المنشورات

لا أدرية كنفوشيوس

هتامة في المنطق - الفلاسفة والصبيان - دستور للحكمة
فلنحاول أن نكون منصفين في حكمنا على هذه العقيدة. ولنقرّ بأنها ستكون نظرتنا إلى الحياة حين يجاوز الواحد منا الخمسين من عمره، ومبلغ علمنا أنها قد تكون أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل والحكمة من شعر شبابنا. وإذا كنا نحن ضالين وشباناً فإنها هي الفلسفة التي يجب أن نقرن بها فلسفتنا نحن، لكي ينشأ مما لدينا من أنصاف الحقائق شئ يمكن فهمه وإدراكه.
ولا يظن القارئ أنه سيجد في لا أدرية كنفوشيوس نظاماً فلسفياً- أي بناء منسقاً من علوم المنطق وما وراء الطبيعة والأخلاق والسياسة تسري فيه كله فكرة واحدة شاملة (فتحيله أشبه بقصور نبوخذ ناصر (بختنصّر) التي نقش اسمه على كل حجر من حجارتها).
لقد كان كنفوشيوس يعلّم أتباعه فن الاستدلال، ولكنه لم يكن يعلمهم إياه بطريق القواعد أو القياس المنطقي، بل بتسليط عقله القوي تسليطاً دائماً على آراء تلاميذه؛ ولهذا فإنهم كانوا إذا غادروا مدرسته لا يعرفون شيئاً عن المنطق ولكن كان في وسعهم أن يفكروا تفكيراً واضحاً دقيقاً.
وكان أول الدروس، التي يلقيها عليهم المعلم، الوضوح والأمانة في التفكير والتعبير، وفي ذلك يقول: "كل ما يقصد من الكلام أن يكون مفهوما" (96) - وهو درس لا تذكره الفلسفة في جميع الأحوال. "فإذا عرفت شيئاً فتمسك بأنك تعرفه؛ وإذا لم تعرفه؛ فأقرّ بأنك لا تعرفه- وذلك في حد ذاته معرفة" (97). وكان يرى أن غموض الأفكار، وعدم الدقة في التعبير، وعدم الإخلاص فيه، من الكوارث الوطنية القومية. فإذا كان الأمير الذي ليس أميراً بحق والذي لا يستمتع بسلطان الإمارة لا يسميه الناس أميراً، وإذا كان الأب الذي لا يتصف بصفات الأبوة لا يسميه الناس أباً، وإذا كان الابن العاق لا يسميه الناس ابناً؛ إذا كان هذا كله فإن الناس قد يجدون في "تزه- لو" ما يحفزهم إلى إصلاح تلك العيوب التي طالما غطتها الألفاظ. ولهذا فإنه لما قال لكنفوشيوس: "إن أمير ويه في انتظارك لكي تشترك معه في حكم البلاد فما هو في رأيك أول شيء ينبغي عمله؟ فأجابه كنفوشيوس جوابا دهش له الأمير والتلميذ: "إن الذي لا بد منه أن تصحح الأسماء" (98).
ولما كانت النزعة المسيطرة على كنفوشيوس هي تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك وعلى الحكم فقد كان يتجنب البحث فيما وراء الطبيعة، ويحاول أن يصرف عقول أتباعه عن كل الأمور الغامضة أو الأمور السماوية. صحيح أن ذكر "السماء" والصلاة (99) كان َيرِدْ على لسانه أحياناً، وأنه كان ينصح أتباعه بألا يغفلوا عن الطقوس والمراسم التقليدية في عبادة الأسلاف والقرابين القومية (100)، ولكنه كان إذا وجه إليه سؤال في أمور الدين أجاب إجابة سلبية جعلت شرّاح آرائه المحدثين يجمعون على أن يضموه إلى طائفة اللا أدريين (101). فلما أن سأله تزه- كونج، مثلا: "هل لدى الأموات علم بشيء أو هل هم بغير علم؟ " أبى أن يجيب جواباً صريحاً (102). ولما سأله كي -لو، عن "خدمة الأرواح" (أرواح الموتى) أجابه "إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم؟ ". وسأله كي- لو: "هل أجرؤ على أن أسألك عن الموت؟ " فأجابه: "إذا كنت لا تعرف الحياة، فكيف يتسنى لك أن تعرف شيئاً عن الموت" (103). ولما سأله فارشي عن "ماهية الحكمة" قال له: "إذا حرصت على أداء واجبك نحو الناس، وبعدت كل البعد عن الكائنات الروحية مع احترامك إياها أمكن أن تسمي هذه حكمة" (104).
ويقول لنا تلاميذه إن "الموضوعات التي لم يكن المعلم يخوض فيها هي الأشياء الغريبة غير المألوفة، وأعمال القوة، والاضطراب، والكائنات الروحية" (105). وكان هذا التواضع الفلسفي يقلق بالهم، وما من شك في أنهم كانوا يتمنون أن يحل لهم معلمهم مشاكل السموات ويطلعهم على أسرارها. ويقص علينا كتاب- لياتزه وهو مغتبط قصة غلمان الشوارع الذين أخذوا يسخرون من كنفوشيوس حين أقر لهم بعجزه عن هذا السؤال السهل وهو: "هل الشمس أقرب إلى الأرض في الصباح حين تبدو أكبر ما تكون، أو في منتصف النهار حين تشتد حرارتها" (106). وكل ما كان كنفوشيوس يرضى أن يقره من البحوث فيما وراء الطبيعة هو البحث عما بين الظواهر المختلفة جميعهاً من وحدة، وبذل الجهد لمعرفة ما يوجد من تناغم وانسجام بين قواعد السلوك الحسن واطراد النظم الطبيعية.
وقال مرة لأحد المقربين إليه: "أظنك يا تزه تعتقد أني من أولئك الذين يحفظون أشياء كثيرة ويستبقونها في ذاكرتهم؟ " فأجابه تزه- كونج بقوله: "نعم أظن ذلك ولكني قد أكون مخطئاً في ظني؟ " فرد عليه الفيلسوف قائلا "لا، إني أبحث عن الوحدة، الوحدة الشاملة" (107) وذلك بلا ريب هو جوهر الفلسفة.
وكانت الأخلاق مطلبه وهمه الأول، وكان يرى أن الفوضى التي تسود عصره فوضى خلقية، لعلها نشأت من ضعف الإيمان القديم وانتشار الشك السفسطائي في ماهية الصواب والخطأ. ولم يكن علاجها في رأيه هو العودة إلى العقائد القديمة، وإنما علاجها هو البحث الجدي عن معرفة أتم من المعرفة السابقة وتجديد أخلاقي قائم على تنظيم حياة الأسرة على أساس صالح قويم. والفقرتان الآتيتان المنقولتان عن كتاب التعليم الأكبر تعبران أصدق تعبير وأعمقه عن المنهج الفلسفي الكنفوشي.
"إن القدامى الذين أرادوا أن ينشروا أرقى الفضائل في أنحاء الإمبراطورية قد بدءوا بتنظيم ولاياتهم أحسن تنظيم، ولما أرادوا أن يحسنوا تنظيم ولاياتهم بدءوا بتنظيم أسرهم، ولما أرادوا تنظيم أسرهم بدءوا بتهذيب نفوسهم؛ ولما أرادوا أن يهذبوا نفوسهم بدءوا بتطهير قلوبهم، ولما أرادوا أن يطهروا قلوبهم عملوا أولاً على أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم؛ ولما أرادوا أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم بدءوا بتوسيع دائرة معارفهم إلى أبعد حد مستطاع، وهذا التوسع في المعارف لا يكون إلا بالبحث عن حقائق الأشياء.
فلما أن بحثوا عن حقائق الأشياء أصبح علمهم كاملاً، ولما كمل علمهم خلصت أفكارهم، فلما خلصت أفكارهم تطهرت قلوبهم، ولما تطهرت قلوبهم، تهذبت نفوسهم، ولما تهذبت نفوسهم انتظمت شئون أسرهم، ولما انتظمت شئون أسرهم صلح حكم ولاياتهم؛ ولما صلح حكم ولاياتهم أضحت الإمبراطورية كلها هادئة سعيدة (108).
تلك هي مادة الفلسفة الكنفوشية، وهذا هو طابعها، وفي وسع الإنسان أن ينسى كل ما عدا هذه الألفاظ من أقوال المعلم وأتباعه، وأن يحتفظ بهذه المعاني التي هي "جوهر الفلسفة وقوامها" وأكمل مرشد للحياة الإنسانية. ويقول كنفوشيوس "إن العالم في حرب لأن الدول التي يتألف منها فاسدة الحكم؛ والسبب في فساد حكمها أن الشرائع الوضعية مهما كثرت لا تستطيع أن تحل محل النظام الاجتماعي الطبيعي الذي تهيئه الأسرة. والأسرة مختلة عاجزة عن تهيئة هذا النظام الاجتماعي الطبيعي، لأن الناس ينسون أنهم لا يستطيعون تنظيم أسرهم من غير أن يُقوّموا نفوسهم وهم يعجزون عن أن يقوموا أنفسهم لأنهم لم يطهروا قلوبهم أي أنهم لم يطهروا نفوسهم من الشهوات الفاسدة الدنيئة؛ وقلوبهم غير طاهرة لأنهم غير مخلصين في تفكيرهم، لا يقدرون الحقائق قدرها ويخفون طبائعهم بدل أن يكشفوا عنها؛ وهم لا يخلصون في تفكيرهم لأن أهواءهم تشوه الحقائق وتحدد لهم النتائج بدل أن يعملوا على توسيع معارفهم إلى أقصى حد مستطاع ببحث طبائع الأشياء بحثاً منزهاً عن الأهواء. فليسع الناس إلى المعارف المنزهة عن الهوى يخلصوا في تفكيرهم، وليخلصوا في تفكيرهم تتطهر قلوبهم من الشهوات الفاسدة؛ ولتطهر قلوبهم على هذه الصورة تصلح نفوسهم؛ ولتصلح نفوسهم تصلح من نفسها أحوال أسرهم؛ وليس الذي تصلح به هذه الأسر هو المواعظ التي تحث على الفضيلة أو العقاب الشديد الرادع، بل الذي يصلحها هو، ما للقدوة الحسنة من قوة صامتة؛ ولتنظم شئون الأسرة عن طريق المعرفة والإخلاص والقدوة الصالحة، يتهيأ للبلاد من تلقاء نفسه نظام اجتماعي يتيسر معه قيام حكم صالح.
ولتحافظ الدولة على الهدوء في أرضها والعدالة في جميع أرجائها يسد السلام العالم بأجمعه ويسعد جميع من فيه- تلك نصيحة تدعو إلى الكمال المطلق وتنسى أن الإنسان حيوان مفترس؛ ولكنها كالمسيحية تحدد لنا هدفاً نسعى لندركه وسلماً نرقاه لنصل به إلى هذا الهدف. وما من شك في أن في هذه النصوص قواعد فلسفية ذهبية.












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید