سيادة الشعب - الحكم بالقدوة - عدم تركز الثروة -
الموسيقى والأخلاق - الاشتراكية والثورة
ويعتقد كنفوشيوس أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يعيدوا بناء الأسرة وأن ينقذوا الدولة. فالمجتمع يقوم على إطاعة الأبناء آباءهم؛ والزوجة زوجها؛ فإذا ذهبت هذه الطاعة حلت محلها الفوضى (130).
وليس ثمة ما هو أسمى من قانون الطاعة هذا إلا شيء واحد وهو القانون الأخلاقي.
"في وسع (الابن) وهو في خدمة أبويه أن يجادلهما بلطف؛ فإذا رأى أنهما لا يميلان إلى اتباع (نصيحته) زاد احترامه لهما، من غير أن يتخلى عن (قصده)؛ فإذا أمر الوالد ابنه أمراً خطأ وجب عليه أن يقاومه، وعلى الوزير أن يقاوم أمر سيده الأعلى في مثل هذه الحال" (131). وفي هذا القول يضع كنفوشيوس مبدأ من مبادئ منشيس التي تقرر حق الناس المقدس في الثورة.
على أن كنفوشيوس لم يكن بالرجل الثوري النزعة؛ ولعله ما كان يظن أن من ترفعهم الثورة لم يخلقوا من طينة غير طينة من تطيح بهم. ولكنه رغم هذه الميول كان جريئاً فيما كتبه في كتاب الأغاني: "قبل أن تفقد ملوك (أسرة) شانج (قلوب) الشعب كانوا أحباء الله. فليكن فيما حل ببيت شانج نذير لكم؛ إن الأمر العظيم لا يسهل دائماً الاحتفاظ به" (132). والشعب هو المصدر الفعلي الحقيقي للسلطة السياسية، ذلك أن كل حكومة لا تحتفظ بثقة الشعب تسقط لا محالة عاجلاً كان ذلك أو آجلاً.
"وسأل تزه- كونج، عن الحكم فقال له المعلم: " (لا بد للحكومة) من أن تحقق أموراً ثلاثة، أن يكون لدى الناس كفايتهم من الطعام، وكفايتهم من العتاد الحربي، ومن الثقة بحكامهم". فقال تزه- كونج: "فإذا لم يكن بد من الاستغناء عن أحد هذه الشروط، فأي هذه الثلاثة يجب أن تتخلى عنه أولاً؟ " فأجاب المعلم: "العتاد الحربي". وسأله تزه- كونج مرة أخرى: "وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد الشرطين الباقيين فأيهما يجب أن تتخلى عنه؟ ".
فأجاب المعلم: "فلنتخل عن الطعام؛ ذلك أن الموت كان منذ الأزل قضاء محتوماً على البشر، أما إذا لم يكن للناس ثقة (بحكامهم) فلا بقاء (للدولة) ".
ويرى كنفوشيوس أن المبدأ الأول الذي يقوم عليه الحكم هو نفس المبدأ الأول الذي تقوم عليه الأخلاق- ألا وهو الإخلاص. ولهذا كانت أداة الحكم الأولى هي القدوة الصالحة؛ ومعنى هذا أن الحاكم يجب أن يكون هو المثل الأعلى في السلوك الحسن، حتى يحذو الناس حذوه، فيعم السلوك الطيب جميع أفراد شعبه.
وسأل كي كانج كنفوشيوس عن الحكومة قائلاً: "ما قولك في قتل من لا مبدأ لهم ولا ضمير لخير أصحاب المبادئ والضمائر؟ "، فأجابه كنفوشيوس: "وما حاجتك يا سيدي إلى القتل في قيامك بأعباء الحكم؟ لتكن نيتك الصريحة البينة فعل الخير، فيكون الناس أخياراً. إن العلاقة القائمة بين الأعلى والأدنى لشبيهة بالعلاقة بين الريح والكلأ، فالكلأ يميل إذا هبت عليه الريح .. وما أشبه الذي ينهج في حكمه نهج الفضيلة بالنجم القطبي الذي لا يتحول عن مكانه والذي تطوف النجوم كلها حوله .. "، وسأل كي كانج كيف ُيحمل الناس على أن يجلوا (حاكمهم)، وأن يخلصوا له، وأن يلتزموا جانب الفضيلة؟ فأجابه المعلم: "فليرأسهم في وقار- يحترموه، وليكن عطوفاً عليهم رحيماً بهم، يخلصوا له. وليقدم الصالحين ويعلّم العاجزين- يحرصوا على أن يكونوا فضلاء" (134).
وإذا كانت القدوة الحسنة أولى وسائل الحكم، فإن حسن الاختيار للمناصب وسيلته الثانية: "استمل الصالحين المستقيمين، وانبذ المعوجين، وبهذه الطريقة يستقيم المعوج" (135).
وتقول عقيدة الوسط: "إن تصريف شئون الحكم إنما يقوم على (استعمال من يصلح له من الناس). وما من سبيل إلى الحصول على هؤلاء الناس إلا أن تكون أخلاق (الحاكم) نفسه صالحة" (136).
وأي شيء لا تستطيع الوزارة المؤلفة من الرجال الأعلين أن تعمله في جيل واحد لتطهير الدولة والارتفاع بالشعب إلى مستوى عال من الحضارة؟ (137) - إن أول ما يحرصون عليه ألا تكون لهم قدر المستطاع علاقات خارجية، وأن يعملوا على أن يكتفوا بغلاتهم عن غلات غيرهم، حتى لا تشن أمتهم الحرب على غيرها من الأمم للحصول على هذه الغلات، ثم يقللون من ترف بطانة الملوك ويعملون على توزيع الثروة في أوسع نطاق لأن "تركيز الثروة هو السبيل إلى تشتيت الشعب، وتوزيعها هو السبيل إلى جمع شتاته" (138)، ثم يخففون العقاب وينشرون التعليم العام لأن "التعليم إذا انتشر انعدمت الفروق بين الطبقات" (139).
ويشير كنفوشيوس بألا تدرس الموضوعات العليا لذوي المواهب الوسطى، أما الموسيقى فيجب أن تعلم للناس أجمعين.
ومن أقواله في هذا: "إذا أتقن الإنسان الموسيقى، وقوم عقله وقلبه بمقتضاها وعلى هديها، تطهر قلبه وصار قلباً طبيعياً، سليماً، رقيقاً، عامراً بالإخلاص والوفاء، يغمره السرور والبهجة .. وخير الوسائل لإصلاح الأخلاق والعادات .. أن توجه العناية إلى الموسيقى التي تعزف في البلاد (1) .. والأخلاق الطيبة والموسيقى يجب ألاّ يهملهما الإنسان .. فالخير شديد الصلة بالموسيقى والاستقامة تلازم الأخلاق الطيبة على الدوام" (140).
وعلى الحكومة أن تُعنى أيضاً بغرس الأخلاق الطيبة، ذلك أن الأخلاق إذا فسدت فسدت الأمة معها (2). وآداب اللياقة هي التي تكون على الأقل المظهر الخارجي لأخلاق الأمة وإن لم يدرك الناس هذا (141)، وهي تضفي على الحكيم لطف الرجل المهذب؛ وما من شك في أن المرء ابن عادته. أما من الوجهة السياسية "فآداب اللياقة حواجز تقوم بين الناس وبين الانغماس في المفاسد"، و"من ظن أن الحواجز القديمة لا نفع فيها فهدّمها حلّت به الكوارث الناشئة من طغيان المياه الجارفة" (142).
ويكاد الإنسان أن يسمع هذا القول الصارم الذي نطق به المعلم الغاضب يتردد هذه الأيام في جنبات "بهو الآداب القديمة" التي نقشت ألفاظها على حجارته، والتي دنستها أوضار الثورة وحقرتها.
ومع هذا فقد كان لكنفوشيوس أيضا أحلامه ومثله العليا في الحكومات والدول. فقد كان يعطف بعض الأحيان على الذين إذا اقتنعوا بأن الأسرة الحاكمة فقدت "الأمر الأعلى" أي "أمر السماء"، قوضوا أركان نظام من نظم الحكم لكي يقيموا على أنقاضه نظاماً خيراً منه. وقد اعتنق في آخر الأمر المبادئ الاشتراكية وأطلق فيها لخياله العنان!
"إذا ساد المبدأ الأعظم (مبدأ التماثل الأعظم) أصبح العالم كله جمهورية واحدة؛ واختار الناس لحكمهم ذوي المواهب والفضائل والكفايات (1)؛ وأخذوا يتحدثون عن الحكومة المخلصة، ويعملون على نشر لواء السلم الشامل. وحينئذ لا يرى الناس أن آباءهم هم من ولدوهم دون غيرهم، أو أن أبناءهم هم من ولدوا لهم، بل تراهم يهيئون سبل العيش للمسنين حتى يستوفوا آجالهم، ويهيئون العمل للكهول، ووسائل النماء للصغار، ويكفلون الحياة للأرامل من الرجال والنساء واليتامى وعديمي الأبناء، ومن أقعدهم المرض عن العمل. هنالك يكون لكل إنسان حقه، وهنالك تصان شخصية المرأة فلا يتعدى عليها.
وينتج الناس الثروة، لأنهم يكرهون أن تبدد وتضيع في الأرض، ولكنهم يكرهون أن يستمتعوا بها دون غيرهم من الناس، وهم يعملون لأنهم يكرهون البطالة، ولكنهم لا يهدفون في عملهم إلى منفعتهم الشخصية.
وبهذه الطريقة يقضى على الأنانية والمآرب الذاتية، فلا تجد سبيلاً إلى الظهور، ولا يرى أثر للصوص والنشالين والخونة المارقين، فتبقى الأبواب الخارجية مفتحة غير مغلقة. هذا هو الوضع الذي أسميه التماثل الأعظم (1).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)