المنشورات

طريقة الرجل الأعلى كونفوشيوس

صورة أخرى من صور الحكيم - عناصر الأخلاق - القاعدة الذهبية
وإذن فالحكمة تبدأ في البيت، وأساس المجتمع هو الفرد المنظم في الأسرة المنتظمة، وكان كنفوشيوس يتفق مع جوته في أن الرُقيّ الذاتي أساس الرُقيّ الاجتماعي؛ ولما سأله تزه- لو "ما الذي يكون الرجل الأعلى؟ " أجابه بقوله "أن يثقف نفسه بعناية ممزوجة بالاحترام" (109). ونحن نراه في مواضع متفرقة من محاوراته يرسم صورة الرجل المثالي كما يراه هو جزءاً جزءاً- والرجل المثالي في اعتقاده هو الذي تجتمع فيه الفلسفة والقداسة فيتكون منهما الحكيم. والإنسان الكامل الأسمى في رأي كنفوشيوس يتكون من فضائل ثلاث كان كل من سقراط ونيتشه والمسيح يرى الكمال كل الكمال في كل واحدة منها بمفردها؛ وتلك هي الذكاء والشجاعة وحب الخير. وفي ذلك يقول: "الرجل الأعلى يخشى ألا يصل إلى الحقيقة، وهو لا يخشى أن يصيبه الفقر .. وهو واسع الفكر غير متشيع إلى فئة .. وهو يحرص على ألا يكون فيما يقوله شئ غير صحيح" (110).
ولكنه ليس رجلاً ذكياً وحسب، وليس طالب علم ومحباً للمعرفة وكفى، بل هو ذو خلق وذو ذكاء. "فإذا غلبت فيه الصفات الجسمية على ثقافته وتهذيبه كان جلفاً، وإذا غلبت فيه الثقافة والتهذيب على الصفات الجسمية تمثلت فيه أخلاق الكتبة؛ أما إذا تساوت فيه صفات الجسم والثقافة والتهذيب وامتزجت هذه بتلك كان لنا منه الرجل الكامل الفضيلة" (111). فالذكاء هو الذهن الذي يضع قدميه على الأرض.
وقوام الأخلاق الصالحة هو الإخلاص، "وليس الإخلاص الكامل وحده هو الذي يميز الرجل الأعلى" (112) "إنه يعمل قبل أن يتكلم، ثم يتكلم بعدئذ وفق ما عمل" (113) "ولدينا في فن الرماية ما يشبه طريقة الرجل الأعلى. ذلك أن الرامي إذا لم يصب مركز الهدف رجع إلى نفسه ليبحث فيها عن سبب عجزه" (114).
"إن الذي يبحث عنه الرجل الأعلى هو ما في نفسه؛ أما الرجل المنحط فيبحث عما في غيره .. والرجل الأعلى يحزنه نقص كفايته، ولا يحزنه .. ألا يعرفه الناس"، ولكنه مع ذلك "يكره أن يفكر في ألاّ يذكر اسمه بعد موته" (115) وهو متواضع في حديثه ولكنه متفوق في أعماله .. قل أن يتكلم، فإذا تكلم لم يشك قط في أنه سيصيب هدفه .. والشيء الوحيد الذي لا يدانى فيه الرجل الأعلى هو عمله الذي لا يستطيع غيره من الناس أن يراه" (116). وهو معتدل في قوله وفعله "والرجل الأعلى يلتزم الطريق الوسط" (117) في كل شيء؛ ذلك أن "الأشياء التي يتأثر بها الإنسان كثيرة لا حصر لها؛ وإذا لم يكن ما يحب وما يكره خاضعين للسنن والقواعد تبدلت طبيعته إلى طبيعة الأشياء التي تعرض له" (1) "والرجل الأعلى يتحرك بحيث تكون حركاته في جميع الأجيال طريقاً عاماً؛ ويكون سلوكه بحيث تتخذه جميع الأجيال قانوناً عاماً، ويتكلم بحيث تكون ألفاظه في جميع الأجيال مقاييس عامة لقيم الألفاظ" (2) وهو يستمسك أشد الاستمساك بالقاعدة الذهبية التي نص عليها هنا صراحة قبل هِلِل بأربعة قرون وقبل المسيح بخمسة: "فقد سأل جونج- جونج المعلم عن الفضيلة الكاملة فكان جوابه .. الفضيلة الكاملة ألا تفعل بغيرك ما لا تحب أن يفعل بك" (122). وهذا المبدأ يتكرر مراراً وهو دائماً يتكرر في صيغة النفي، وقد ذكر مرة في كلمة واحدة. ذلك أن تزه- جونج سأله مرة: أليس ثمة كلمة واحدة يستطيع الإنسان أن يتخذها قاعدة يسير عليها طوال حياته؟ فأجابه المعلم: أليست هذه الكلمة هي المبادلة؟ " (123)، ولكنه لم يكن يرغب فيما يرغب فيه لوَ دْزَه وهو أن يقابل الشر بالخير، فلما أن سأله أحد تلاميذه: "ما قولك في المبدأ القائل بأن الإساءة يجب أن تجزى بالإحسان؟ " أجاب بحدة لم يألفها تلاميذه منه: "وبأي شيء إذن تجزي الإحسان؟ لتكن العدالة جزاء الإساءة، وليكن الإحسان جزاء الإحسان" (124).
وكان يرى أن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها أخلاق الرجل الأعلى هي العطف الفياض على الناس جميعاً. والرجل الأعلى لا يغضبه أن يسمو غيره من الناس، فإذا رأى أفاضل الناس فكر في أن يكون مثلهم؛ وإذا رأى سفلة الناس عاد إلى نفسه يتقصى حقيقة أمره" (124أ)؟ ذلك أنه قلما توجد أخطاء لا نشترك فيها مع جيراننا. وهو لا يبالي أن يفتري عليه الناس أو يسلقوه بألسنة حداد (124ب)، مجامل بشوش لجميع الناس، ولكنه لا يكيل المدح جزافاً (125)؛ لا يحقر من هم أقل منه، ولا يسعى لكسب رضاء من هم أعلى منه (126)، وهو جاد في سلوكه وتصرفاته، لأن الناس لا يوقّرون من لا يلتزم الوقار في تصرفاته معهم؛ متريث في أقواله، حازم في سلوكه، يصدر في أعماله عن قلبه؛ غير متعجل بلسانه ولا مولع بالإجابات البارعة السكاتة؛ وهو جاد لأن لديه عملاً يحرص على أدائه- وهذا هو سر مهابته غير المتكلفة (127)؛ وهو بشوش لطيف حتى مع أقرب الناس إليه وألصقهم به، ولكنه يصون نفسه عن التبذل مع الناس جميعاً حتى مع ابنه (128). ويجمع كنفوشيوس صفات رجله الأعلى الكثير الشبه "برجل أرسطو ذي العقل الكبير" في هذه العبارة.
"يضع الرجل الأعلى نصب عينيه تسعة أمور لا ينفك يقلبها في فكره. فأما من حيث عيناه فهو يحرص على أن يرى بوضوح .. ، وأما من حيث وجهه فهو يحرص على أن يكون بشوشاً ظريفاً؛ وأما من حيث سلوكه فهو يحرص على أن يكون وقوراً؛ وفي حديثه يحرص على أن يكون مخلصاً؛ وفي تصريف شئون عمله يحرص على أن يبذل فيه عنايته، وأن يبعث الاحترام فيمن معه؛ وفي الأمور التي يشك فيها يحرص على أن يسأل غيره من الناس؛ وإذا غضب فكر فيما قد يجره عليه غضبه من الصعاب؛ وإذا لاحت له المكاسب فكر في العدالة والاستقامة (129). 












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید