المنشورات

حكم الأخلاق الصين

ما للأخلاق من مكانة سامية في المجتمع الصيني - الأسرة - الأطفال-
العفة - الدعارة - العلاقات الجنسية قبل الزواج - الزواج والحب-
الاقتصار على زوجة واحدة وتعدد الزوجات - التسري - الطلاق-
إمبراطورة صينية - الحكم الأبوي للذكور - خضوع النساء للرجال - الخلق الصيني
لقد تغلبت الكنفوشية وعبادة الأسلاف على كثير من الديانات المنافسة لها، وقاومتا هجمات كثير من أعدائهما، وخرجتا ظافرتين من صراع دام عشرين قرناً، لأن الصينيين يشعرون بأنهما لا غنى عنهما للاحتفاظ بالتقاليد القوية السامية التي أقامت الصين عليها حياتها. وكما كانت هاتان الديانتان هما الضمانتين الدينيتين لهذه الحياة، فكذلك كانت الأسرة هي الوسيلة الكبرى لدوام هذا التراث الأخلاقي. فقد ظل الأبناء يتوارثون عن الآباء قانون البلاد الأخلاقي جيلا بعد جيل حتى أصبح هذا القانون هو الحكومة الخفية للمجتمع الصيني من أن يحتفظ بنظامه رغم ما انتاب الدولة غير المستقرة من نوائب وما احتاجها من أعاصير سياسية. وفي ذلك يقول فلتير: "إن خير ما يعرفه الصينيون، وأكثر ما يغرسونه في نفوس أبنائهم، وما بلغوا به ذروة الكمال، هو قانونهم الأخلاقي" (92) ويقول كنفوشيوس في هذا المعنى نفسه: "إذا قام البيت على أساس سليم أمن العالم وسلم" (93).
وكان الصينيون يفترضون أن الغرض الذي يهدف إليه القانون الأخلاقي هو أن يحول فوضى العلاقات الجنسية إلى نظام ثابت مقرر يهدف إلى تنشئة الأبناء. فالطفل هو علة وجود الأسرة، ويرى الصينيون أن أطفال الأسرة مهما كثروا لا يمكن أن يزيدوا على الحد الواجب المعقول: ذلك أن الأمة معرضة على الدوام لهجمات الغزاة فهي في حاجة إلى من يحميها، وإن الأرض خصبة غنية يجد ملايين الناس فيها كفايتهم؛ وإذا فرض أن اشتد تنازع البقاء بين الناس في الأسر الكبيرة والبيئات المزدحمة فإن هذا التنازع نفسه سيقضي على أضعفهم ويحتفظ بأقدرهم على الحياة، فيتضاعف عددهم ليكونوا دعامة قوية للأمة ومصدرا لعزة آبائهم وكرامتهم، يرعون قبور أسلافهم الرعاية الدينية الواجبة. ولقد صاغت عبادة الأسلاف من الأجيال المتعاقبة سلسلة قوية لا آخر لها كثيرة الحلقات تربط الأجيال بعضها ببعض وتضاعف قوتها. فكان على الزوج أن يلد أبناء ليقربوا له القربان بعد وفاته وليواظبوا في الوقت نفسه على تقريب القربان لأسلافه. وفي ذلك يقول منشيس: "ثلاثة أشياء لا يليق صدورها من الأبناء، وشرها كلها ألا يكون لهم أبناء" (94).
وكان الآباء يدعون في صلواتهم أن يرزقوا أبناء؛ وكان من أشد أسباب المذلة الدائمة للأمهات ألا يكون لهن أبناء ذكور لأن هؤلاء أقدر من البنات على العمل في الحقول وأثبت منهن جنانا في ميدان القتال؛ وكان من الشرائع المتبعة في البلاد- ولعل هذا الاعتقاد قد روعي في وضعها- ألا يسمح لغير الذكور بتقريب القربان إلى الآباء والأسلاف. وكانت البنات تعد عبئا على الآباء لأنهم يربونهن ويصبرون على تربيتهن ولا ينالهم من ذلك إلا أن يبعثوا بهن متى كبرن إلى بيوت أزواجهن ليعملن فيها ويلدن أبناء يكدون لأسر غير أسرهم. وإذا ولد للأسرة بنات أكثر من حاجتها وصادفت الأسرة الصعاب في إعالتهن تركتهن في الحقول ليقضي عليهن صقيع الليل أو الحيوانات الضارية (95) دون أن تشعر بشيء من وخز الضمير. وكان من بقي على قيد الحياة من الأبناء والبنات بعد أخطار الطفولة وأمراضها ينشئون بحنان عظيم؛ وكانت القدوة الحسنة تحل في تربيتهم محل الضرب واللكم، وكان الأقارب يتبادلون الأبناء في بعض الأحيان حتى لا يتلفهم حب الآباء وحنانهم (96). وكان الأطفال يتركون في المنزل في الجناح الخاص بالنساء، وقلما كانوا يختلطون بالكبار من الذكور حتى يبلغوا السابعة من العمر، وبعدها يرسل الأولاد إلى المدارس إذا كانت موارد الأسرة تكفي لتعليمهم ويفصلون عن البنات فصلا تاما، حتى إذا بلغوا العاشرة لم يسمح لهم بأن يختاروا لهم رفقاء من غير الرجال والمحاظي. ولكن انتشار اللواط جعل هذا الاختيار صوريا (97).
وكانت العفة تعد من الفضائل السامية، وكان الآباء يحرصون عليها أشد الحرص في بناتهم، وقد نجحوا في غرس هذه الفضيلة في البنات نجاحا منقطع النظير، يدل عليه أن البنات الصينيات كن في بعض الأحيان يقتلن أنفسهن إذا اعتقدن أن شرفهن قد تلوث بأن مسهن رجل مصادفة (98). غير أنهم لم يبذلوا أي مجهود يرمى إلى أن يحتفظ غير المتزوج بعفته، بل كان يعد من الأمور العادية المشروعة أن يتردد على المواخير، وكان الزنا عند الرجال من الشهوات المألوفة الواسعة الانتشار، يستمتع به الرجل كما يشتهي من غير أن يناله من ورائه أي عار إلا ما ينال المفرط في أية عادة من العادات (1).
وكان إعداد النساء لإشباع هذه الشهوات من النظم المقررة في الصين من زمن بعيد. من ذلك أن الوزير الشهير جوان جونج وزير ولاية تشي أعد مقرا للقوادات تؤخذ فيه من التجار القادمين من الولايات الأخرى مكاسبهم قبل أن يعودوا إلى أوطانهم (101).
ويقول ماركو بولو أنه شاهد في عاصمة كوبلاي خان من العاهرات ما لا يحصى عددهم وما لا يتصور العقل جمالهن. وهؤلاء البغايا مرخص لهن بمزاولة مهنتهن، وتنظم الدولة أمورهن وتراقبهن من الوجهة الطبية، وتقدم أجملهن دون أجر إلى أعضاء السفارات الأجنبية (202).
ونشأت فيما بعد طائفة خاصة من الفاتنان يعرفن "بالبنات المغنيات" مهنتهن أن يتحدثن حديثا مهذبا مثقفا إلى الشبان إذا أرادوا أو يستخدموهن في بيوت الأزواج لتسلية الضيوف. وكثيرا ما تكون هؤلاء الفتيات من البارعات في الأدب والفلسفة وممن يجدن الموسيقى والرقص (103).
وقد كان الرجال يستمتعون بحرية واسعة في صلاتهم بالنساء قبل الزواج، كما كانت صلات النساء المحترمات بالرجال قبل زواجهن مقيدة بأشد القيود، وكان من نتائج هذه الحرية الواسعة من جهة وهذا التقييد الشديد من جهة أخرى أن الفرصة لم تتح كثيرا لنشأة الحب العاطفي السامي. على أنه قد ظهرت كتابات تصف هذا الحب العاطفي في عهد أسرة تانج؛ وفي وسعنا أن نرى شواهد دالة على وجود هذه العاطفة منذ القرن السادس قبل الميلاد في قصة واي شنج. فقد تواعد هو وفتاة أن يلتقيا تحت قنطرة، وظل هو ينتظرها هناك بلا جدوى وإن كان الماء قد علا فوق رأسه وأغرقه (104). وما من شك في أن واي شنج كان أعرف بحقائق الأمور مما يبدو في هذه القصة، ولكن الشاعر الذي نظمها يظن هو وأمثاله من الشعراء أنه قد لا يعرف، وفي هذا الظن ما فيه من الدلالة. وقصارى القول أن الحب بوصفه عاطفة رقيقة وهياما بالمحبوب وتعلقا به كان بين الرجال بعضهم بعضا أقوى منه بين الرجال والنساء؛ والصينيون في هذا أشبه الناس باليونان (105).
ولم يكن للزواج صلة كبيرة بالحب. ولما كان الغرض من الزواج هو ربط زوجين أصحاء بعضهما ببعض لكي تنشأ من ارتباطهما أسرة كبيرة، فإن هذه الرابطة لم يكن يصح في اعتقاد الصينيين أن تترك لحكم العواطف القائم على غير أساس من العقل. ومن أجل هذا كان الآباء يحرصون على فصل الذكور عن الإناث حتى يبحثوا هو عن زوجات لأبنائهم أو أزواج لبناتهم. وكانوا يعدون امتناع الرجل عن الزواج عيبا خلقيا، كما كانت العزوبة جريمة في حق الأسلاف وفي حق الدولة وفي حق الجنس لا تغتفر حتى لرجال الدين، وكان الصينيون في أيامهم الأولى يعينون موظفا خاصا عمله أن يتأكد من أن كل إنسان في الثلاثين من عمره متزوج وأن كل امرأة قد تزوجت قبل العشرين (106). وكان الآباء ينظمون خطبة أبنائهم وبناتهم بمعونة وسطاء محترفين (ماي- رن = وسطاء)، وكانوا يفعلون هذا عقب بلوغهم الحُلُم وقبله أحيانا وقبل أن يولدوا في بعض الأحيان (107). وكان ثمة قيود تفرض على الزواج بين الأقارب وأخرى على الزواج من غير الأقارب تحد من هذا الاختيار، منها: أن الزوج يجب أن يكون من أسرة معروفة من زمن بعيد للأب الذي يبحث عن زوجة لابنه ولكنها بعيدة النسب عنه بعدا يجعلها خارج دائرة عشيرته. وهذا القول نفسه يصدق على الزوجة. وكانت طريقة الخطبة أن يرسل والد الخطيب هدية قيمة إلى والد الفتاة، ولكن الفتاة كان ينتظر منها هي الأخرى أن تأتي ببائنة قيمة إلى زوجها تكون في الغالب على شكل متاع أو بضاعة، كما كانت الأسرتان تتبادلان في العادة كثيرا من الهدايا ذات الشأن وقت الزواج. وكانت البنت تظل في عزلة شديدة عن خطيبها حتى تزف إليه، فلم يكن زوجها المرتقب يستطيع رؤيتها إلا إذا احتال على ذلك احتيالا- ولقد كان الاحتيال مستطاعا في بعض الأحيان -، ولكنه في كثير من الحالات كان يراها أول مرة حين يرفع النقاب عن وجهها في حفلة الزفاف. وكانت هذه الحفلة من الطقوس الرمزية المعقدة، أهم ما فيها أن يحتسي العريس من الخمر ما يكفي لأن يزيل ما عساه أن ينتابه من حياء يعد في عرف الصينيين جريمة لا تغتفر (108). أما البنت فكانت تتدرب على أن تكون حيّة ومطيعة في وقت واحد. وكانت الزوجة تعيش بعد الزواج مع زوجها في بيت أبيه أو بالقرب منه، حيث تكدح كدحا في خدمة زوجها وأمه حتى يحين الوقت الذي يحررها فيه الموت من هذا الاسترقاق، ويتركها على استعداد لأن تفرضه هي نفسها على زوجات أبنائها.
وكان الفقراء يكتفون بزوجة واحدة، ولكن حرص الصينيين على إنجاب أبناء أقوياء كان من القوة بحيث يجعلهم يسمحون عادة للقادرين منهم بأن يتخذوا لهم سراري أو "زوجات من الدرجة الثانية". أما تعدد الزوجات فكان في نظرهم وسيلة لتحسين النسل؛ وحجتهم في هذا أن من يستطيعون القيام بنفقاته منهم هم في العادة أكثر أهل العشيرة قدرة على إنجاب الأبناء. وكانت الزوجة الأولى إذا ظلت عاقرا تحث زوجها على أن يتخذ له زوجة ثانية؛ وكثيرا ما كانت هي نفسها تتبنى ابن إحدى المحاظي. وكثيرا ما كان يحدث أن الزوجات اللاتي يرغبن في أن يحتفظن بأزواجهن داخل بيوتهن يطلبن إليهم أن يتزوجوا بالمحاظي اللاتي يؤثرونهن بالعناية وبالصلات الجنسية، وأن يأتوا بهن إلى منازلهم ويتخذونهم فيها زوجات من الدرجة الثانية (109).
ومن أجل ذلك نرى القصص والأخبار الصينية تثنى على زوجة الإمبراطور جوانج- تشو أطيب الثناء لأنها قالت: "لم أكف قط عن إرسال الرسل إلى المدن المجاورة للبحث عن النساء الجميلات لأجعلهن خليلات لمولاي" (110). وكانت الأسر ينافس بعضها بعضا في أن ينلن شرف الحظوة بإرسال إحدى بناتها إلى حريم الإمبراطور. وكان من حق الإمبراطور أن يتخذ له ثلاثة آلاف من الخصيان ليحرسوا له حريمه وليعنوا ببعض الشؤون الأخرى في بلاطه، وكان هؤلاء الخصيان يخصيهم آباؤهم في سن الثامنة ليضمنوا لهم الحصول على رزقهم (111).
ولم تكن الزوجات الثانيات في جنة الذكور هذه يفترقن كثيرا عن الإماء، كما لم تكن الزوجات الأوليات إلا رئيسات هيئة لإنتاج الأبناء والبنات، تعتمد مكانتهن في الأسرة اعتمادا يكاد يكون تاما على عدد من يلدن من الأبناء وعلى جنسهن. ولما كانت الزوجة قد نشئت على الرضا بسيادة زوجها عليها فقد كان في وسعها أن تنعم بقسط متواضع من السعادة بالاندماج ببطء ويسر في النظام الرتيب الذي هيئت له والذي ينتظره الناس كلهم منها. وإذ كانت النفس البشرية كما نعلم جميعا سريعة القبول لما تنشا عليه فإن الرجل والمرأة المرتبطين برباط الزوجية في تلك البلاد كانا يعيشان كما يبدو لنا عيشة راضية سعيدة لا تقل في ذلك عن عيشة الزواج التي تعقب الحب الروائي في البلاد الغربية. وكان في وسع الرجل أن يطلق الزوجة لأي سبب كان، لعقمها أو لثرثرتها (112)، ولم يكن من حقها هي أن تطلق زوجها، بل كان لها أن تغادر داره وتعود إلى دار أبويها وإن كان هذا لا يحدث إلا في القليل النادر. على أن الطلاق كان مع ذلك قليلا، ويرجع بعض السبب في هذا إلى ما كان ينتظر المطلقة من مصير أسوأ من أن تستطيع التفكير فيه، وبعضها إلا أن الصينيين فلاسفة بطبيعتهم يرون الألم أمرا طبيعيا وإنه من مقتضيات النظام العام.
وأكبر الظن أن الأم قبل أيام كنفوشيوس كانت محور الأسرة لأنها مصدر وجودها وسلطانها. وكان الناس في أول عهودهم كما سبق القول "يعرفون أمهاتهم ولا يعرفون آباءهم"، ولا يزال اللفظ الدال على اسم أسرة الرجل مكونا من الأصل الذي اشتق منه لفظ "امرأة" (113)، واللفظ الصيني المقابل لكلمة الزوجة معناه "المساوي"، وكانت الزوجة تحتفظ باسمها بعد زواجها. وكانت النساء حتى القرن الثالث بعد الميلاد يشغلن في البلاد مناصب إدارية وتنفيذية رفيعة، وقد وصل بعضهن إلى أن يكن حاكمات للبلاد (114)؛ ولم تكن "الإمبراطورة الأم" حين قبضت بيدها على شئون الدولة إلا متتبعة لخطى الإمبراطورة "لو" التي حكمت الصين حكما صارما دام من عام 195 إلى عام 180 ق. م. وكانت "لو" قاسية لا تلين قناتها، قتلت منافسيها وأعداءها أو قضت عليهم بالسم، وكانت تغتبط بتقتيلهم وتسميمهم اغتباط آل ميديشي، وكانت تختار الملوك وتخلعهم عن عرشهم وتصلم آذان محظيات زوجها وتفقأ عيونهن ثم تلقيهن في المراحيض (115). وكان التعليم منتشرا بين نساء الطبقات العليا في الأيام القديمة وإن كان عدد من يعرفون القراءة والكتابة من الصينيين في أيام المنشو لا يكاد يبلغ واحدا في كل عشرة آلاف. وكان كثيرات من النساء يقرضن الشعر، ولقد أتمت بان جاو أخت المؤرخ بان كو الموهوبة (حوالي عام 100م) تاريخه بعد وفاته ونالت حظوة كبيرة عند الإمبراطور (117).
ولعل قيام نظام الإقطاع في الصين قد قلل من منزلة المرأة السياسية والاقتصادية في تلك البلاد، وجاء معه بنمط صارم من الأسرة الأبوية. ذلك أن الأبناء الذكور هم وزوجاتهم وأطفالهم كانوا يعيشون في العادة مع أكبر رجال الأسرة. ومع أن الأسرة كلها كانت تمتلك أرضها امتلاكا مشتركا فإنها كانت تعترف للأب بالسلطان الكامل على الأسرة وعلى أملاكها. فلما أن حل عهد كنفوشيوس كان سلطان الأب يكاد أن يكون سلطانا مطلقا في جميع الأمور، فكان في وسعه أن يبيع زوجته وأبناءه ليكونوا عبيدا، وإن لم يفعل هذا إلا إذا ألجأته إليه الضرورة القصوى؛ وكان يستطيع إذا شاء أن يقتل أبناءه لا يحول بينه وبين هذا إلا حكم الرأي العام (118). وكان يتناول طعامه بمفرده لا يدعو زوجته ولا أبناءه إلى المائدة معه إلا في أوقات قليلة نادرة، وإذا مات كان ينتظر من أرملته ألا تتزوج بعده، وكان يطلب إليها في بداية الأمر أن تحرق نفسها تكريما له، وظلت حوادث من هذا النوع تقع في الصين إلى أواخر القرن التاسع عشر بعد الميلاد (119). وكان الصيني يجامل زوجته كما يجامل كل إنسان سواها، ولكنه كان في حياته بعيدا كل البعد عن زوجته وأبنائه كأنه من طبقة غير طبقتهم. وكان النساء يعشن في أقسام خاصة من المنزل، وقلما كن يختلطن فيه بالرجال، وكانت الحياة الاجتماعية كلها مقصورة على الرجال إلا إذا كانت النساء من الطبقات التي يسمح لأفرادها بالاختلاط بالرجال كالمغنيات والمحدثات ومن إليهن وكان الرجل لا يفكر في زوجته إلا بوصفها أم أبنائه ولا يكرمها لجمالها أو لثقافتها بل لخصوبتها وجدها وطاعتها؛ يشهد بذلك ما كتبته السيدة بان هو- بان إحدى بنات الطبقة العليا في رسالة ذائعة الصيت بعبارات غاية في التواضع والخضوع تصف فيها المكانة الحقة للمرأة:
نشغل نحن النساء آخر مكان في الجنس البشري، ونحن أضعف قسم من بني الإنسان، ويجب أن يكون من نصيبنا أحقر الأعمال ... وما أعدل ما يقوله في حقنا كتاب قوانين الجنسين وأصدقه: وإذا كان للمرأة زوج يرتضيه قلبها وجب أن تبقى معه طيلة حياتها؛ وإذا كان للمرأة زوج لا يرتضيه قلبها وجب أن تبقى معه أيضا طيلة حياتها" (120).
ويغني فوشوان قائلا:
ألا ما اتعس حظ المرأة‍

ليس في العالم كله شيء أقل قيمة منها.

إن الأولاد يقفون متكئين على الأبواب،

كأنهم آلهة سقطوا من السماء،

تتحدى قلوبهم البحار الأربعة،

والرياح والتراب آلاف الأميال؛

أما البنت فإن أحدا لا يسر بمولدها،

ولا تدخر الأسرة من ورائها شيئا،

وإذا كبرت اختبأت في حجرتها،

تخشى أن تنظر إلى وجه إنسان،

ولا يبكيها أحد إذا اختفت من منزلها -

على حين غفلة كما تختفي السحب بعد هطول الأمطار،

وهي تطأطأ رأسها وتجمل وجهها

وتعض بأسنانها على شفتيها،

وتنحني وتركع مرارا يخطئها الحصر.

قد يكون في هذه المقتبسات ظلم للبيت الصيني؛ نعم قد كان فيه خضوع ومذلة، وكثيرا أقام فيه النزاع بين الرجل والمرأة وبين بعض الأطفال، ولكن كان في البيت أيضا كثير من الحب والحنان، وكثير من التعاون والتآزر في الأعمال المنزلية، مما يجعل البيت مكانا طبيعيا ومستقرا صالحا للأسرة. وكانت المرأة رغم خضوعها للرجل من الناحية الاقتصادية تستمع بكامل حقها في استخدام لسانها، وكان في وسعها أن تؤنب الرجل حتى يرهبها أو يفر من وجهها كأحسن ما تستطيعه المرأة الغربية في هذه الأيام. هذا وجدير بنا أن نقول أن الأسرة ذات النظام الأبوي ليس في مقدورها أن تكون أسرة ديمقراطية، وهي أشد من ذلك عجزا عن أن يكون جميع أفرادها متساوين في الحقوق، وذلك لأن الدولة كانت تترك للأسرة مهمة القيام على النظام الاجتماعي، ولأن المنزل كان مربى للأطفال ومدرسة ومصنعا وحكومة في وقت واحد. ولم يتراخ نظام الأسرة في أمريكا إلا بعد أن ضعف شأن المنزل في المدينة وقلت أهميته بانتقال واجبات الأسرة إلى المدرسة والمصنع والدولة.
ولقد أثنى كثير من الرحالة أجمل ثناء على الخلق الذي كان ثمرة هذه النظم المنزلية. فإذا صرفنا النظر عن الحالات الشاذة الكثيرة التي تضعف كل حكم عام يمكن أن يصدره الإنسان على أي نظام اجتماعي، استطعنا أن نقول أن الصيني العادي كان مثلا يحتذى في طاعة الأبناء للآباء وإخلاصهم ووفائهم لهم وفي احترام الصغار للكبار وعنايتهم بهم عن رضا واختيار (1). وكان الصيني يقبل الحكم الأخلاقية التي جاءت في اللي- شي أو كتاب الحفلات ويعمل بما فيها من آداب اللياقة رغم مشقتها، وينظم كل ناحية من نواحي حياته حسب ما فيها من قواعد المجاملة العاطفية التي أكسبت أخلاقه من الرقة والسهولة والاتزان والكرامة ما لم ينله أمثاله من الغربيين- فقد يظهر الحمّال الذي ينقل الأقذار في الطرقات من الأدب وحسن التربية واحترام النفس أكثر مما يظهره التاجر الأجنبي الذي باعه الأفيون. ولقد تعلم الصيني فن التراضي والمصالحة واستطاع بذلك أن يستل ضغينة عدوه المغلوب. ولقد كان في بعض الأحيان عنيفا في قوله، وكان على الدوام ثرثارا، وكثيرا ما تراه قذرا أو ثملا يدمن القمار ويلتهم الطعام التهاما (1)، ويميل إلى ابتزاز الأموال العامة وإلى سؤال الناس في غير إلحاف (124)، يعبد إله المال عبادة وثنية مسرفة في صراحتها (125)، ويجري وراء الذهب جري الأمريكي كما نراه في صوره الساخرة، يستطيع أحيانا أن يكون قاسيا فظا غليظ القلب، إذا توالت عليه المظالم ثار أحيانا وأقدم على ضروب من السلب والتقتيل في جماعات كبيرة. ولكنه في جميع أحواله تقريبا رجل مسالم رحيم، كثير الاستعداد لمساعدة جيرانه، يحتقر المجرمين والمحاربين، مقتصد مجد مثابر على عمله وإن كان لا يعجل فيه، بسيط في أسلوب حياته لا يحب التظاهر والتصنع، شريف إلى حد كبير في معاملاته التجارية والمالية. وكان من عادته الصبر على النوائب، يستقبل النعم والنقم على السواء بحكمة ووداعة، ويتحمل الحرمان والعذاب دون أن يفقد سلطانه على نفسه، ويصبر عليهما صبر من يرى أن كل شيء مقدر عليه في الأزل، ولا يعطف قط على من يتأفف منهما على مسمع من الناس، يحزن حزنا صادقا طويلا على من يموت من أقاربه، وإذا عجز عن الفرار من الموت بجميع ما لديه من الوسائل واجهه وهو صابر صبر الفلاسفة؛ وكان مرهف الشعور بالجمال بقدر ما كان قليل الشعور بالألم، وكان يزين مدائنه بالنقوش الملونة ويتنعم في حياته بأرقى أنواع الفن.
وإذا شئنا أن نفهم هذه الحضارة حق الفهم كان علينا أن ننسى، ولو إلى حين، ما تردت فيه البلاد من فوضى وعجز بسبب ضعفها في الداخل، واحتكاكها بمدافع الغرب وآلاته الضخمة القوية، وأن نراها في فترة من فترات عزها ومجدها في عهد أمراء جو أو في عهد منج هوانج أو هواي دزونج أو كانج- شي. ذلك أن الصيني في تلك الأيام أيام حب الجمال كان يمثل بلا ريب أرقى المدنيات وأنضج الثقافات اللتين شهدتهما آسية أو إن شئت فقل أية قارة من القارات.












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید