عهد الدول المتنازعة - انتحار تشوبنج - شي هونج - دي يوحد
الصين - السور الكبير - "إحراق الكتب" - إخفاق شي هونج - دي
أكبر الظن أن كنفوشيوس مات بائساً، لأن الفلاسفة يحبون توحيد البلاد، ولأن الأمة التي حاول أن يوحدها تحت حكم أسرة قوية ظلت سادرة في الفوضى والفساد والانقسام. ولما أن ظهر هذا الموحد العظيم في آخر الأمر واستطاع بعبقريته الحربية والإدارية أن يؤلف من دويلات الصين دولة واحدة أمر بأن يحرق كل ما كان باقياً من كتب كنفوشيوس.
وفي وسعنا أن نحكم على الجو الذي كان يسود "عهد الدول المتنازعة" من قصة تشوبنج، وهو رجل بدأ نجمه يلمع في سماء الشعر، حتى سما إلى مركز عظيم في وظائف الدولة، ثم ألفى نفسه وقد طرد من منصبه على حين غفلة، فاعتزل الحياة العامة ولجأ إلى الريف وأخذ يفكر في الحياة والموت إلى جانب غدير هادئ، وسأل متنبئاً من المتنبئين:
"هل ينبغي لي أن أواصل السير في طريق الحق والوفاء؟، أو أسير في ركاب جيل فاسد ضال؟ هل أعمل في الحقول بالفأس والمجرف أو أسعى للرقي في حاشية عظيم من العظماء؟ هل أعرّض نفسي للخطر بما أنطق به من صريح اللفظ أو أتذلل بالنغم الزائف للأثرياء والعظماء؟ وهل أظل قانعاً راضياً بنشر الفضيلة أو أمارس فن مصانعة النساء كي أنال النجاح؟ هل أكون نقي السريرة، طاهر اليد صالحاً مستقيماً، أو أكون معسول الكلام، مذبذباً، متزلفاً، نهازاً للفرص؟ " (1).
وتخلص الرجل من هذه المشكلة العويصة بالانتحار غرقاً (حوالي 350 ق. م). ولا يزال الصينيون حتى يومنا هذا يحيون ذكراه في كل عام، ويحتفلون بهذه الذكرى في يوم عيد القارب الكبير وهو اليوم الذي ظلوا يبحثون فيه عن جثته في كل مجرى من المجاري المائية.
وكان الرجل الذي وحد الصين من أصل وضيع هو أدنأ الأصول التي استطاع المؤرخون الصينيون أن يخترعوها. فهم يقولون لنا أن شي هونج - دي كان ابناً غير شرعي لملكة تشين (لإحدى الولايات الغربية) من الوزير النبيل "لو"، وهو الوزير الذي اعتاد أن يعلق فوق باب داره ألف قطعة من الذهب جائزة لمن يستطيع أن يصلح كلمة واحدة من كتاباته (2) (ولم يرث ابنه عنه هذا الذوق الأدبي الممتاز).
ويقول زوماتشين إن شي اضطر والده إلى الانتحار واضطهد والدته، وجلس على كرسي الإمارة وهو في الثانية عشرة من عمره. ولما أن بلغ الخامسة والعشرين بدأ يفتح البلاد ويضم الدويلات التي كانت الصين منقسمة إليها من زمن بعيد؛ فاستولى على دولة هان في عام 230ق. م، وعلى جو في عام 228، وعلى ويه في عام 225، وعلى تشو في عام 223، وعلى ين في عام 222؛ واستولى أخيراً على دولة تشي المهمة في عام 221؛ وبهذا خضعت الصين لحكم رجل واحد لأول مرة منذ قرون طوال، أو لعل ذلك كان لأول مرة في التاريخ كله. ولقب الفاتح نفسه باسم شي هونج - دي، ثم وجه همه إلى وضع دستور ثابت دائم لإمبراطوريته الجديدة.
أما أوصاف هذا الرجل الذي يعده المؤرخون الصينيون عدوهم الألد، فكل ما خلفوه لنا منها وهو قولهم انه كان "رجلا كبير الأنف، واسع العينين، ذا صدر كصدر الطائر الجارح، وصوت شبيه بابن آوى، لا يفعل الخير، له قلب كقلب النمر أو الذئب" (3). وكان قوى الشكيمة عنيداً لا يحول عن رأيه، ولا يعترف بالألوهية إلا لنفسه، اجتمعت فيه عقائد نيتشه وبسمرك، وعقد العزم على أن يوحد بلاده بالدم والحديد. ولما وحد بلاد الصين وجلس على عرشها كان أول عمل قام به أن حمى بلاده من الهمج البرابرة المجاورين لحدودها الشمالية، وذلك بأن أتم الأسوار التي كانت مقامة من قبل عند حدودها، ووصلها كلها بعضها ببعض. وقد وجد في أعدائه المقيمين في داخل البلاد مورداً سهلاً يستمد منه حاجته من العمال لتشييد هذا البناء العظيم الذي يعد رمزاً لمجد الصين ودليلاً على عظيم صبرها. ويبلغ طول السور العظيم ألفاً وخمسمائة ميل، وتتخلله في عدة أماكن منه أبواب ضخمة على النمط الآشوري، وهو أضخم بناء أقامه الإنسان في جميع عصور التاريخ، ويقول عنه فلتير: "إن أهرام مصر إذا قيست إليه لم تكن إلا كتلاً حجرية من عبث الصبيان لا نفع فيها" (4). وقد احتاج تشييده إلى عشر سنين وإلى عدد لا يحصى من الخلق؛ ويقول الصينيون إنه "أهلك جيلا من الناس، وأنقذ كثيراً من الأجيال". على أنه لم يصد الهمج عن الصين كما يتبين لنا ذلك فيما بعد، ولكنه عطل هجومهم عليها وقلل من حدته. وحال بين إغارتهم على أرض الصين زمناً ما، فاتجهوا غرباً إلى أوربا، ثم اجتاحوا بلاد إيطاليا، وسقطت رومة في أيديهم لأن الصين أقامت سورها العظيم.
ثم ترك شي هونج - دي، وهو مغتبط مسرور، شؤون الحرب ووجه عنايته، كما وجهها نابليون من بعده، إلى شؤون الإدارة، ووضع القواعد العامة التي قامت عليها الدولة الصينية في المستقبل. وعمل بمشورة لي - سيو، المشترع الكبير ورئيس وزرائه، فاعتزم ألا يقيم المجتمع الصيني على العادات المألوفة وعلى الاستقلال المحلي للولايات، بل اعتزم أن يقيمه على قواعد القانون الصريح وعلى الحكومة المركزية القوية. ولذلك قضى على قوة أمراء الإقطاع، واستبدل بهم طائفة من كبار الموظفين تعينهم الوزارة القومية في مناصبهم؛ وأقام في كل مركز من المراكز حامية عسكرية مستقلة عن الحاكم المدني، وسن للبلاد قوانين وأنظمة موحدة، وبسط الاحتفالات الرسمية، وسك عملة للدولة، وجزأ معظم الضياع الإقطاعية، ومهد السبيل لرخاء الصين بإنشاء الملكيات الزراعية، ولوحدتها القوية بإنشاء الطرق الكبيرة الممتدة من هين - يانج عاصمة ملكه إلى جميع أطراف إمبراطوريته. وجمل العاصمة بما أقامه فيها من القصور الكثيرة، وأقنع أغنى أسر الدولة وأقواها سلطاناً البالغ عددها 000ر12 أسرة بأن تعيش في هذه العاصمة تحت إشرافه ورقابته. وكان يسير في البلاد متخفياً ومن غير حرس، يتفقد أحوالها ويتعرف ما فيها من خلل وفساد وسوء نظام، ثم يصدر الأوامر الصريحة لإصلاح هذه العيوب، وقد شجع العلم وقاوم الأدب (5).
ذلك أن رجال الأدب من شعراء، ونقدة، وفلاسفة بوجه عام، وطلاب الفلسفة الكنفوشية بنوع خاص، كانوا أعدى أعدائه. فقد كانوا يتبرمون بسيطرته القوية الشاملة، وكانوا يرون أن إنشاء حكومة مركزية عليا سيقضي لا محالة على تباين أساليب التفكير والحياة وحريتهما.
وقد كان هذا التباين وتلك الحرية مصدر الانتعاش الأدبي طوال عهد الحروب والانقسامات أيام أسرة جو. فلما أقبل هؤلاء العلماء على شي هونج - دي يحتجون عليه لإغفاله الاحتفالات القديمة رد عليهم رداً جافاً وأمرهم ألا يتدخلوا فيما لا يعنيهم (6). وجاءه وفد من كبار العلماء الرسميين يعرضون عليه أنهم قد أجمعوا رأيهم على أن يطلبوا إليه إعادة النظام الإقطاعي بتوزيع الضياع على أقاربه؛ وأضافوا إلى ذلك قولهم: "لم يحدث قط فيما وصل إلى علمنا أن إنساناً لم يترسم خطوات أسلافه الأقدمين في أمر من الأمور ودام عمله طويلاً " (7). فرد عليهم لي سيو رئيس الوزراء، وكان وقتئذ يعمل على إصلاح الحروف الهجائية الصينية ويضعها في الصورة التي تكاد تحتفظ بها إلى يومنا هذا، رد عليهم بخطبة تاريخية لا ترفع من شأن الآداب الصينية قال:
"إن الملوك الخمسة لم يفعل كل منهم ما فعله الآخر، وإن الأسر المالكة الثلاث لم تحذ إحداها حذو الأخرى؛ ... ذلك أن الأيام قد تبدلت. والآن قد قمتم جلالتكم لأول مرة بعمل جليل، وأسستم مجداً سيدوم مدى عشرة آلاف جيل. لكن الحكام الأغبياء عاجزون عن فهم هذا العمل ... لقد كانت الصين في الأيام الخالية مضطربة منقسمة على نفسها، ولم يكن بمقدور أحد أن يوحدها؛ ومن أجل هذا ساد النبلاء جميعاً وقويت شوكتهم؛ وهؤلاء النبلاء جميعاً تدور أحاديثهم كلها حول الأيام الخالية ليعيبوا هذه الأيام ... وهم يشجعون الناس على اختراع التهم الباطلة، فإذا ترك لهم الحبل على الغارب، فسينحط مقام الملك في أعين الطبقات العليا، وستنتشر الأحزاب والفرق بين الطبقات السفلى.
"ولهذا اقترح أن تحرق التواريخ الرسمية جميعها عدا "مذكرات تشين، وأن يرغم الذين يحاولون إخفاء الشي - جنج، والشو - جنج ومحاورات المدارس المائة على أن يأتوا بها إلى ولاة الأمور لإحراقها" (8).
وأعجب الإمبراطور إعجاباً شديداً بهذه الفكرة، وأصدر الأمر بتنفيذ هذا الطلب، وجيء بكتب المؤرخين في كل مكان وألقيت في النار يرفع عبء الماضي عن كاهل الحاضر؛ وحتى يبدأ تاريخ الصين من عهد شي هونج - دي. ويلوح أن الكتب العلمية ومؤلفات منشيس قد نجت من النيران، وأن كثيراً من الكتب المحرمة قد احتفظ بها في دار الكتب الإمبراطورية حيث يستطيع الرجوع إليها الطلاب الذين يجيز لهم الإمبراطور هذا الاطلاع (9). وإذ كانت الكتب في تلك الأيام تكتب على شرائح من الخيزران يشد بعضهما إلى بعض بمشابك متحركة، وإذ كان المجلد الواحد لهذا السبب كبير الحجم ثقيل الوزن، فإن العلماء الذين حاولوا إخفاء هذه الكتب قد لاقوا عناء كبيراً. وكشف أمر بعضهم، وتقول الروايات إن كثيرين منهم أرسلوا للعمل في بناء السور الكبير، وأن أربعمائة وستين منهم أعدموا (10). ولكن بعض الأدباء حفظوا مؤلفات كنفوشيوس كلها عن ظهر قلب، ولقنوها لحفاظ مثلهم، فما إن توفى الإمبراطور عادت هذه الكتب من فورها إلى الظهور والانتشار، وإن كان كثير من الأغلاط قد تسرب في أكبر الظن إلى نصوصها. وكل ما كان لهذا التحريم من أثر خالد أن خلع على الآداب المحرمة هالة من القداسة وأن جعل شي هونج - دي مبغضاً إلى المؤرخين الصينيين. وظل الناس أجيالاً طوالاً يعبرون عن عقيدتهم فيه بتدنيس قبره (11).
وكان من أثر القضاء على الأسر القوية وعلى حرية الكتابة والخطابة أن أمسى شي في شيخوخته لا نصير له ولا معين. وحاول أعداؤه عدة مرات أن يغتالوه، ولكنه كان يكشف أمرهم في الوقت المناسب ويقتل بيده من يحاولون قتله. وكان يجلس على عرشه والسيف مسلول فوق ركبتيه، ولا يسمح لأحد أن يعرف في أية حجرة من حجرات قصوره الكثيرة ينام ليله (13). وقد حاول كما حاول الإسكندر من بعده أن يقوي أسرته بما يذيعه في الناس من أنه إله، ولكنه أخفق في غرضه هذا كما أخفق الإسكندر لأنه لم يستطع أن يقنع الناس بما بينه وبين الآلهة من شبه. وأصدر أمراً بأن يطلق عليه خلفاؤه "الإمبراطور الأول"، وأن يضعوا هم لأسمائهم أرقاماً مسلسلة من بعده تنتهي بالإمبراطور المتمم لعشرة آلاف من نسله. ولكن أسرته قضي عليها بموت ولده. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين الذين كانوا يبغضونه فإنه صار في شيخوخته يؤمن بالخرافات، وينفق الأموال الطائلة في البحث عن أكسير الخلود. ولما مات جيء بجسمه سراً إلى عاصمة ملكه، وقد نقلته إليها قافلة تحمل السمك النتن حتى تختفي بذلك رائحته الكريهة، ويقال أن بضعة آلاف من الفتيات قد دفن معه ليؤنسنه في قبره، وأن خلفه أراد أن يظهر اغتباطه بموته فنثر الأموال على قبره وأنفق الكثير منها في تزيينه، فنقشت على سقفه أبراج النجوم، وصورت على أرضه خريطة للإمبراطور بالزئبق فوق أرضية من البرنز، وأقيمت في القبة آلات تقتل من نفسها كل من يتعدى على حرمه القبر، وأشعلت فيه شموع ضخمة لكي تضيء أعمال الإمبراطور الميت وأعمال ملكاته إلى أمد غير محدود. أما العمال الذي حملوا التابوت إلى القبر فقد دفنوا فيه أحياء مع حملهم خشية أن يكشفوا للناس عن الطريق السري المؤدي إلى المدفن (14).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)