المنشورات

الدولة الوسطى الزاهرة الصين

وصف البلاد الجغرافي - الجنس الصيني - ما قبل التاريخ
إذا عددنا الروسيا بلادا أسيوية- وقد كانت كذلك إلى أيام بطرس الأكبر وقد تعود أسيوية مرة أخرى- لم تكن أوربا الا أنفا مسننا في جسم آسية، وامتدادا يشتغل بالصناعة من خلفه قارة زراعية كبيرة، ومخالب أو نتوءات ممتدة من قارة جبارة مهولة. وتشرف الصين على تلك القارة المترامية الأطراف، وهي لا تقل عن أوربا في اتساع رقعتها وتعداد عامرها. 

وقد كان يكتنفها في معظم مراحل تاريخها أكبر المحيطات وأعلى الجبال، وصحراء من أوسع صحارى العالم.
لذلك استمتعت بلاد الصين بعزلة كانت هي السبب في حظها النسبي من السلامة والدوام، والركود وعدم التغيير، وهو حظ كبير اذا قيس إلى حظ غيرها من الامم. ومن أجل هذا فان الصينيين لم يسموا بلادهم- الصين، بل سموها تيان- هوا- "تحت السماء " أو زهاي- "بين البحار الاربعة"-أو جونج- جوو "الدولة الوسطى"- أو جونج- هوا- جوو- "الدولة الوسطى الزاهرة" أو الاسم الذي سماها به مرسوم الثورة جونج- هوا- مين- جوو- "مملكة الشعب الوسطى الزاهرة". والحق ان الازهار اليانعة كثيرة فيها، كما ان فيها كل المناظر الطبيعية المختلفة التي يمكن ان تهبها اياها الشمس الساطعة، والسحب السابحة، وشعاب الجبال الوعرة، والانهار العظيمة، والاغوار العميقة، والشلالات الدافقة بين التلال العابسة. ويجري في قسمها الجنوبي الخصيب نهر يانج- دزه (1) الذي يبلغ طوله ثلاثة آلاف ميل، وفي الشمال يتحدر الهوانج هو، أو النهر الأصفر من سلاسل الجبال الغربية مخترقا سهولا من اللويس، ويحمل معه الغرين ليصبه الآن في خليج بتشيلي، وكان من قبل يصبه في البحر الاصفر، ولعله سيعود في الغد فيصبه في هذا البحر مرة أخرى. على ضفاف هذين النهرين وعلى ضفتي نهر الواي وغيره من المجاري الواسعة، بدأت الحضارة الصينية تنتزع الارض من الوحوش والآجام، وتصد عنها الهمج المحيطين بها، وتنظف الارض من الحسك والعليق، وتطهرها من الحشرات المهلكة والرواسب الأكالة القارضة كأملاح البوتاسا وغيرها. وتجفف المناقع، وتقاوم الجفاف والفيضان، وما يطرأ على مجاري الأنهار من تحول يعود على البلاد وسكانها بالخراب والهلاك، وتجري الماء في صبر وحذر من اولئك الاعداء الأوداء في آلاف القنوات، وتقيم يوما بعد يوم خلال القرون الطوال أكواخا وبيوتا ومعابد ومدارس وقرى ومدنا ودولا. ألا ما أطول الآجال التي يكد الناس خلالها ليشيدوا صرح الحضارة التي يدمرونها في سهولة وسرعة عجيبتين!
وليس في الناس من يعرف من أين جاء الصينيون، أو إلى أي جنس ينتسبون، أو متى بدأت حضارتهم في الزمن القديم. وكل ما نستطيع أن نقوله واثقين أن بقايا "انسان بيكين" (1) توحي بأن القردة البشرية جد قديمة في بلاد الصين. وقد استنتج أندروز Andrews من بحوثه في تلك البلاد أن منغوليا كان يعمرها من عشرين ألف سنة قبل الميلاد أجيال من الناس تشبه أدواتهم الأدوات "الأزيلية" التي كانت أوربا تستخدمها في العصر الحجري الأوسط، وأن خلفاء هذه الاجيال انتشروا في سيبيريا والصين حينما جفت منغوليا الجنوبية وأجدبت واستحالت إلى صحراء جوبي الحالية. وتدل كشوف أندرسن Anderson وغيره في هونان ومنشوريا الجنوبية على أن ثقافة تنتسب إلى العصر الحجري الحديث وجدت في تلك البلاد متأخرة بألفي عام من مثيلتها في عصر ما قبل التاريخ في مصر وسومر. ويشبه بعض ما وجد من الادوات في الرواسب الباقية من العصر الحجري الحديث، في شكله وتسنينه، المدى الحديدي التي يستخدمها سكان الصين الشمالية في هذه الايام لحصاد الذرة الصينية (2)، وهذه الحقيقة على ضآلة شأنها ترجح القول بأن الثقافة الصينية قد دامت سبعة آلاف عام متواصلة غير منقطعة، وهو عهد ما أطوله، وقل أن يوجد له في غير الصين نظير (15). 

على أن طول هذه العهود يجب ألا يغشى أبصارنا فنبالغ في تجانس هذه الثقافة أو تجانس الشعب الصيني نفسه. فقد يلوح أن بعض فنونهم وصناعاتهم الأولى جاءتهم من بلاد النهرين والتركستان. من ذلك أن خزف هونان المنتمي إلى العصر الحجري الحديث لا يكاد يفترق في شيء عن خزف أنو والسوس.
والجنس "المغولي" الحاضر مزيج معقد اختلطت فيه السلالة البدائية مرارا وتكرارا بمئات السلالات الغازية أو المهاجرة من منغوليا وجنوب الروسيا) السكوذيين (ووسط آسية.
فالصين من هذه الناحية كالهند يجب ان نشبهها بأوربا بأكملها لا بأمة واحدة من أممها؛ فليست هي موطنا موحدا لأمة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الاصول متباينة اللغات غير متجانسة في الاخلاق والفنون؛ وكثيرا ما يعادي بعضها بعضا في العادات والمبادئ الخلقية والنظم الحكومية. 











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید