وترك كنفوشيوس وراءه خمسة مجلدات يلوح أنه كتبها أو أعدها للنشر بيده هو نفسه، ولذلك أصبحت تعرف في الصين باسم "الجنحات الخمسة" أو "كتب القانون الخمسة". وكان أول ما كتبه منها هو اللي- جي أو سجل المراسم، لاعتقاده أن هذه القواعد القديمة من آداب اللياقة من الأسس الدقيقة التي لا بد منها لتكوين الأخلاق ونضجها، واستقرار النظام الاجتماعي والسلام.
ثم كتب بعدئذ ذيولاً وتعليقات على كتاب إلاي- جنج أو كتاب التغيرات، وكان يرى أن هذا الكتاب خير ما أهدته الصين إلى ذلك الميدان الغامض ميدان علم ما وراء الطبيعة الذي كان جد حريص على ألا يلج بابه في فلسفته. ثم اختار ورتب الشي- جنج أو كتاب الأناشيد ليشرح فيه كنه الحياة البشرية ومبادئ الأخلاق الفاضلة. وكتب بعد ذلك التشو- شيو أو حوليات الربيع والخريف، وقد سجل فيه تسجيلاً موجزاً خالياً من التنميق أهم ما وقع من الأحداث في "لو" موطنه الأصلي. وكان خامس أعماله الأدبية وأعظمها نفعا أنه أراد أن يوحي إلى تلاميذه أشرف العواطف وأنبل الصفات فجمع في الشو- جنج أي كتاب التاريخ أهم وأرقى ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث أو الأقاصيص التي تسمو بها الأخلاق وتشرف الطباع، وذلك حين كانت الصين إمبراطورية موحدة إلى حد ما وحين كان زعماؤها، كما يظن كنفوشيوس، أبطالاً يعملون في غير أنانية لتمدين الشعب ورفع مستواه.
ولم يكن وهو يعمل في هذه الكتب يرى أن وظيفته هي وظيفة المؤرخ بل كان فيها كلها معلماً ومهذباً للشباب، ومن أجل هذا اختار عن قصد من أحداث الماضي ما رآه ملهماً لتلاميذه لا موئساً لهم.
فإذا ما عمدنا إلى هذه المجلدات لنستقي منها تاريخاً علمياً نزيها لبلاد الصين فإنا بهذا العمل نظلم كنفوشيوس أشد الظلم. فقد أضاف إلى الحوادث الواقعية خطباً وقصصاً من عنده، صب فيها أكثر ما يستطيع من الحض على الأخلاق الكريمة والإعجاب بالحكمة. وإذا كان قد جعل ماضي بلاده مثلاً أعلى بين ماضي الشعوب، فإنه لم يفعل أكثر مما نفعله نحن%=?يريد الأمريكيين. ? بماضينا الذي لا يعدل ماضي الصين في قدمه. وإذا كان رؤساء جمهوريتنا الأولون قد أضحوا حكماء وقديسين، ولما يمض عليهم أكثر من قرن أو قرنين من الزمان، فإنهم سيكونون بلا شك في نظر المؤرخ الذي يُحَدّث عنهم بعد ألف عام من هذه الأيام مثلاً علياً للفضيلة والكمال شأنهم في هذا شأن يو وشون.
ويضيف الصينيون إلى هذه الجنحات الخمسة أربع شوءات أو "كتب" (كتب الفلاسفة) يتكون منها كلها "التسعة الكتب القديمة". وأول هذه الكتب وأهمها جميعاً كتاب لوق بو أو الأحاديث والمحاورات المعروف عند قُرَّاء اللغة الإنجليزية باسم "مجموعة الشذرات" أي شذرات كنفوشيوس، كما سماه "لج Legge" في إحدى نزواته، وليست تلك الكتب مما خطه قلم المعلم الكبير، ولكنها تسجل في إيجاز ووضوح منقطعي النظير آراءه وأقواله كما يذكرها أتباعه. وقد جمعت كلها بعد بضع عشرات السنين من وفاته، ولعل الذين جمعوها هم مريدو مريديه (94)، وهي أقل ما يرتاب فيه من آرائه الفلسفية. وأكثر ما في الكتب الصينية القديمة طرافة وأعظمها تهذيباً ما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة (1) من الشو الثاني، وهو المؤلف المعروف عند الصينيين باسم الداشوه أو التعليم الأكبر. ويعزو الفيلسوف والناشر الكنفوشي جوشي هاتين الفقرتين إلى كنفوشيوس نفسه كما يعزو باقي الرسالة إلى دزنج- تسان أحد أتباعه الصغار السن. أما كايا- كويه العالم الصيني الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد فيعزوهما إلى كونج جي حفيد كنفوشيوس؛ على حين أن علماء اليوم المتشككين يجمعون على أن مؤلفهما غير معروف (95). والعلماء كلهم متفقون على أن حفيده هذا هو مؤلف كتاب جونج يونج أو عقيدة الوسط وهو الكتاب الفلسفي الثالث من كتب الصين. وآخر هذه الشوءات هو كتاب منشيس الذي سنتحدث عنه توّاً. وهذا الكتاب هو خاتمة الآداب الصينية القديمة وإن لم يكن خاتمة العهد القديم للفكر الصيني. وسنرى فيما بعد أنه خرج على فلسفة كنفوشيوس التي تعد آية في الجمود والمحافظة على القديم متمردون عليها وكفرة بها ذوو مشارب وآراء متعددة متباينة.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)