العهد السابق لأشوكا - العمارة في عهد أشوكا - العمارة
البوذية - العمارة الجانتية - آيات العمارة في الشمال - هدمها - النمط في
الجنوب - المعابد المقامة من حجر واحد - المعابد المقامة من أحجار عدة
لم يبق لنا شيء من العمارة الهندية قبل "أشوكا" فلدينا آثار من اللبِن في "موهنجو - دارو"، لكن أبنية في العهدين الفيدي والبوذي كانت فيما يظهر من الخشب، والأغلب أن "أشوكا" كان أول من استخدم الحجر لأغراض البناء (64) وإننا لنصادف في أدبهم ما يدل على أن قد كان لهم أبنية ذات سبعة طوابق (65) كما قد كان لهم قصور فخمة، لكن لم يبق من كل هذا أثر واحد، ويصف المجسطي قصور الملوك من أسرة "شاندراجوبتا" فيقول إنها أعظم من أي شيء مما عساك أن تراه في فارس ما عدا "فرسوبولس" (أي مدينة الفرس) التي اتخذت نموذجاً احتذاه هؤلاء الملوك الهنود فيما يظهر (66) ولبث هذا التأثير الفارسي حتى عهر "أشوكا" لأنك تراه ظاهراً في تصميم قصره، إذ تجد هذا القصر مطابقاً "للقاعة ذات الأعمدة المائة" في "فرسوبولس" (67) كما ترى تأثير الفرس أيضاً ظاهراً في عمود "أشوكا" البديع في "لوريا" متوجاً في قمته العليا بتمثال الأسد.
فلما تحول "أشوكا" إلى البوذية، أخذت العمارة الهندية تلقي عن كاهلها هذا التأثير الأجنبي وتستمد روحها ورموزها من الديانة الجديدة، ومرحلة الانتقال ظاهرة في رأس عمود كبير، هو كل ما بقي لنا الآن من عمود آخر يرجع إلى عهد "أشوكا" في "سارنات" (68) فهاهنا نشهد أية بلغت من الكمال حداً يستوقف النظر حتى لقد قال عنه "سير جون مارشال" إنه يضارع "أي شيء من نوعه في العالم القديم" (69)، إذا ترى أربعة أسود قوية وقفت ظهراً لظهر حارسة، وهي فارسية خالصة من حيث الصورة والملامح. لكنك ترى أسفل هذه الأسود إفريزاً نحتت فيه بعض الشخوص نحتاً جيداً، من ذلك تمثال لحيوان قريب إلى نفوس الهنود وهو الفيل، ورمز مطبوع بطابعهم وهو "العجلة البوذية التي ترمز للقانون"، ثم ترى تحت الإفريز صورة حجرية لزهرة كبيرة من زهرات اللوتس، أخطأ الباحثون من قبل فظنوها رأس عمود على صورة جرس مما يدل على تأثير الفرس، أما الآن فقد أجمع الرأي على أنها بين رموز الفن الهندي أقدمها وأوسعها انتشاراً وأخصها انطباعاً بالروح الهندية (70) والزهرة قائمة عمودية، وأوراقها منحنية إلى أسفل بحيث يظهر عضو التأنيث في الزهرة، الذي يحتوي على البذور، وهم يمثلون به رحم العالم، أو يصورون به عرش الله، باعتباره من أجمل ما تبديه من الطبيعة من ظواهر؛ وقد انتقلت زهرة اللوتس- أو سوسنة الماء- بما ترمز إليه، مع البوذية، حيث تغلغلت في ثنايا الفن الصيني والياباني، وقد اصطنعوا في عهد "أشوكا" صورة شبيهة بزهرة اللوتس في بناء النوافذ والأبواب، هي التي أصبحت "قوس حدوة الفرس الذي نشاهده في الأبهاء والقباب التي ترجع إلى "أشوكا"، وهو في بادئ أمره مستمد من تقويس السقوف المصنوعة من القش في منازل البنغال، والتي تشبه "العربة المُغَطَّاة" تلك السقوف التي كانت تسندها دعائم من قضبان الخيزران المثنى (71).
ولم تخلّف لنا العمارة الدينية في العصور البوذية إلا قليلاً من المعابد المخربة وعدداً كبيراً من "أكمات المقابر" وما يحيطها من "أسوار"، وقد كانت "أكمة المقابر" في الأيام الأولى مكاناً للدفن، ثم أصبحت في عهد البوذية ضريحاً كارياً يضم عادة آثار قديس بوذي؛ وتتخذ "أكمة المقابر" في معظم الأحيان صورة قبة من اللبن المجفف، في رأسها برج مدبب الطرف، وحولها سور حجري منحوت بالشخوص البارزة، ومن أقدم هذه "الأكمات" أكمة في "بهارهوت" غير أن الشخوص البارزة هناك غليظة الفن إلى درجة تجعلها بدائية الصناعة، وأرقى ما بقي لنا من هذه الأسوار في زُخرُفه هو السور الموجود في "أمارافاتي"، ففيه ترى مسطحاً مساحته سبعة عشر ألفاً من الأقدام المربعة، تغطيها شخوص صغيرة بارزة، تدل على دقة في الصناعة بلغت من الروعة حداً جعل "فرجسون" يشهد لهذا السور بأنه "على الأرجح أبدع أثر في الهند كلها"؛ وأجمل ما نعرفه من "أكمات المقابر" أكمة "سانكي"، وهي واحدة من مجموعة في "بِهِلْسَا" من بلدان "بهوبال"؛ والظاهر أن البوابات الحجرية تحاكي نماذج خشبية قديمة، وهي التي رسمت الطريق للبوابات التي تراها عند مداخل المعابد في الشرق الأقصى؛ فكل قدم مربعة من الأعمدة أو تيجانها أو القطع المستعرضة أو الدعائم، محفورة بما لا يقع تحت الحصر من صور النبات والحيوان وأشخاص الإنسان وصور الأرباب؛ ونرى على عمود من أعمدة البوابة الشرقية نحتاً رقيقاً يمثل رمز البوذية الدائم- وهو "شجرة بوذى" أي المكان الذي أشرقت فيه على صاحب العقيدة أنوار الحقيقة؛ وعلى نفس البوابة كذلك تجد تمثالاً لإلهة على هيئة قوس رشيق، وهي "ياكشي" ولها أطراف وشفاه بدينة وشفاه مليئة وخصر نحيل وثديان ممتلئان.
وبينما كان الموتى من القديسين يرقدون في "الأكمات" كان أحياء الرهبان يحتفرون لأنفسهم في صخور الجبل معابد يعتزلون فيها الدنيا ويعيشون في تراخ وسلام، بمنجاة من عوامل الجو ومن لفحة الشمس ووهجها؛ ونستطيع أن نتبين مدى قوة الحافز الديني في الهند إذا لحظنا أنه قد بقي لنا أكثر من ألف ومائتي معبد من هذه المعابد الكهفية، بقي هذا العدد لنا من عدة ألوف بنيت في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، بعضها للجانتيين والبراهمة، لكن معظمها للجماعات البوذية، وفي معظم الحالات ترى مداخل هذه الأديرة (أو الفهارات كما يسمونها) بوابة ساذجة على هيئة حدوة الفرس أو قوس زهرة اللوتس؛ وأحياناً - كما هي الحال في "ناسيك" - يكون المدخل واجهة مزخرفة، قوامها أعمدة قوية ورؤوس حيوان وعَتَبٌّ منحوت نحتاً يتطلب صبراً لا ينفد، وكثيراً ما كانوا يزينون المدخل بأعمدة وأستار حجرية وبوابات غاية في جمال التصوير (74)، وأما الداخل ففيه "شايتيا" أي قاعة للاجتماع بأعمدة تفصل الوسط عن الجانبين، وعلى كلا الجانبين حجيرات للرهبان، وفي الطرف النائي من الداخل مذبح عليه بعض الآثار القديمة (1) ومن أقدم هذه المعابد الكهفية، وقد يكون أجملها جميعاً، معبد في "كارل" الواقعة بين "بونا" و"بمباي"، ففي هذا المعبد أنتجت بوذية "هنايانا" أروع آياتها الفنية.
وأما كهوف "أجانتا" ففضلاً عن كونها مخابئ لأعظم الصور البوذية، فهي كذلك تضارع "كارل" في كونها أمثلة لذلك الفن المركب من جانبين: فنصفه عمارة ونصفه نحت، وهو ما يميز معابد الهند؛ ففي الكهفين رقم (1) ورقم (2) قاعات فسيحة للاجتماع، سقوفها - المنحوتة والمرسومة بزخارف رصينة لكنها رشيقة - قائمة على عمد منقوشة بخطوط محفورة، مربعة عند أسفلها مستديرة عند قمتها، مزخرفة برسوم من الزهر ومتوجة برؤوس لها فخامتها (75) ويتميز الكهف رقم (19) بواجهة أتقنت زخرفتها بتماثيل بدينة ورسوم بارزة مشتبكة الأجزاء (76)، وفي الكهف رقم (26) تنهض أعمدة إلى إفريز متوج بتماثيل منحوتة في دقة تفصيلية يستحيل أن تتم إلا إن توفرت لها الحماسة الدينية والفنية في آن معاً (77)؛ فلا تكاد تجد ما يبرر لك أن تسلب "أجانتا" الحق في أن تعدَّ واحدة من أعظم ما خلف تاريخ الفن من آثار.
وأفخم المعابد البوذية الأخرى التي لا تزال قائمة في الهند، البرج العظيم في "بوذ - جايا"، وقيمته في أقواسه المصطبغة بصبغة قوطية خالصة، ومع ذلك فتاريخها يرجع - فيما يظهر - إلى القرن الأول الميلادي (78).
وأهم ما تتميز به العمارة البوذية على وجه الجملة هو أنها مفككة، وجلالها في تمثيلها قبل أن يكون في بنائها؛ ويجوز أن تكون روح التزمت الديني العالقة بها هي التي جعلتها في ظاهرها منفرة للعين عارية عما يجذب النظر؛ وأما الجانتيون فقد توجهوا بعناية أكبر من عناية البوذيين، إلى فن العمارة، وكانت معابدهم خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر أجمل معابد الهند على الإطلاق وهم في بادئ أمرهم لم يخلقوا لأنفسهم نمطاً في العمارة خاصاً بهم، واكتفوا في البداية بمحاكاة الطريقة البوذية (مثال ذلك ما نراه في إكوار) التي تحتقر المعابد في صخور الجبل، ثم بمحاكاة معابد فشنو وشيفا، وهي على نمط يتميز بأنه يقوم على مجموعة من الجدر فوق نشز من الأرض؛ هذه المعابد كانت بسيطة الظاهر، لكنها كانت كثيرة التفصيلات غنية الفن من الباطن - ولعلها في ذلك أن تكون رمزاً موفقاً للحياة المتواضعة، وأخذ الناس يندفعون بروح التقوى فيضيفون إلى هذه المعابد تمثالاً في إثر تمثال مما يخلد أبطال الجانتية، حتى لقد بلغ عددها في "شاترونجايا" - حسب إحصاء فيرجسون - ستة آلاف وأربعمائة وتسعة وأربعين تمثالاً (79).
وأما المعبد الجانتي في "أيهول" فيكاد يكون إغريقي النمط، بصورته الرباعية الأضلاع، وأعمدته الخارجية، ومدخله، والغرفة الداخلية، أو إن شئت فقل الحجيرة التي تتوسطه من الداخل (80)؛ وقد أقام الجانتيون والفشناويون والشيفاريون في "خاجوراهو" ما يقرب من ثمانية وعشرين معبداً قريباً بعضها إلى بعض؛ كأنما أرادوا بها أن يضربوا مثلاً لروح التسامح الديني في الهند؛ وبين تلك المعابد معبد "بارشوانات" (81) الذي يبلغ درجة الكمال، وهو ينهض مخروطاً فوق مخروط حتى يبلغ ارتفاعاً هائلاً، ويؤوي في جدرانه المحفورة مدينة حقيقية من القديسين الجانتيين؛ وقد أقام الجانتيون على جبل "أبو"، وارتفاعه فوق صدر الصحراء أربع آلاف قدم، معابد كثيرة منها اثنان باقيان، هما معبد "فيمالا" ومعبد "تجاه بالا"، يعدان أعظم ما أبدعته هذه الطائفة في مجال الفنون؛ فقبة الضريح "تجاه بالا" من الأشياء التي توقع في نفس الرائي أثراً عميقاً يتضاءل أمامه كل ما يكتب عن الفنون بحيث يصبح تافهاً عاجزاً (82)؛ وأما معبد "فيمالا" المبني كله من المرمر الأبيض فمؤلف من خليط من أعمدة لا يطرد فيها نظام، ترتبط بأقواس أبدعها الخيال العجيب بمصاطب منحوتة نحتاً أميل إلى البساطة، وفوق الأعمدة قبة من المرمر بولغ في حفرها بالتماثيل الكثيرة لكن حفرها بلغ من الرقة حداً يروعك جلاله وأنت تستعرضه؛ ويقول فيه "فيرجسون": "إن النحت قد أتقنت تفصيلاته وأجيدت زخرفته؛ حتى ليجوز لنا أن نقول إنه ليس في العالم كله ما يفوقه في ذلك؛ إذ النقوش التي زخرف بها المعماريون مُصَلَّى هنري السابع في وستمنستر أو في أكسفورد، تعتبر غليظة بغيضة إذا قورنت بنقوش ذلك المعبد (83).
ونستطيع أن نلحظ في هذه المعابد الجانتية ومعاصراتها، مرحلة الانتقال من صورة الضريح البوذي المستديرة إلى نمط البرج الذي ساد في عصور الهند الوسطى فقاعة الاجتماع المحاطة بأعمدة من الداخل جاءوا بها إلى الخارج حيث تحولت إلى ممشى عند المدخل، ثم تقع الحجيرة خلف هذا الممشى، ويرتفع فوقها البرج المعقد المنحوت في مستويات تقل مساحة كلما ازدادت ارتفاعاً، وعلى هذا التصميم بنيت معابد الهندوس في الشمال، وأوقع مجموعة من هذه المعابد في نفس الرائي، هي المجموعة المسماة (بهوفانشوارا) في إقليم "أوريسا"، وأجمل معبد في هذه المجموعة هو معبد "راجاراتي" الذي أقيم للإله "فشنو" في القرن الحادي عشر الميلادي، وهو عبارة عن برج شامخ يتألف من أعمدة نصف دائرية ملاصق بعضها لبعض، تغطيها التماثيل وتعلوها طبقات من الحجر تتناقص حجماً كلما ازددنا معها صعوداً، وبهذا يكون البرج منحنياً إلى الداخل ومنتهياً بتاج دائري كبير ومسلة؛ وبالقرب منه يقع معبد "لنجاراجا" وهو أكبر من معبد "راجاراني" لكنه لا يبلغ في الجمال مبلغه، ومع ذلك فكل نقطة من مسطح البناء قد مَرَّت عليها يد النحات بإزميلها، حتى لقد قدرت تكاليف النحت ثلاثة أمثال تكاليف البناء ذاته (84) فالهندوسي لم يعبّر عن تقواه بضخامة معابده الجبارة وحدها، بل أضاف إلى الضخامة تفصيلات فنية احتاجت في إخراجها إلى صبر طويل، فلم يكن عنده شيء يَضِنُّ به على الإله مهما بلغت نفاسته.
وإنه لمن البغيض إلى النفس أن نذكر قائمة آيات البناء الهندوسي في الشمال غير التي ذكرناها، دون أن نذكر أوصافها التي تتميز بها، وأن نمثلها بصورها الفوتوغرافية؛ ومع ذلك فيستحيل على من يسجِّل المدنيَّة الهندية أن يغض الطرف عن معابد "سوريا" في "كاناراك" و "موزيرا"، وعن برج "جاجانات بوري"، وعن البوابة الجميلة في "فادناجار" (85) والمعبدين الضخمين "ساس- باهو" و "تلى- كار- ماندير" في "جواليور" (86) وقصر "راجا مان سنج" وهي أيضاً في "جواليور" (87) "وبرج النصر" في شيتور (88)، ولا تستطيع العين أن تخطئ معابد الشيفاويين في "خاجوراهو"؛ وفي المدينة نفسها ترى القبة الكائنة عند دهليز المدخل في معبد "خانوارماث"؛ وهي تدل دلالة جديدة على قوة الفتوة السارية في العمارة الهندية، وعلى ما في النحت الهندي من غزارة تفصيلات وصبر في الصناعة (89) وعلى الرغم من أن معبد شيفا في "إلفانتا" لم يبق منه إلا أنقاض، فهو دليل بأعمدته الضخمة المحفورة، ورؤوس الأعمدة التي على شكل نبات الفُطْر، ونقوشه البارزة التي لا يفوقها شيء في بابها، وتماثيله القوية (90)، هو بهذا كله دليل على عصر قويت فيه الروح القومية، وازدادت المهارة الفنية على نحو لا يكاد يعلق منه بالذاكرة شيء.
إنه ليستحيل علينا إلى الأبد أن نقدر الفن الهندي حق قدره، لأن الجهل والتعصب قد قضيا على أعظم آثاره، ثم كادت تدمر البقية الباقية منه؛ ففي "إلفانتا" أثبت البرتغاليون تقواهم بتحطيم التماثيل والنقوش البارزة على نحو من الهمجية لم يعرف حدوداً يقف عندها؛ وتكاد لا تجد مكاناً في الشمال لم يقوض فيه المسلمون تلك الروائع الباهرة التي يجمع رأي الرواة على أنها كانت أرفع قدراً من آيات العهد الذي تلا عهدها، مع أن هذه الأخيرة تثير فينا اليوم شعور العجب والإعجاب؛ لقد أطاح المسلمون برؤوس التماثيل، ثم حطموها عضواً عضواً، وعدلوا من الأعمدة الرشيقة التي كانت في معابد الجانتيين (91)
بحيث تصلح لمساجدهم، ثم قلدوها إلى حد كبير فيما صنعوه لأنفسهم؛ لقد تعاون الزمن والتعصب على عملية الهدم، ذلك لأن الهندوس المتمسكين بأصول عقيدتهم هجروا وأهملوا المعابد التي دنستها أيدي الأجانب حين مسَّتها (92).
لكنه في مقدورنا أن نحدس كم بلغت العمارة الهندية في الشمال من عظمة مفقودة، وذلك استدلالاً من الأبنية القوية التي لا تزال قائمة في الجنوب، حيث الحكم الإسلامي لم يتوغل إلا إلى حد ضئيل، وحيث أدى إلف المسلمين للأوضاع في الهند إلى الحدِّ من كراهيتهم لأساليب الحياة عند الهندوس؛ زد على ذلك أن العصر الزاهر لعمارة المعابد في الجنوب، جاء في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بعد أن راض "أكبر" المسلمين وعلمهم بعض الشيء كيف يقدرون الفن الهندي؛ فنتج عن ذلك أن أصبح الجنوب غنياً بمعابده، التي تسمو عادة على قريناتها التي ما زالت قائمة في الشمال، وتزيد عليها ضخامة وروعة؛ ولقد أحصى "فيرجسون" نحو ثلاثين معبداً "درافيديا" أي كائناً في الجنوب - كل معبد منها في رأيه لا بد أن يكون قد كلف ما تكلفه كاتدرائية إنجليزية من النفقات (93)؛ واصطنع الجنوب أنماط الشمال بأن جعلوا أمام الدهليز (ويسمونه ماندا بام) (بوابة واسمها جوبورام) ودعموا الدهليز بأعمدة أسرفوا في كثرتها، وراح هذا الجنوب يستخدم في غير تحفظ عشرات من الرموز، من الصليب المعقوف "السواستكتا" (1) ورمز الشمس وعجلة الحياة، إلى شتى ضروب الحيوان المقدس؛ فالثعبان رمز لعودة الروح بالتناسخ لما له من قدرة على تبديل جلده؛ والثور هو المثل الأعلى المرموق باعتباره رمزاً للقوة التناسلية، وعضو الذكورة يمثل تفوق "شيفا" في التناسل، وكثيراً ما كانوا يخلعون صورته على المعبد كله.
ويتألف تصميم البناء في هذه المعابد الجنوبية من ثلاثة عناصر هي: البوابة، والدهليز ذو الأعمدة والبرج (فيمانا) الذي يحتوي على قاعة الاجتماع السياسية أو الحجرة؛ ولو استثنينا حالات قليلة مثل قصر "تيرومالاناياك" في "مادورا" وجدنا كل العمارة في جنوب الهند كهنوتية، ذلك لأن الناس لم يُعنِهم كثيراً أن يبنوا دوراً فخمة لأنفسهم فتوجهوا بفنهم إلى الكهنة والآلهة؛ ولن نجد مثلاً أوضح من هذا نبين به إلا معابد من الأبنية الكثيرة التي أقامها الملوك الشالوكيون وشعبهم؛ ولا يستطيع أن يصف التناسق الجميل الذي تراه في ضريح "إتاجي" في حيدر أباد (1) أو المعبد القائم في "سمناثبور" في إقليم "ميسور" (96) الذي نقشت في صخوره الضخمة الجبارة نقوش رقيقة كأنها الوشى، أو معبد "هويشا ليشوارا" في "هاليبيدا" (97) وهي أيضاً في إقليم وميسور" - أقول لا يستطيع أن يصف التناسق البديع في هذا كله، سوى هندوسي ورع طلق اللسان؛ ويقول "فيرجسون" عن هذا المعبد الأخير "إنه أحد الأبنية التي يتخذها المدافع عن العمارة الهندية حجة تؤيد دفاعه، ثم يضيف إلى ذلك قوله: إن في هذا المعبد "ترى الفن في مزج الخطوط الأفقية بالخطوط الرأسية، وترى تصرف الفنان في التخطيط وفي النور والظل، مما يفوق بكثير أي أثر من آثار الفن القوطي؛ فوقع هذا المعبد في نفس الرائي هو بالضبط ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا منه قط هذه الدرجة من الكمال التي تراها في هاليبيدا" (98).
ولقد عجبنا لهذا الورع الدؤوب الذي في مستطاعه أن يحفر ألفاً وثمانمائة قدم من إفريز في معبد "هاليبيدا" وأن يصور فيها ألفي فيل، كل فيل منها يختلف عن كل ما عداه (99) فماذا نقول في الصبر والشجاعة اللذين استطاعا أن يضطلعا بحفر معبد بأسره من الحجر الأصم؟ ومع ذلك فقد كان هذا عملاً شائعاً لدى صنّاع الهنود، فقد نحتوا في "ممالابورام" على الساحل الشرقي بالقرب من "مدراس" عدة معابد (مما يسمى بادوجا) أجملها معبد" ذارما- راجا- راذا" معناها دير لأسمى الطوائف الدينية، وفي "إلورا"- وهو مكان يحج إليه المتعبدون في حيدر أباد- تنافس البوذيون والجانتيون والهندوس المتمسكون بعقيدتهم الأصلية، في احتقار معابد كبيرة ذات حجر واحد، من صخور الجبال؛ وأفخم هذه المعابد هو الضريح الهندوسي في "كايلاشا" (100) وقد أطلق عليه هذا الاسم نقلاً عن اسم الجنة الأسطورية التي تتبع "شيفا" في جبال الهمالايا؛ فها هنا ترى البناءين قد حفروا في غير كلل مائة قدم في جوف الصخر، ليفرغوا المكان حول الجلمود المطلوب - وكتلته مائتان وخمسون قدماً في الطول ومائة وستون قدماً في العرض - لتحويله إلي معبد، وبعدئذ حفروا الجدران فصيروها أعمدة قوية وتماثيل ونقشاً بارزاً، ثم نقروا جوف الحجر نقراً بالأزاميل حتى أفرغوه، وأسرفوا في زخرفة ذلك الداخل بأعجب ألوان الفنون، وليكن النقش الجداري الثابت الخطوط، والذي يطلق عليه اسم "المحبين" (101) مثلاً لها، وأخيراً عمدوا إلى حفر سلسلة من المُصلَّبات والأديرة عميقة في الصخر على ثلاثة من جوانب المعبد المحفور (102)، كأن ما صنعوه لم يكْف لاستنفاد كل ما يختلج في صدورهم من رغبة في البناء؛ وفي رأي بعض الهندوس (103) أن معبد "كايلاشا" يضارع أية آية من آيات الفن في تاريخه كله.
ومع ذلك فقد كان هذا البناء سخرة كما كانت الأهرامات من قبل، ولا بد أن يكون قد كلف طائفة كبيرة من الناس عرقهم ودماءهم، وأما الذي دأب بإرادته على هذه الأبنية دأباً لم يعرف الفتور، فالنقابات العمالية، أو أصحاب السلطان، لأنهم نثروا في كل إقليم من أقاليم الهند الجنوبية أضرحة جبارة بلغت من كثرة العدد حداً يوقع الحيرة في نفس الدارس أو السائح، حتى لينسى الخصائص القروية التي تميز كل معبد على حدة، إزاء كثرتها وقوتها؛ ففي "باتاداكال" أهدت "الملكة لوكاما هايفي" إحدى زوجات "الملك الشلوكيّ فكراماديتيا الثاني" - أهدت إلى "شيفا" "معبد ثيروباكشا" الذي يعد من أسمى المعابد العظيمة في الهند (104): وفي "تانجور" جنوبي "مدراس" اقتسم "الملك الكوليّ "راجا العظيم" - بعد أن فتح جنوبي الهند كله وجزيرة سيلان - اقتسم ما ظفر به من غنائم مع الإله "شيفا" بأن أقام له معبداً جليلاً صُمِّمَ بناؤه على أساس أن يمثل الرمز التناسلي لذلك الإله (1)؛ وبالقرب من "تريكبنوبولي" إلى الغرب من تانجور - أقام عُبّاد "فشنو" معبد "شِرِى رانجام" على تل عال، أخص خصائصه المميزة "ماندابام" (قاعة ذات أعمدة كثيرة) على هيئة "قاعة من ذوات الألف عمود" وكل عمود منها كتلة واحدة من الجرانيت، حفر بالنقوش المعقدة؛ وكان الصناع الهندوس لا يزالون ماضين في عملهم ليتمموا بناء هذا المعبد، حين جاءت رصاصات الفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يقاتلون في سبيل امتلاك الهند ففرقتهم، وانتهى بذلك عملهم (106)؛ وعلى مقربة من ذلك المكان - في مادورا - أقام الشقيقان "موتو" و "تيرومالا ناياك" ضريحاً فسيحاً لشيفا، فيه قاعة أخرى بألف عمود وحوض مقدس، وعشر بوابات، منها أربع ترتفع ارتفاعاً هائلاً، وقد نحتت بعدد كبير متشابك من التماثيل؛ وهذه الأجزاء مجتمعة تؤلف منظراً من أشد المناظر وقعاً في النفس مما عساك أن تصادفه في الهند؛ ويحق لنا أن نحكم استدلالاً من هذه النتف الباقية ما كانت عليه العمارة أيام ملوك "فيجاياناجار" من خصوبة فنية واتساع؛ وأخيراً ترى في "رامش فارام" وسط مجموعة الجزائر التي يتكون منها "جسر آدم" الواقع بين الهند وسيلان، أقام براهمة الجنوب خلال خمسة قرون (1200 - 1769 ميلادية) معبداً زُخْرِف محيطه بأروع ما قد تصادفه من أبهاء أو مماش - وطول هذا البهو أربعة آلاف قدم من العُمُد المزدوجة، نحتت نحتاً غاية في الجلال وأريد بها في تصميمها أن تفئ بظل بارد، وأن تمكن من مشاهدة مناظر رائعة للشمس والبحر، لملايين الحجاج الذين يلتمسون سبلهم إليها من مدن بعيدة حتى يومنا هذا لكي يتقدموا بآمالهم وآلامهم خُشَّعاً أمام آلهة لا تعبأ مما لهم من آمال وآلام.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)