المنشورات

العمارة في المستعمرات

سيلان - جاوه - كمبوديا - الخمارسة - ديانتهم -
أنكور - سقوط الخمارسة - سيام - بورما
على أن الفن الهندي قد صحب الديانة الهندية في عبورها للمضايق والحدود، حتى بلغا معاً سيلان وجاوه وكمبوديا وسيام وبورما والتبت وحوتان وتركستان ومنغوليا والصين وكوريا واليابان؛ ففي آسيا تخرج الطرق كلها من الهند" (107) فقد استقرت جماعات هندوسية جاءت من وادي الكنج، في جزيرة سيلان في القرن الخامس قبل المسيح؛ وبعد ذلك التاريخ بمائتي عام أرسل أشوكا بابنه وابنته ليحولا أهل تلك الجزيرة إلى البوذية، وعلى الرغم من أن هذه الجزيرة الغاصَّة بسكانها اضطرت إلى مقاومة الغزوات "التامِليّة" خمسة عشر قرناً، فقد استطاعت أن تحتفظ بثقافة خصبة حتى جاء البريطانيون واستولوا عليها سنة 1815.
بدأ الفن السنغالي بما يسمى "داجوبات" - والداجوبا ضريح قديم ذو قبة يشبه "أكمة المدافن" عند بوذيي الشمال، ثم تطورت "الداجوبات" حتى أصبحت معابد عظيمة تميز بآثارها العاصمة القديمة "أنوراذابورا" وقد كان مما أنتجه ذلك الفن عدد من تماثيل بوذا تعدّ بين أجمل التماثيل البوذية (108) كما أنتج "تشكيلة" كبيرة من التحف الفنية، ثم بلغ ختامه مؤقتاً حين أقام آخر ملك عظيم حكم سيلان - وهو الملك "شِرِى راجا سِنْغا" - "معبد السِّنْ" في "كاندي"؛ وكان من أثر فقدان البلاد استقلالها أن دب الانحلال في الطبقات العليا، فاختفت من سيلان تلك الرعاية وذلك الذوق اللذان لا بد منهما ليكونا حافزين وضابطين للفنان في عمله (109).
والعجيب أن أعظم المعابد البوذية - وقد يزعم بعض الباحثين أنه أعظم المعابد إطلاقاً في العالم كله (110) - ليس في الهند بل تراه في جاوه؛ ففي القرن الثامن فتحت أسرة "شايلندرا" السومطرية جزيرة جاوه، وأقامت فيها البوذية ديانة رسمية، وأعدت المال اللازم لبناء المعبد الضخم في "بوروبودور" (ومعناها بوذون كثيرون) (111)، والمعبد في ذاته معتدل الحجم غريب التصميم فهو عبارة عن " أكمة للمدافن" صغيرة يعلوها ما يشبه القبة، وتحيط بها اثنتان وسبعون أكيمة رصت حولها في دوائر متحدة المراكز؛ ولو كان هذا كل شيء لما كانت "بوروبودور" شيئاً مذكوراً؛ أما ما يخلع الجلال على البناء فقاعدته التي تبلغ مساحتها أربعمائة قدم مربعة، فهي مصطبة عظيمة تتألف من سبع درجات تتدرج صغراً كلما علوت معها، وفي كل درجة منها أركان للتماثيل، حتى لقط عَنّ لمن قاموا بنحت التماثيل في "بوروبودور" أن يقيموا تمثال بوذا في هذا الركن أو ذاك أربعمائة وستاً وثلاثين مرة، ولم يكْفِهم كل هذا، فنحتوا في جوانب الدّرَج ثلاثة أميال من النقوش البارزة يصورون بها ما ترويه الأساطير عن مولد صاحب القصيدة ونشأته وإشراق الحقيقة عليه، وأظهروا في كل ذلك مهارة جعلت هذه النقوش البارزة من أبدع مثيلاتها في آسيا (112)؛ وبلغت العمارة الجاوية أوجها في هذا الضريح البوذي الجبار، والمعابد البرهمية المجاورة في "برامبانام"، ثم انحدرت بعدئذ انحداراً سريعاً، فقد كانت جزيرة جاوه حيناً من الدهر قوة بحرية فارتفعت إلى الثروة والترف، ورعت في ظلها كثيراً من الشعراء؛ لكن ما جاءت سنة 1479 حتى أخذ المسلمون يعمرون هذا الفردوس الاستوائي، ومنذ ذلك الحين لم تنتج فناً ذا خطر، ثم وثب فيها الهولنديون سنة 1595، وجعلوا يستولون عليها إقليماً بعد إقليم مدى القرن التالي لذلك التاريخ، حتى بسطوا عليها سلطانهم كاملاً.
ولا يفوق معبد "بوروبودور" إلا معبد هندوسي واحد، وهو أيضاً ليس في الهند، ولو أن هذا المعبد قد طمسته الغابة البعيدة التي اكتنفته بأشجارها مدى قرون عدة، حتى جاء مستكشف فرنسي سنة 1858، وهو يشق لنفسه الطريق خلال الجزء الأعلى من وادي نهر ميكونج، وعندئذ وقع بصره خلال الأشجار والغصون، على منظر بدا له معجزة من المعجزات، إذ رأى معبداً ضخماً يبلغ في تصميم بنائه حداً من الجلال لا يكاد يصدقه العقل؛ رآه قائماً وسط الغابة، تلتف حوله: وتكاد تخفيه أغصان الشجر وأوراقه، وشهد في ذلك اليوم معابد كثيرة كان بعضها قد غطته الأشجار فعلا أو شَقَّته نصفين؛ فالظاهر أن هذا المستكشف قد وصل في أخر لحظة يمكن فيها أن يحول دون انتصار الأشجار الملتفة على هذه الآيات التي أبدعتها يد الإنسان، ولم يؤمن أحد بصدق ما رواه هذا الرحالة "هنري موهو" حتى ذهب إلى المكان غيره من الأوربيين وأيدوا روايته؛ وبعدئذ هبطت بعثة علمية على ذلك المكان الذي قد كان يوماً صومعة مسكونة، وقامت مدرسة بأسرها في باريس، هي "مدرسة الشرق الأقصى" كرست نفسها لرسم هذا البناء المستكشف ودراسته؛ هذا هو "أنجوروات" الذي يعد اليوم أعجوبة من أعاجيب العالم (1).
كان يسكن الهند الصينية، أو كمبوديا، في نهاية التاريخ المسيحي، قوم أغلبهم من الصينيين، ومنهم فريق من أهل التبت، وكان هؤلاء السكان في جملتهم يسمون بالخمارسة (أو الخمبوجيين)؛ فلما زار "تشيو - نا - خوان" - وكان يسفر لقبلاي خان - عاصمة "خامر" واسمها "انكورثوم"، وجد حكومة قوية تحكم أمة جمعت ثراءها من أرزها وعرقها، ويقول "تشيو " إن ملكهم كانت له خمس زوجات "إحداهن خاصة، والأربع الأخريات يقابلن الجهات الرئيسية الأربع" كما كان له نحو أربعة آلاف محظية يحددن أوضاع إبرة البوصلة على تفصيل أدق (114)؛ وكانت البلاد تزخر بذهبها وحليها، والبحيرة مليئة بزوارق النزهة، وشوارع العاصمة غاصة بالعربات والهوادج ذات الستائر، والفيلة المطهمة، وكان سكانها يقربون من المليون، ومستشفياتهم كانت ملحقة بمعابدهم، ولكل منها جماعتها الخاصة من ممرضات وأطباء (115).
ولئن كان السكان صينيين، فقد كانت ثقافتهم هندية، تقوم دياناتهم على أساس بدائي هو عبادة الثعبان "ناجا" الذي ترى رأسه المروحية أينما وجهت النظر في الفن الكمبودي، وبعدئذ دخل آلهة الهندوسيين الكبار، الذين يكوّنون الثالوث الهندي وهم براهما: وفشنو، وشيفا, دخلوا تلك البلاد عن طريق بورما؛ وفي الوقت نفسه تقريباً جاء بوذا وارتبط عندهم بفشنو وشيفا، وأصبح إلهاً مقرباً عند الخمارسة، وتنبئنا النقوش عن الكميات الهائلة من الأرز والزبد والزيوت النادرة التي كان يقدمها الشعب كل يوم إلى القائمين بخدمة الآلهة (116).
وفي أواخر القرن التاسع, أهدى الخمارسة إلى الإله شيفا أقدم ما بقي لنا من معابدهم - معبد بايون - وهو الآن خراب منفر تكسوه إلى نصفه أنواع من النبات الذي يمسك بجذوره في الجدران فلا يزول عنها، وأما أحجاره التي وضعت بغير ملاط، فقد تباعدت في غضون الألف عام التي انقضت، حتى نتج عن تباعدها مَطٌّ في وجوه براهما وشيفا، على نحو جعلها تبدو مكشِّرة عن أنيابها في ابتسامة صفراء لا تليق بالآلهة، ومن تمثيل هذين الإلهين تكاد تتكوّن الأبراج كلها، وبعد ذلك بثلاثة قرون استخدم العبيد ومن جاء بهم الملوك من أسرى الحرب في بناء "أبحوروات" (117) وهي آية فنية تضارع أجمل الآثار المعمارية عند المصريين أو اليونان أو بناء الكاتدرائيات في أوربا، ويحيط بهذا المعبد فندق كبير طوله اثنا عشر ميلاً، ويَعْبُرُ الخندق جسرٌ مرصوف تحرسه ثعابين الناجا المخيفة نحتت من الحجر، وبعدئذ يجيء جدار مزخرف يحيط بالمعبد، تتلوه أبهاء فسيحة على جدرانها نقوش بارزة تقص من جديد حكايات "الماهابهاراتا" و"رامايانا" ثم بعدئذ يجيء البناء نفسه بما له من جلال، ينهض على رقعة فسيحة، درجة فوق درجة كأنه هرم مدرج، حتى يصل إلى حرم الإله الذي يرتفع مائتي قدم؛ وضخامة الحجم في هذا المعبد لا تقلل من روعة الجمال، بل تتعاون الضخامة مع الجمال فيتكون منهما جلال يروع النفس، ويهز عقل المشاهِد الغربّي هزّاً حتى يتبين في غموض ذلك المجد القديم الذي ظفرت به المدنية الشرقية يوماً؛ فقد يستطيع المشاهد أن يرى بعين الخيال تلك العاصمة وقد زخرت بساكنيها، وحشد العبيد وهم ينحتون ثقال الأحجار ويجرونها ويرفعونها، وطوائف الصناع وهم ينقشون النقوش البارزة وينحتون التماثيل في أناة كأنما يستحيل أن يفلت الزمن من أيديهم قبل أن يفرغوا من عملهم؛ وجماعة الكهنة وهم يخدعون الناس ويُسرّون عن نفوسهم و "زانيات المعبد" (وما زلن مرسومات على الجرانيت) وهن يغوين الناس ويسرِّين عن نفوس الكهنة؛ وهل الطبقة العالية وهم يبنون القصور شبيهة ببناء "فنيان آكا" بما له من "شرفة شرفية" فسيحة؛ ثم يرتفع فوق هؤلاء جميعاً، بمجهود الناس جميعاً، الملوك القساة الأقوياء.
كان الملوك بحاجة إلى كثرة من العبيد، فلم يجدوا بداً من إثارة الحروب الكثيرة، وكان النصر حليفهم غالباً، حتى اقترب القرن الثالث عشر من ختامه - وكان ذلك "في منتصف الطريق" من حياة دانتي - هزمت جيوش سيام هؤلاء الخمارسة، ونهبوا مدنهم، وتركوا معابدهم المتألقة وقصورهم الأنيقة خراباً بلقعاً؛ وترى اليوم قلة من الزائرين يتخللون الأحجار التي تخلخل بنيانها، ويشاهدون كيف دأبت الأشجار في صبر لا ينفد على الضرب بجذورها، أو النفاذ بغصونها في ثنايا الصخور، تنزعها بعضها عن بعض شيئاً فشيئاً، لأن الأحجار ليس فيها ما في الشجر من رغبة تعمل على تحقيقها فتنمو، ويحدثنا "تشيو - تا - خوان" عن الكتب الكثيرة التي كتبها الناس في "أنكور" لكنه لم يبق لنا من هذه المؤلفات صفحة واحدة؛ لأنهم صنعوا ما نصنعه نحن الآن، وهو أنهم كتبوا أفكاراً سريعة الزوال على نسيج سريع الفناء، ومات كل ما قد ظنوا به الخلود؛ إن النقوش البارزة الرائعة تصور الرجال والنساء وقد لبسوا غلالات وشباكاً ليتقوا البعوض والزواحف الثعبانية الملمس، أما الرجال والنساء فقد انحدروا إلى فناء، لا يخلدون إلا على الصخور وأما البعوض والضَّباب فما تزال باقية.
وعلى مقربة من تلك البلاد تقع سيام التي أخذ شعبها - ونصفه من التبت ونصفه الأخر من الصين - بطرد الخمارسة الفاتحين شيئاً فشيئاً وارتقى بمدينة قائمة على أساس من الديانة الهندية والفن الهندي، وبعد أن تغلبت سيام على "كمبوديا" بنى أهلها لأنفسهم عاصمة جديدة، هي "أيوذيا" على نفس الموقع الذي كانت تقوم عليه مدينة الخمارسة القديمة؛ ومن هذا المركز وسعوا من نطاق نفوذهم حتى إذا ما دنا التاريخ من عام 1600، كانت إمبراطوريتهم تشمل جنوبي بورما وكمبوديا وشبه جزيرة الملايو؛ ووصلت تجارتهم إلى الصين شرقاً وإلى أوربا غرباً، وقام فنانوهم بزخرفة المخطوطات، والرسم على الخشب بدهان "اللُّكْ" وإحراق الخزف على نحو ما يفعل الصينيون، والوشي على القماش الحريري الجميل، وكانوا أحياناً ينحتون تماثيل من الطراز الأول (1)؛ ودار التاريخ دورته التي لا يصدر فيها عن هوى، وإذا بأهل بورما يستولون على "أيوذيا" ويخربونها بكل ما فيها من فنون؛ فابتنى السياميون في عاصمتهم الجديدة "بنكوك" معبداً عظيماً، فيه إسراف في الزخرفة، لكنه على كل حال إسراف لا يخفي جمال تصميمه إخفاء تاماً.
كان أهل بورما من أعظم من شهدت آسيا من بناة للعمارة؛ فقد جاءوا هابطين على هذه الحقول الخصبة من منغوليا والتبت، فوقعوا تحت تأثير الهنود، وأخذوا منذ القرن الخامس ينتجون الفنون في كثرة غزيرة على الطرز البوذية والفشناوية والشيفاوية، فينحتون التماثيل على غرار هذه الأنماط، ويقيمون "أكمات المدافن" التي بلغوا بها ذروتهم في معبد "أناندا" العظيم - وهو أحد المعابد في عاصمتهم القديمة "باجان" التي بلغ عدد معابدها خمسة آلاف؛ لكن "باجان" هذه وقعت فريسة لقبلاي خان فسلبها سلباً، ولبثت الحكومة البورمية مدى خمسمائة عام تنتقل من عاصمة إلى عاصمة؛ فكانت "مندلاي" حيناً من الدهر هي المركز الزاهر للحياة في بورما، ومستقر رجال الفن الذين أنتجوا الآيات الروائع في نواح كثيرة؛ من الوشي وصياغة الحلي إلى بناء القصر الملكي الذي نهض دليلاً على مدى استطاعتهم الفنية في المادة الهزيلة التي كانت تحت أيديهم، وهي الخشب (119)؛ وجاء الإنجليز إذ ساءهم ما عومل به مبشّروهم وتجارهم، فضموا بورما إلى أملاكهم سنة 1886، ونقلوا العاصمة إلى "رانجون"، وهي مدينة تقع في متناول البحرية الإمبراطورية، لتؤدبها إذا وقع فيها شيء من العصيان؛ فشيد البورميون في "رانجون" ضريحاً يعدّ من أبدع ما لديهم من أضرحة، وهو "شوي داجون" المشهور، ذلك المعبد الذهبي الذي يحج إلى قمته الملايين في إثر الملايين من بوذيي بورما كل عام، ولم لا؟ أليس يشتمل هذا المعبد على الشعرات نفسها التي كانت تغطي "شاكيا موني"؟ 














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید