و "كرِشنا" و "بهشْما" وهو يحتضر، يؤجل موته قليلاً حتى يدافع عن قوانين الطبقات والميراث والزواج والمِنَح وطقوس الجنائز، ويشرح فلسفة كتب "السانخيا" و "يوبانشاد" ويروي طائفة من الأساطير والأحاديث المنقولة والخرافات، ويلقي درساً مفصلاً على "يودشثيرا" في واجبات الملك؛ كذلك ترى أجزاء مُعْفَرَّة جدباء في سياق الملحمة تقص شيئاً عن الأنساب وعن جغرافية البلاد وعن اللاهوت والميتافيزيقا، فتفصل بين ما في الملحمة من رياض نضرة فيها أدب مسرحيٌّ وحركة، وفي ملحمة "الماهابهاراتا" حكاية جامحة الخيال، وقصص خرافية، وغرامية، وتراجم للقديسين، فيتعاون كل هذا على جعل الملحمة أقل قيمة في صورتها الفنية، وأخصب فكراً، من الإلياذة أو الأوذيسية؛ فهذه القصيدة التي كانت في بادئ أمرها معبرة عن طبقة الكشاترية (المحاربين) من حيث تبجيلها للحركة والنشاط والبطولة والقتال، قد أصبحت على أيدي البراهمة أداة لتعليم الناس قوانين "مانو" ومبادئ "اليوجا" وقواعد الأخلاق وجمال النرفانا؛ وترى "القاعدة الذهبية" معبَّراً عنها في صور كثيرة (1) وتكثر في القصيدة الحِكَم الخلقية ذات الجمال وصدق النظر (2) وفيها قصص جميلة عن الوفاء الزوجي ("نالا" و "دامايانتي" و "سافترْي") تصور للنساء اللائي يستمعن لها، المثل العليا البرهمية للزوجة الوفية الصابرة.
وفي غضون الرواية عن هذه المعركة الكبرى، بُثت قصيدة هي أسمى قصيدة فلسفية يعرفها الشعر العالمي جميعاً، وهي المسماة "بهاجافاد - جيتا" ومعناها (أنشودة المولى)، وهي بمثابة "العهد الجديد" في الهند، يبجلونها بعد كتب الفيدا نفسها، ثم يستعملونها لحلف الأيمان في المحاكم كما يستعمل الإنجيل أو القرآن (28)؛ ويقرر "ولهلم فون همبولت" أنها "أجمل أنشودة فلسفية موجودة في أي لغة من اللغات المعروفة، وربما كانت الأنشودة الوحيدة الصادقة في معناها ... ويجوز أن تكون أعمق وأسمى ما يستطيع العالم كله أن يبديه من آيات" (29)؛ وقد هبطت إلينا "الجيتا" بغير اسم ناظمها أو تاريخ نظمها، وهي في ذلك تشاطر سائر ما للهند من آيات الإبداع في الجهل بأصحابها، وعلة ذلك أن الهند لا تعنى بما هو فرديّ أو جزئيّ؛ وربما يرجع تاريخها إلى سنة 400 ق. م (30) أو ربما كانت أحدث من ذلك بحيث ترجع إلى سنة 200 م (31).
ومشهد القصيدة هو المعركة التي نشبت بين الكوريين والباندافيين؛ والموقف الذي قيلت فيه هو ما أبداه "أرجونا" المحارب الباندافي من رغبة عن قتال ذوي قرباه في صفوف الأعداء قتالاً مميتاً؛ فاسمع "أرجونا" وهو يوجّه الخطاب إلى "المولى كرشنا" الذي كان يحارب إلى جواره كأنه إله من آلهة هومر، لترى كيف يعبر بخطابه عن فلسفة غاندي والمسيح:
"إن الأمر كما أراه هو أن هذا الحشد من ذوي قربانا

قد تجمع هاهنا ليسفك دماً مشتركاً بيننا؛

ألا إن جسدي ليخور وَهَناً، ولساني يجف في فمي ...

ليس هذا من الخير يا "كِشاف"! يستحيل أن ينشأ خير

من فريقين يفتك كل منهما بالآخر! انظر،

إنني أمقت النصر والسيادة، وأكره الثروة والترف

إن كان كسبهما عن هذا الطريق المحزن! وا أسفاه،

أي نصر يسرّ يا "جوفندا" وأي الغنائم النفيسة ينفع،

وأي سيادة تعوض، وأي أمد من الحياة نفسها يحلو،

إن كان شيء من هذا كله قد اشتريناه بمثل هذه الدماء؟ ...

فإذا ما قتلنا

أقرباءنا وأصدقاءنا حباً في قوة دنيوية

فيالها من غلطة تنضح شراً!

إنه لخير في رأيي، إذا ما ضرب أهلي ضربتهم،

أن أواجههم أعزل من السلاح، وأن أعَرّي لهم صدري، 

فيتلقى منهم الرماح والسهام، ذلك في رأي خير من مبادلتهم ضربة بضربة).

وهاهنا يأخذ "كرشنا"- الذي تحمل ربوبيته على الحد من نشوته بالمعركة- في بسط وجهة نظره واثقاً من صحة ما يقول ثقة استمدها من كونه ابن فشنو، وهي أن الكتب المنزلة، والرأي عند خيرة الراسخين في العلم، هو أنه من الخير والعدل أن يقتل الإنسان ذوي قرباه في الحرب؛ وأن واجب "أرجونا" هو أن يتبع قواعد طبقته الكشاترية، وأن يقاتل ويقتل أعداءه بضمير خالص وإرادة طيبة، لأنه على كل حال لا يقتل إلا الجسد، وأما الروح فباقية؛ وهنا تراه يشرح ما جاء في "سانخيا" عن "بوروشا" التي لا يأتيها العطب، وما جاء في "يوبانشاد " عن "أتمان" التي لا تفنى:
"اعلم أن الحياة لا تفنى، فتظل تبثّ حياةً في الكون كله؛

يستحيل على الحياة في أي مكان، وبأية وسيلة،

أن يصيبها نقص بأي وجه من الوجوه، ولا أن يصيبها خمود أو تغير

أما هذه الهياكل الجسدية العابرة، التي تبث فيها الحياة

روحاً لا تموت ولا تنتهي ولا تحدها الحدود -

ففانية؛ فدعها- أيها الأمير- تَفْنَ، وامض في قتالك!

إن من يقول: "انظر، لقد قتلت إنساناً! "

وإن من يظن لنفسه: "هاأنذا قد قُتِلْت! "

فكلا هذين لا يعلم شيئاً؛ إن الحياة لا تَقْتل

وإن الحياة لا تُقْتل! إن الروح لم تولد قط، ولن تفنى

إن الزمان لم يشهد لحظة خلت من الروح، إن النهاية والبداية أحلام!

إن الروح باقية إلى الأبد بغير مولد وبغير موت وبلا تغير 

إن الموت لم يمسسها قط، وإن خيل لنا أن وعائها الجسدي قد مات"

ويمضي "كرشنا" في إرشاد "أرجونا" في الميتافيزيقا، مازجاً في تعليمه كتاب "سانخيا" بكتاب "فيدانتا" بحيث يحصل منهما على مركب فريد يقبله أنصار مذهب "فايشنافيت"؛ فهو يقول عن الأشياء كلها، موحداً بين ذاته والكائن الأسمى، يقول عن الأشياء كلها إنها:
"تتعلق بي

كما تتعلق مجموعة من الخرزات على الخيط؛

أنا من الماء طعمه العذب

وأنا من القمر فضته ومن الشمس ذهبها؛

أنا موضع العبادة في الفيدا، والهزة التي

تشق أجواز الأثير، والقوة

التي تكمن في نطفة الرجل؛ أنا الرائحة الطيبة الحلوة

التي تعبق من الأرض البليلة؟ وأنا من النار وهجها الأحمر

وأنا الهواء باعث الحياة، يتحرك في كل ما هو متحرك

أنا القدسية فيما هو مقدس من الأرواح، أنا الجذر

الذي لا يذوي، والذي انبثق منه كل ما هو كائن،

أنا حكمة الحكيم، وذكاء

العليم، وعظمة العظيم،

وفخامة الفخيم ...

إن من يرى الأشياء رؤية الحكيم،

يرى أن براهما بما له من كتب وقداسة،

والبقرة، والفيل، والكلب النجس، 

والمنبوذ وهو يلتهم لحم الكلب، كلها كائن واحد"

هذه قصيدة زاخرة بألوانها المتباينة ومتناقضاتها الميتافيزيقية والخلقية التي تصور أضداد الحياة وتعقيدها؛ وإنه ليأخذنا شئ من الدهشة أن نرى الإنسان متمسكاً بما يبدو لنا موقفاً أسمى من الوجهة الخلقية، بينما الإله يدافع عن الحرب والقتل، معتمدا على أساس متهافت وهو أن الحياة غير قابلة للقتل، والفردية وَهْم لا حقيقة فيه؛ ولعل ما أراد المؤلف أن يحققه بقصيدته هو أن ينقذ الروح الهندية من الهمود المميت الذي فرضته العقيدة البوذية، وأن يوقظها لتحارب من أجل الهند؛ فهي بمثابة ثورة رجل من الكشاترية أحسّ أن الدين يوهن أمته، وارتأى في زهو أن هنالك أشياء كثيرة أنفَس من السلام؛ وقبل كل شئ كانت هذه القصيدة درساً لو حفظته الهند لجاز أن يصون لها حريتها.
وأما ثانية الملاحم الهندية فهي أشهر الأسفار الهندية وأحبها إلى النفوس (35) وهي أقرب إلى أفهام الغربيين من "الماهابهاراتا"؛ وأعني بها "رامايانا"، وهي أقصر من زميلتها الأولى، إذ لا يزيد طولها على ألف صفحة قوام الصفحة منها ثمانية وأربعون سطراً؛ وعلى الرغم من أنها كذلك أخذت تزداد بالإضافات من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد، فإن تلك الإضافات فيها أقل عدداً مما في زميلتها، ولا تهوش الموضوع الأصلي كثيراً؛ ويعزو الرواة هذه القصيدة إلى رجل يسمى "فالميكي"، وهو كنظيره المؤلف المزعوم للملحمة الأخرى الأكبر منها، يظهر في الحكاية شخصية من شخصياتها ولكن الأرجح أن القصيدة من إنشاء عدد كبير من المنشدين العابرين، أمثال أولئك الذين لا يزالون ينشدون هاتين الملحمتين، وقد يظلون يتابعون إنشادهما تسعين ليلة متعاقبة، على مستمعين مأخوذين بما فيها من سحر (36).
وكما أن "الماهابهاراتا" تشبه "الإلياذة" في كونها قصة حرب عظيمة أنشبتها الآلهة والناس، وكان بعض أسبابها استلاب أمة لامرأة جميلة من أمة أخرى؛ فكذلك تشبه "رامايانا" "الأوذيسية" وتقصّ عما لاقاه أحد الأبطال من صعاب وأسفار، وعن انتظار زوجته صابرة حتى يعود إليها فيلتئم شملها من جديد (37)، وترى في فاتحة الملحمة صورة لعصر ذهبي، كان فيه "دازا- راذا" يحكم مملكته "كوسالا" (وهي ما يسمى الآن أوذا) من عاصمته "أيوذيا":
مزداناً بما تزدان به الملوك من كرامة وبسالة، وزاخراً بترانيم الفيدا المقدسة

أخذ (دازا- راذا) يحكم ملكه في أيام الماضي السعيد ...

إذ عاش الشعب التقيُّ مسالماً، كثير المال رفيع المقام

لا يأكل الحسد قلوبهم؛ ولا يعرفون الكذب فيما ينطقون؛

فالآباء بأسْراتهم السعيدة يملكون ما لديهم من ماشية وغلة وذهب

ولم يكن للفقر المدقع والمجاعة في (أيوذيا) مقام.

وكان على مقربة من تلك البلاد مملكة أخرى سعيدة هي "فيديها" التي كان يحكمها الملك "جاناك"، وقد كان هذا الملك "يسوق المحراث ويحرث الأرض" بنفسه، فهو في ذلك شبيه ببطل اسمه "سِنْسِناتَسْ"؛ وحدث ذات يوم أنه لم يكد يلمس المحراث بيده، حتى انبثقت من مجرى المحراث في الأرض ابنة جميلة، هي " سيتا "، وما أسرع ما حان حين زواجها، فعقد "جاناك" مباراة بين خطّابها، فمن استطاع منهم أن يقوم اعوجاج قوس "جاناك" الذي يقاتل به، كانت العروس نصيبه؛ وجاء إلى المباراة أكبر أبناء "دازا- راذا" وهو "راما": "صدره كصدر الليث، وذراعاه قويتان، وعيناه ذهبيتان، مهيب كفيل الغابة، وقد عقد على ناصيته من شَعْره تاجاً" (39) ولم يستطع أن يلوي القوس إلا "راما" فقدم إليه "جاناك" ابنته بالصيغة المعروفة في مراسم الزواج في الهند: 

هذه سيتا ابنة جاناك وهي أعز عليه من الحياة

فلتقاسمك منذ الآن فضيلتك، ولتكن أيها الأمير زوجتك الوفية

هي لك في كل بلد، تشاركك عزاً وبؤساً

فأعِزَّها في سرّائك وضرّائك، واقبض على يدها بيدك

والزوجة الوفية لمولاها كالظل يتبع الجسد

وابنتي سيتا- زين النساء- تابعتك في الموت والحياة

وهكذا يعود "راما" إلى بلده "أيوذيا" بعروسه الأميرة-: "جبين من عاج، وشفة من المرجان، وأسنان تسطع بلمعة اللآلئ"- وقد كسب حب أهل كوسالا بتقواه ووداعته وسخائه؛ وما هو إلا أن دخل الشر هذه الفردوس حين دخلتها الزوجة الثانية "لدازا- راذا" وهي "كايكيي"؛ وقد وعدها "دازا- راذا" أن يجيبها إلى طلبها كائناً ما كان؛ فحملتها الغيرة من الزوجة الأولى التي أنجبت "راما" ولياً للعهد، أن تطلب من "دازا- راذا" نفي "راما" من المملكة أربعة عشر عاماً؛ فلم يسع "دازا- راذا" إلا أن يكون عند وعده، مدفوعاً إلى ذلك بشرف لا يفهم معناه إلا شاعر لم يعرف شيئاً من السياسة؛ ونفى ابنه الحبيب، بقلب كسير؛ ويعفو "راما" عن أبيه عفو الكريم، ويأخذ الأهبة للرحيل إلى الغابة حيث يقيم وحيداً؛ لكن "سيتا" تصر على الذهاب معه، وكلامها في هذا الموقف تكاد تحفظه عن ظهر قلب كل عروس هندية، إذ قالت:
"العربة والخيل المطهمة والقصر المذهّب، كلها عبث في حياة المرأة

فالزوجة الحبيبة المحبة تؤثر على كل هذا ظلّ زوجها ...

إن "سيتا" ستهيم في الغابة، فذلك عندها أسعدُ مقاماً من قصور أبيها

إنها لن تفكر لحظة في بيتها أو في أهلها، ما دامت ناعمة في حب زوجها ... 

وستجمع الثمار الحوشية من الغابة اليانعة العبقة

فطعام (يذوقه "راما" هو أحب طعام عند "سيتا")

حتى أخوه "لاكشمان" يستأذن في الرحيل ليصحب "راما" فيقول:
"ستسلك طريقك المظلم وحيداً مع "سيتا" الوديعة،

هلاّ أذنت لأخيك الوفيّ "لاكشمان" بحمايتها ليلاً ونهاراً،

هلاّ أذنت "للاكشمان" بقوسه ورمحه أن يجوب الغابات جميعاً

فيسقط بفأسه أشجارها، ويبني لك الدار بيديه؟ ".

وعند هذا الموضع تصبح الملحمة نشيداً من أنشاد الغابات، إذ تقصّ كيف ارتحل "راما" و "سيتا" و "لاكشمان" إلى الغابات، وكيف سافر معهم عامر "أيوذيا" جميعاً طوال اليوم الأول، حزناً عليهم؛ وكيف يتسلل المنفيّون من أصحابهم الودودين خلسة في ظلمة الليل، مخلّفين وراءهم كل نفائسهم وثيابهم الفاخرة، وارتدوا لحاء الشجر ونسيجاً من كلأ، وأخذوا يشقوا لأنفسهم طريقاً في أشجار الغابة بسيوفهم، ويقتاتون بثمار الشجر وبندقها
"وطالما التفتت إلى "راما" حليلته، في غبطة وتساؤل تزدادان على مرّ الأيام

وتسأل ما اسم هذه الشجرة وهذا الزاحف وتلك الزهرة وهاتيك الثمرة مما لم تره من قبل ...

والطواويس ترفّ حولهم مرحة، والقردة تقفز على محنيّ الغصون ...

كان "راما" يثب في النهر تظلله أشعة الصبح القرمزية

وأما "سيتا" فكانت تسعى إلى النهر في رفق كما تسعى السوسنة إلى الجدول)

ويبنون كوخاً إلى جانب النهر، ويروضون أنفسهم على حب حياتهم في الغابة لكن حدث أن كانت أميرة من الجنوب، وهي "سوربا- ناخا" تجوب الغابة، فتلتقي "براما" وتغرم به، وتضيق صدراً بالفضيلة التي يبديها لها، وتستثير أخاها "رافان" على المجيء ليختطف "سيتا"، وينجح أخوها في خطفها والفرار بها إلى قلعته البعيدة، ويحاول عبثاً أن يغويها بالضلال، ولما لم يكن ثمة مستحيل على الآلهة والمؤلفين، فقد حشد جيشاً جراراً، فتح به مملكة "رافان" وهزمه في القتال، وأنقذ "سيتا" وبعدئذ (وكانت أعوام نفيه قد كملت) فرّ معه قافلاّ بها إلى بلده "أريوذا" حيث وجد أخاً آخر له وفياً، فتنازل له عن عرش كوسالا.
وللملحمة ذيل يرجح أنه أضيف إليها متأخراً، وفيه يروى أن "راما" آمن آخر الأمر بأقوال المتشككين الذين لم يصدقوا أن تكون "سيتا" قد أقامت تلك المدة كلها في قصر رافان بغير أن تقع في أحضانه آنا بعد آن؛ وعلى الرغم من أنها اجتازت "محنة النار" لتدل على براءتها، فقد بعث بها إلى غاية بعيدة حيث تقيم في صومعة هناك، مزوّدة بألعوبة الوراثة المرّة التي تقضي على كل جيل من الناس أن يورّث خلفه تلك الخطايا والأغلاط التي ورثها هو من شيوخه في شبابه؛ وتلتقي "سيتا" في الغابة بفالميكي، وتلد طفلين "لراما"؛ وتمضي السنون، ويصبح الولدان منشدين جوّالين، يغنيان أمام "راما" المنكود الملحمة التي أنشأها عليه "فالميكي" مستمداً إيّاها من ذكريات "سيتا"، فيدرك أن الولدين ابناه، ويبعث برسالة إلى "سيتا" يرجوها الرجوع؛ لكن "سيتا" كانت قد تحطم قلبها بما أثير حولها من ريب، فغاصت في الأرض التي كانت في بادئ الأمر أمها؛ ويظل "راما" يحكم أعوام طوالاً في وحشة وأسى، وتبلغ "أريوذا" في عهده الرحيم عصرها الذهبي من جديد، ذلك الذي ذاقت طعمه في عهد "دازا- راذا":
يروي شيوخ الحكماء إبان عهد راما السعيد 

أن رعيته لم تعرف الموت قبل أوانه ولا الأمراض الفاتكة.

ولم تبك الأرامل حزناً على أزواجهن لأن هؤلاء لم يموتوا عن زوجاتهم قبل اكتمال العمر

ولم تبك الأمهات هلعاً على الرضّع ففقدنهم في نعومة الأظفار.

ولم يحاول اللصوص والغشاشون والخادعون المرحون بالكذب سرقة أو غشاً أو خداعاً

وكل جار أحب جاره التقيّ، وأحب الشعب مولاه

وآتت الأشجار أكلها كاملة كلما حانت فصولها

ولم تتوان الأرض عاماً عن إخراج غلّتها في غبطة المعترف بالجميل

وأمطرت السماء في أوان المطر، ولم تعصف قط بالبلاد عاصفة تأتي على زرعها.

فكان كل واد يانع باسمٍ غنياً بمحصوله غنياً بمرعاه

وأخرج المِنْسَجُ السّندان صناعتهما، كما أخرجت الأرض الخصيبة المحروثة نبتها

وعاشت الأمة فرحة بعمل أجدادها الأولين

ألا ما أمتعها من قصة، يستطيع حتى المتشائم في عصرنا الحديث أن يستمتع بها، إذا كان من الحكمة بحيث يترك زمام نفسه آنا بعد آن لروعة الخيال ونغمة الغناء؛ فهذه الأشعار التي ربما كانت أحط قدراً من ملحمتي هومر من الوجهة الأدبية- في بنائها المنطقي وفخامة اللغة وعمق التصوير، والصدق في وصف الأشياء على حقائقها- تمتاز بدقة الشعور، وبإعلائها من شأن المرأة والرجل إعلاء مثالياً، وبتصوير الحياة تصويراً قوياً- وهو تصوير واقعي أحياناً؛ فلئن كان "راما" و "سيتا" أسمى خلقاً من أن يكونا شخصين حقيقيين، فغيرهما من الأشخاص مثل "دروبادي" و "يوذشثيرا" و "ذريتا- راشترا" و "جانذاري" يكادون يكونون في قوة الحياة التي تراها في "أخيل" و "هيلانة" و "يوليسيز" و "بنلوب"؛ ويستطيع الهندي أن يحتج في حق قائلاً إن الأجنبي لا يمكنه قط أن يحكم على هاتين الملحمتين، بل لا يمكنه قط أن يفهمهما؛ فهما للهندي ليستا مجرد قصتين بل هما في رأيه بهو من أبهاء الصور، يشاهد فيه أشخاصاً مثاليين يمكنه أن ينسج في سلوكه على غرارهم، هما مستودع تستقر فيه التقاليد، كما تستقر فلسفة أمته ولاهوتها، فهما- بوجه من الوجوه- كتب مقدسة يقرأها الهندي على نحو ما يقرأ المسيحي "محاكاة المسيح" أو "تراجم القديسين"؛ إذ يعتقد الهندي الورع أن "كرِشْنا" و "راما" صورتان مجسدتان للألوهية، ولا يزال يتوجه إليهما بالصلاة،؛ وهو حين يقرأ أخبارهما في هاتين الملحمتين، يشعر بأنه يستمد من قراءته سمواً دينياً، كما يستمد متعة أدبية وارتفاعاً خلقياً؛ وهو يؤمن أن قراءته "لرامايانا" يطهره من أوزاره جميعاً ويجعله ينجب ولداً (45)، كما أنه يقبل النتيجة المزهوَّة التي تنتهي إليها "الماهابهاراتا" قبول الإيمان الساذج، وهي:
"إذا قرأ المرء "الماهابهاراتا" وآمن بتعاليمها، تطهر من كل خطاياه، وصعد إلى السماء بعد موته ... فالبراهمة بالقياس إلى سائر الناس، والزبد بالقياس إلى سائر ألوان الطعام ... والمحيط بالقياس إلى بركة الماء، والبقرة بالقياس إلى سائر ذوات الأربع- كل ذلك يصور "الماهابهاراتا" بالقياس إلى سائر كتب التاريخ ... إن من يصغي في انتباه إلى أشعار "الماهابهاراتا" المزدوجة الأبيات ويؤمن بما فيها، يتمتع بحياة طويلة وسمعة طيبة في هذه الحياة الدنيا، كما يتمتع في الآخرة بمقام أبدي في السماء" (46). 











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید