الأصول - "عربة الطين" - خصائص المسرحية الهندية -
كاليداسا - قصة "شاكنتالا" - تقدير المسرحية الهندية
المسرحية في الهند قديمة قدم الفيدات، بوجه من الوجوه، ذلك لأن بذورها الأولى على الأقل موجودة في كتب "يوبانشاد" ولا شك في أن للمسرحية بداية أقدم من هذه الكتب المقدسة، بداية أكثر فاعلية من تلك- وأعني بها الاحتفالات والمواكب الدينية التي كانت تقام للقرابين وأعياد الطقوس؛ وكان للمسرحية مصدر ثالث غير هذين، وهو الرقص- فلم يكن الرقص مجرد وسيلة لإخراج الطاقة المدخرة، وأبعد من ذلك عن الحقيقي أن نقول أنه كان بديلاً للعملية الجنسية، لكنه كان شعيرة جدية يقصد بها أن يحاكي ويوحي بالأعمال والحوادث الحيوية بالنسبة للقبيلة؛ وربما التمسنا مصدراً رابعاً للمسرحية، وهو تلاوة شعر الملاحم تلاوة علنية تدبّ فيها الحياة؛ فهذه العوامل كلها تعاونت على تكوين المسرح الهندي، وطبعته بطابع ديني ظل عالقاً به خلال العصر القديم كله (1) من حيث بناء المسرحية ذاتها، ومصادر موضوعاتها الفيدية والملحمية، والمقدمة التي كانت تتلى دائماً قبل البدء في التمثيل استنزالاً للبركة.
وربما كان آخر البواعث التي حفزتهم على إنشاء المسرحية، هو اتصال الهند باليونان اتصالاً جاء نتيجة لغزو الإسكندر فليس لدينا شاهد يدل على وجود المسرحية قبل "أشوكا"، كما أنه ليس بين أيدينا إلا دليل مشكوك في قوته، على أنها وجدت في عهده؛ وأقدم ما بقي لنا من المسرحيات الهندية مخطوطات أوراق النخيل التي كشف عنها حديثاً في التركستان الصينية، وبينها ثلاث مسرحيات، تذكر إحداها أن اسم مؤلفها هو "أشفاغوشا" العالم اللاهوتي في بلاط "كانِشْكا"؛ لكن القالب الفني لهذه المسرحية، والشبه الذي بين شخصية "المضحك" فيها وبين النمط الذي عرفناه لمثل هذه الشخصيات في المسرح الهندي على مر العصور، قد يدلان على أن المسرحية كانت قائمة بالفعل في الهند قبل مولد "أشفاغوشا" (47)، وحدث في سنة 1910م أن وجدت في "ترافانكور" ثلاث عشرة مسرحية سنسكريتية، تُنسَبْ في شئ من الشك إلى "بهازا" (حوالي سنة 350م) وهو في الأدب المسرحي سلفٌ ظفر بكثير من التكريم من "كاليداسا" ففي مقدمة روايته "مالافيكا" توضيح جيد لنسبية الزمن والصفات، أثبته (أي كاليداسا) في تلك المقدمة عن غير وعي منه، فتراه يسأل: هل يليق بنا أن نهمل مؤلفات رجال مشهورين مثل "بهازا" و "ساوميلا" و "كافيبوترا"؟ هل يمكن للنظارة أن يحسُّوا بأقل احترام لما ينشئه شاعر حديث يسمى كاليداسا؟ " (48).
وإلى عهد قريب كانت أقدم مسرحية هندية معروفة للباحثين العلميين هي "عربة الطين"، وفي النص- الذي ليس تصديقه حتماً علينا- ذكر لاسم مؤلفها، وهو رجل مغمور يعرف باسم "الملك شودراكا" يوصف بأنه خبير بكتب الفيدا وبالرياضة وترويض الفيلة وفن الحب (49) ومهما يكن من أمر فقد كان خبيراً بالمسرح، ومسرحيته هذه أمتع ما جاءنا من الهند، وليس في ذلك سبيل إلى الشك- فهي مزيج- يدل على براعة- من الغناء والفكاهة، وفيها فقرات رائعة لها ما للشعر من حرارة وخصائص.
ولعل خلاصة موجزة لحوادثها أنفع في توضيح مميزات المسرحية الهندية من مجلد بأسره يكتب في شرحها والتعليق عليها؛ ففي الفصل الأول نلتقي بـ "شارو- داتا" الذي كان ذات يوم من الأغنياء، ثم أصابه الفقر لجوده وسوء حظه؛ ويلعب صديقه "مايتريا"- وهو برهميّ فدْم- دور المضحك في المسرحية؛ ويطلب "شارو" من "مايتريا" أن يهب الآلهة قرباناً، ولكن البرهمي يرفض الطلب قائلاً: "ما غناء القربان للآلهة التي عبدتها ما دامت لم تصنع لك شيئاً؟ " وفجأة دخلت امرأة هندية شابة، من أسرة رفيعة ولها ثراء عريض، دخلت مندفعة في فناء دار "شارو" تلتمس فيه ملاذاً من رجل يتعقبها؛ وإذا بهذا المتعقب أخو الملك، واسمه "سامزثاناكا" وهو شرير إلى درجة بلغت غاية لم تدع فيه أدنى مجال للخير، حتى ليتعذر على الإنسان أن يصدق وجود مثل هذا الشر الخالص، على نحو ما كان" "شارو" خيّراً خالصاً لا سبيل إلى دخول الشر في نفسه؛ فيحمي "شارو" الفتاة اللائذة بداره، ويطرد " سامزثاناكا " الذي يتوعده بالانتقام، فيزدري منه هذا الوعيد وتطلب الفتاة- واسمها "فاسانتا- سينا"- من "شارو" أن يحفظ لها وعاء فيه جواهر كريمة تحت حراسته الآمنة، خشية أن يسرقه منها الأعداء، وخشية ألا تجد عذراً تتذرع به للعودة إلى زيارة منقذها؛ فيجيبها إلى ما طلبت، ويحفظ لها الوعاء، ويحرسها حتى يبلغ بها دارها الفخمة.
ويأتي الفصل الثاني بمثابة فاصل هزلي، فهذا مقامر هارب من مقامرين آخرين، يلوذ بأحد المعابد، فلما دخل هذان، وتخلص منهما بأن وقف وقفة التمثال كأنه وثن الضريح، ويقرصه المتعقبان ليريا إن كان حقيقة وثناً من الحجر، فلا يتحرك؛ فيتخليان عن البحث، ويتسليان بلعبة يلعبانها بالزهر "زهر القمار" بجوار المذبح؛ ويبلغ اللعب من إثارته للنفس مبلغاً تعذر معه على التمثال أن يضبط زمام نفسه، فوثب من على قاعدته، واستأذن ليشترك في اللعب؛ ويهزمه اللاعبان الآخران، فيجد في ساقيه السريعتين وسيلة للفرار مرة أخرى، وتنجيه "فاسانتا- سينا" التي عرفت فيه رجلاً كان فيما مضى خادماً عند "شارو- داتا".
ونرى في الفصل الثالث "شارو" و "مايتريا" عائدين من حفلة موسيقية ويسطو على الدار لص فيسرق وعاء الجواهر الكريمة، فلما كشف "شارو" عن السرقة، أحسّ بالعار، وبعث إلى "فاسانتا- سينا" آخر ما يملكه من عقود اللؤلؤ، عوضاً لها.
ونرى في الفصل الرابع "شارفيلاكا" يقدم الوعاء المسروق إلى خادمة "فاسنتا- سينا" ابتغاء حبها؛ فلما عرفت أنه وعاء سيدتها، ازدرت "شارفيلاكا" لأنه لص، فيجيبها في مرارة نعرفها في شوبنهور، قائلاً:
إن المرأة- إذا ما بذلتَ لها المال- ابتسمت أو بكتْ
ما أردتَ لها الابتسام أو البكاء؛ إنها تحمل الرجل
على الثقة فيها، لكنها هي لا تثق فيه،
إن النساء متقلبات الأهواء كموج
المحيط؛ إنّ حبهن مفلات هروب
كأنه شعاع من ضوء الشمس الغاربة فوق السحاب،
إنهن يرتمين بميل شديد على الرجل
الذي يعطيهن مالاً، وما زلن يعتصرن ماله
اعتصارهن لعصارة النبات المليء، ثم ينبذونه نبذاً
لكن الخادمة تدحض كلامه هذا بعفوها عنه كما تدحضه "فاسانتا- سينا" بالإذن لهما بالزواج.
وفي فاتحة الفصل الخامس تأتي "فاسانتا- سينا" إلى بيت "شارو" لكي تعيد له جواهره، وتعيد كذلك وعاءها؛ وبينما هي هناك، عصفت عاصفة تصفها بالسنسكريتية وصفا رائعاً (1)؛ وتتفضّل عليها العاصفة بالزيادة من ثورة غضبها، إذ اضطرتها بذلك- اضطراراً جاء وفق ما تشاء وتهوى- أن تبيت ليلتها تحت سقف شارو.
ونرى في الفصل السادس "فاسانتا" وهي تغادر بيت "شارو" في الصباح التالي؛ وبدل أن تدخل العربة التي أعدها لها، أخطأت فدخلت عربة يملكها "سامزثاناكا" الشرير؛ وفي الفصل السابع حبكة فرعية ليست بذات أثر كبير على موضوع المسرحية؛ ونرى "فاسانتا" في الفصل الثامن ملقاة- لا في قصرها كما توقعت- بل في بيت عدوها، بل توشك أن تكون في أحضان ذلك العدو؛ فلما عاودته بازدراء حبّه إياها، خنقها ودفنها؛ ثم ذهب إلى المحكمة واتهم شارو بقتل "فاسانتا" بغية الوصول على أحجارها الكريمة.
وفي الفصل التاسع وصف للمحاكمة، حيث يخون "مايتريا" سيده خيانة غير مقصودة، وذلك بأن أسقط من جيبه جواهر "فاسانتا"؛ فحكم على "شارو" بالموت؛ ونراه في الفصل العاشر في طريقه إلى حيث ينفذ فيه الإعدام؛ ويلتمس ابنه من الجلادين أن يضعوه مكان أبيه، لكنهم يرفضون؛ ثم تظهر "فاسانتا" في اللحظة الأخيرة؛ فقد شاهد "شارفيلاكا" "سامزثاناكا" وهو يدفنها، فأسرع إلى إخراج جسدها قبل فوات الأوان، وأعادها إلى الحياة؛ وانقلب الوضع، فقد أنقذت "فاسانتا" "شارو" من الموت؛ واتهم "شارفيلاكا" أخا الملك بتهمة القتل؛ لكن "شارو" أبى أن يؤيد الاتهام، فأطلق سراح "سامزثاناكا" وعاش الجميع عيشاً سعيداً (50).
لما كان الوقت في الشرق، حيث يكاد العمل كله يتم أداؤه بأيد بشرية، أوسع منه في الغرب، حيث وسائل توفير الوقت كثيرة جداً، كانت المسرحيات الهندية ضعف المسرحيات الأوروبية في عصرنا هذا؛ فيتراوح عدد الفصول من خمسة إلى عشرة، وكل فصل منها ينقسم في غير إزعاج للنظارة إلى مناظر، بحيث يكون أساس الانقسام خروج شخصية ودخول أخرى؛ وليس في المسرحية الهندية وحدة للمكان ووحدة للزمان، وليس فيها ما يحد سرحات الخيال؛ والمناظر على المسرح قليلة، لكن الثياب زاهية الألوان، وأحياناً يدخلون على المسرح حيوانات حية فتزيد من حركة المسرحية نشاطاً (51) وتبث روحاً فيما هو صناعي بما هو طبيعي فترة من الزمن؛ ويبدأ التمثيل بمقدمة يناقش فيها أحد الممثلين أو مدير المسرح موضوع الرواية، والظاهر أن "جيته" أخذ عن "كاليداسا" فكرة المقدمة لرواية "فاوست"؛ ثم تخدم المقدمة بتقديم أول شخصية من الممثلين، فيأتي هذا ويخوض في قلب الموضوع؛ والمصادفات لا عدد لها، وكثيراً ما ترسم العوامل الخارقة للطبيعة خط السير للحوادث؛ ولا تخلو مسرحية من قصة غرامية، كما لابد لها من "مضحك"؛ وليس في الأدب المسرحي الهندي مأساة، إذ لا مندوحة لهم عن اختتام الحوادث بخاتمة سعيدة؛ وحتم في المسرحية أن ينتصر الحب الوفيّ دائماً، وأن تكافأ الفضيلة دائماً، وأقل ما يدعوهم إلى فعل ذلك أن يجئ بمثابة الموازنة مع الواقع؛ وتخلو المسرحية الهندية من المناقشات الفلسفية التي كثيراً جداً ما تعترض مجرى الشعر الهندي؛ فالمسرحية مثل الحياة، لا بد أن تعلّم بالفعل وحده، وألا تلجأ أبداً في ذلك إلى مجرد الكلام (1)، ويتعاقب في سياق المسرحية الشعر الغنائي والنثر، حسب جلال الموضوع والشخصية والفعل؛ والسنسكريتية هي لغة الحديث لأفراد الطبقات العالية في الرواية، والبراكريتية هي لغة النساء والطبقات الدنيا؛ والفقرات الوصفية في تلك المسرحيات بارعة، وأما تصوير الشخصيات فضعيف؛ والممثلون- وفيهم نساء- يجيدون أداء التمثيل، فلا هم يتسرعون كما هي الحال في الغرب، ولا هم يسرفون في البطء كما يفعل أهل الشرق الأقصى؛ وتنتهي الرواية بخاتمة يتوجّه فيها بالدعاء إلى الإله المحبب عند المؤلف أو عند أهل الإقليم المحلي، ليهيئ أسباب السعادة للبلاد.
وأشهر المسرحيات الهندية هي "شاكونتالا" لـ "كاليداسا" لم يزاحمها في ذلك مزاحم منذ ترجمها "سير وليم جونز" وامتدحها "جيته"؛ ومع ذلك فكل ما تعرفه لكاليداسا ثلاث مسرحيات، مضافاً إليها الأساطير التي أدارتها حول اسمه ذاكرات المعجبين؛ والظاهر أن قد كان أحد "الجواهر التسع"- من الشعراء والفنانين والفلاسفة- الذين قرّبهم الملك "فكراماديتيا" إليه (380 - 413 م) في عاصمة جوبتا، وهي "يوجين".
تقع "شاكونتالا" في سبعة فصول، بعضها نثر، وبعضها شعر ينبض بالحياة؛ فبعد مقدمة يدعو فيها مدير المسرح النظارة أن يتأملوا روائع الطبيعة، تبدأ الرواية بمنظر طريق في غابة، حيث يقيم راهب مع ابنة تبنّاها، تسمى "شاكونتالا" وما هو إلا أن يضطرب سكون المكان بصوت عربة حربية، يخرج منها راكبها وهو الملك "دشيانتا" فيغرم "بشاكونتالا" في سرعة نعهدها في خيال الأدباء، ويتزوج منها في الفصل الأول، لكنه يستدعى فجأة للعودة إلى عاصمته؛ فيتركها واعداً إياها أن يعود إليها في أقرب فرصة ممكنة، كما هو مألوف في مثل هذا الموقف؛ وينبئ رجل زاهد فتاتنا الحزينة بأن الملك سيظل يذكرها ما دامت محتفظة بالخاتم الذي أعطاه لها، لكنها تفقد الخاتم وهي تستحم؛ ولما كانت على وشك أن تكون أماً، فقد ارتحلت إلى قصر الملك، لتعلم هناك أن الملك قد نسيها على غرار ما هو معهود في الرجال الذين تسخو معهم النساء، وتحاول أن تذكّره بنفسها.
شاكونتالا: ألا تذكر في عريشة الياسمين
ذات يوم حين صَبَبْتُ ماء المطر
الذي تجمع في كأس زهرة اللوتس
في تجويفة راحتك؟
الملك: امضي في قصتك إني أسمع.
شاكونتالا: وعندئذ في تلك اللحظة عينها،
جاء نحونا يعدو طفلي الذي تبنيته، أعني الغزال الصغير،
جاء بعينيه الطويلتين الناعستين؛ فقبل أن تطفئ ظمأك.
مددت يدك بالماء لذلك المخلوق الصغير، قائلاً:
"اشرب أنت أولاً أيها الغزال الوديع"
لكن الغزال لم يشرب من أيد لم يألفها
وأسرعت أنا فمددت إليه ماء في راحتي فشرب
في ثقة لا يشوبها فزع، فقلت أنت مبتسماً:
"إن كل مخلوق يثق في بني جنسه
كلاكما وليد غابة حوشية واحدة
وكلاكما يثق في زميله، ويعرف أين يجد أمانة"
الملك: ما أحلاك وما ألطفك وما أكذبك!
أمثال هؤلاء النساء يخدعن الحمقى ...
إنك لتلحظ دهاء الإناث
في شتّى أنواع المخلوقات، لكنها في النساء أكثر منها في غيرهن
إن أنثى الوقوق تترك بيضها للأقدام تفقسها لها
وتطير هي آمنة ظافرة (53)
هكذا لقيت "شاكونتالا" الهون، وتحطم رجاؤها، فرفعتها معجزة إلى أجواز الفضاء حيث طارت إلى غابة أخرى فولدت هناك طفلها، وهو "بهاراتا" العظيم الذي كتب على أبنائه من بعده أن يخوضوا معارك "الماهابهاراتا"؛ وفي ذلك الحين، وجد سمّاك خاتمها المفقود، ورأى عليه اسم الملك، فأحضره إلى "دشيانتا" (الملك)، وعندئذ عادت إليه ذاكرته "بشاكونتالا"، وأخذ يبحث عنها في كل مكان، وطار بطائرة فوق قمم الهمالايا، وهبط بتوفيق من السماء عجيب على الصومعة التي كانت "شاكونتالا" تذوي في جوفها، ورأى الصبيّ "بهاراتا" يلعب أمام الكوخ، فحسد والديه قائلاً:
"آه، ما أسعده من أب وما أسعدها من أم
يحملان وليدهما، فيصيبهما القذر
من جسده المعفّر؛ إنه يكنّ آمناً مطمئناً
في حجريهما، وهو الملاذ الذي يرنو إليه-
إن براعم أسنانه البيضاء تتبدّى صغيرة
حين يفتح فمه باسماً لغير ما سبب؛
وهو يلغو بأصوات حلوة لم تتشكل بعد كلاماً ...
لكنها تذيب الفؤاد أكثر مما تذيبه الألفاظ كائنة ما كانت" (54)
وتخرج "شاكونتالا" من كوخها، فيلتمس الملك عفوها، وتعفو عنه، فيتخذها ملكة له، وتنتهي المسرحية بدعاء غريب لكنه يمثل النمط الهندي المألوف:
"ألا فليعش الملوك لسعادة رعاياهم دون سواها،
اللهم أكرم "سارسفاتي" المقدسة- منبع
الكلام وإلهة الفن المسرحي،
أكرمها دوماً بما هو عظيم وحكيم!
اللهم يا إلهنا الأرجواني الموجود بذاتك
يا من يملأ المكان كله بنشاط حيويته،
أنقذ روحي من عودة مقبلة إلى جسد! " (55)
لم تتدهور المسرحية بعد "كاليداسا" لكنها لم تستطع بعدئذ أن تنتج رواية في قوة "شاكونتالا" أو "عربة الطين"؛ فقد كتب الملك "هارشا" ثلاث مسرحيات شغلت المسرح قروناً- ذلك لو أخذنا رواية تقليدية ربما أوحى بها أول أمرها إيحاء؛ وبعده بمائة عام، كتب "بهافابهوتي"- وهو برهميٌّ من برار- ثلاث مسرحيات غرامية، لا يفوقها جودة إلا مسرحيات "كاليداسا" في تاريخ المسرح الهندي؛ وكان أسلوبه- رغم ذلك- مزخرفاً غامضاً، فكان لزاماً عليه أن يقنع بنظّارة محدودة العدد، وبالطبع قد ادّعى أن تلك النظارة القليلة ترضيه؛ وقد كتب يقول:
"ألا ما أقل ما يدريه أولئك الذين يقرعوننا باللوم؛ إن مسرحياتي لم تكتب لتسليتهم، فليس بعيداً أن يكون بين الناس شخص، أو ربما يوجد شخص في مقبل الأيام، له ذوق شبيه بذوقي، لأن الزمان مديد والعالم فسيح الأرجاء" (56).
يستحيل علينا أن نضع الأدب المسرحي في الهند، في منزلة واحدة مع مثيله في اليونان أو في إنجلترا أيام اليصابات؛ لكنه يقارن مع المسرح في الصين أو اليابان فيكون له التفوق؛ كلا لا يجوز لنا أن نبحث في أدب الهند عما يطبع المسرح الحديث من ألوان الفن الدقيق، فهذه الألوان عرض من أعراض الزمن، أكثر منها حقيقة أبدية، وربما زالت، بل ربما تحولت إلى ضدها؛ إن الكائنات الخوارق للطبيعة، في المسرحية الهندية غريبة على أذواقنا، مثل "القدر" في أدب "يوربيديز" المتنور؛ لكن هذا الجانب أيضاً عرض من أعراض التاريخ؛ أما أوجه الضعف في المسرحية الهندية (إذا جاز لأجنبي أن يذكرها في تردد) فهي التكلف في الصيغة اللفظية التي يشوهها تكرار الحرف الواحد ليمثل الصوت المعبَّر عنه وتفسدها الألاعيب اللفظية، وتصوير الأشخاص بلون واحد للشخص الواحد، فإما أن يكون الشخص خيراً صرفاً، أو أن يكون شراً صرفاً، وحبكة الحوادث حبكة لا يقبلها العقل، مستندة إلى مصادفات لا يمكن تصديقها؛ وإسراف في الوصف وفي النقاش حول الفعل الذي يكاد يكون بحكم التعريف الوسيلة الفريدة التي تتميز بها المسرحية في نقل ما تريد أن تنقله؛ وأما حسنات المسرحية الهندية فما فيها من خيال بديع، وعاطفة رقيقة، وشعر مرهف، ونداء عاطفي لما في الطبيعة من ألوان الجمال والفزع؛ إنه لا سبيل إلى النزاع حول صور الفن القومية، ذلك لأننا لا نستطيع أن نحكم عليها إلا من وجهة نظرنا بما لها من لون خاص، ثم لا نستطيع أن نراها غالباً إلا خلال منظار الترجمة؛ ويكفينا أن نقول إن " جيته " وهو أقدر الأوربيين على التسامي فوق حدود الإقليم وحواجز القومية، قد عَدَّ قراءة "شاكونتالا" بين ما صادفه في حياته من عميق التجارب، وكتب عنها معترفاً بفضلها:
"أتريدني أن أجمع لك في اسم واحد زهرات العام وهو في ربيعه ناشئ،
وثماره وهو في خريفه ينحدر إلى فناء
وأن أجمع كل ما عساه أن يسحر الروح ويهزها ويغذوها ويطعمها
بل أن أجمع الأرض والسماء نفسيهما في اسم واحد؟
إذن لذكرت اسمك يا "شاكونتالا" وبذكره أذكر كل شئ دفعة واحدة" (57).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)