الفرد المغمور - الحكم الذاتي - القرية والإقليم - تراخي القانون -
صرامة العقاب - الإمبراطور - الرقيب - المجالس الإدارية - الإعداد
للمناصب العامة - الترشيح بالتعليم - نظام الامتحانات - عيوبه - وفضائله
إن أكثر ما يروعنا في هذه الحضارة هو نظام حكومتها. وإذا كانت الدولة المثالية هي التي تجمع بين الديمقراطية والأرستقراطية فإن الصينيين قد أنشأوا هذه الدولة منذ ألف عام أو تزيد؛ وإذا كانت خير الحكومات هي أقلها حكما، فقد كانت حكومة الصين خير حكومات العالم على الإطلاق. ولم يشهد التاريخ قط حكومة كان لها رعايا أكثر من رعايا الحكومة الصينية أو كانت في حكمها أطول عهدا وأقل سيطرة من تلك الحكومة.
ولسنا نقصد بهذا أن الفردية أو الحرية الفردية كان لها شأن عظيم في بلاد الصين؛ ذلك أن فكرة الفردية كانت ضعيفة في تلك البلاد وأن الفرد كان مغمورا في الجماعات التي ينتمي إليها. فقد كان أولا عضوا من أعضاء أسرة، ووحدة عابرة في موكب الحياة بين أسلافه وأخلافه؛ وكانت القوانين والعادات تحمله تبعة أعمال غيره من أفراد أسرته كما يحملون هم تبعة أعماله؛ وكان فضلا عن هذا ينتمي عادة على جمعية سرية، وإذا كان من سكان الحواضر فانه ينتمي إلى نقابة من نقابات الحرف.
وهذه كلها أمور تحد من حقه في أن يفعل ما يشاء. وكان يحيط به فضلا عن هذا طائفة من العادات القديمة ويهدده رأي عام قوي بالطرد من البلاد إذا خرج على أخلاق الجماعة أو تقاليدها خروجا خطيرا. وكانت قوة هذه النظم الشعبية التي نشأت بطبيعتها من حاجات الناس وتعاونهم الاختياري هي التي مكنت الصين من أن تحتفظ بنظامها واستقرارها رغم ما يشوب القانون والدولة من لين وضعف.
ولكن الصينيين ظلوا أحرارا من الناحيتين السياسية والاقتصادية في داخل هذا الإطار من نظم الحكم الذاتي التي أقاموها بأنفسهم لأنفسهم.
لقد كانت المسافات الشاسعة التي تفصل كل مدينة عن الأخرى وتفصل المدن كلها عن عاصمة الإمبراطورية، والجبال الشامخة والصحاري الواسعة والمجاري التي تتعذر فيها الملاحة أو لا تقوم عليها القناطر، وانعدام وسائل النقل والاتصال السريع وصعوبة تموين جيش كبير يكفي لفرض سلطان الحكومات المركزية على شعب تبلغ عدته أربعمائة مليون من الأنفس - كانت هذه كلها عوامل تضطر الدولة لأن تترك لكل إقليم من أقاليمها استقلالا ذاتيا يكاد أن يكون كاملا من كل الوجوه.
وكانت وحدة الإدارة المحلية هي القرية يحكمها حكما متراخيا رؤساء العشائر بإشراق "زعيم" منهم ترشحه الحكومة. وكانت كل طائفة من القرى مجتمعة حول بلدة كبيرة تؤلف "بينا" أي مقاطعة بلغت عدتها في الصين نحو ألف وثلاثمائة. ويتألف من كل بينين أو أكثر تحكمهما معا مدينة "فو"، ومن كل فوين أو ثلاثة "داو" أي دائرة، ومن كل داوين أو أكثر "شنج" أي إقليم. وكانت الإمبراطورية في عهد المنشو تتألف من ثمانية عشر من هذه الأقاليم. وكانت الدولة تعين من قبلها موظفا في كل بين يدير شئونه، ويجبى ضرائبه، ويفصل في قضاياه، وتعين موظفا آخر في كل فو وآخر في كل داو؛ كما تعين قاضيا، وخازنا لبيت المال، وحاكما، ونائبا للإمبراطور أحيانا في كل إقليم (127). ولكن هؤلاء الموظفين كانوا يقنعون أحيانا بجباية الضرائب والفروض الأخرى والفصل في المنازعات التي يعجز المحكمون عن تسويتها بالحسنى، ويتركون حفظ النظام لسلطان العادة وللأسرة والعشيرة والنقابة الطائفية. وكان كل إقليم ولاية شبه مستقلة لا تتدخل الحكومة الإمبراطورية في أعمالها، ولا تفرض عليها شرائعها طالما كانت تدفع حصتها من الضرائب وتحافظ على الأمن والنظام في داخل حدودها. وكان انعدام وسائل الاتصال السهلة مما جعل الحكومة المركزية فكرة معنوية أكثر منها حقيقة واقعية. ومما جعل عواطف الأهلين الوطنية تنصرف في دوائرهم وأقاليمهم، ولا تتسع إلا في القليل النادر حتى تشمل الإمبراطورية بوجه عام.
وفي هذا البناء غير المحكم كان القانون ضعيفا، بغيضا، متباينا. وكان الناس يفضلون أن تحكمهم عاداتهم وتقاليدهم، وأن يسووا نزاعهم بالتراضي خارج دور القضاء. وكانوا يعبرون عن آرائهم في التقاضي بمثل هذه الحكم والأمثال القصيرة القوية: "قاض برغوثا يعضك" و "اكسب قضيتك تخسر مالك". وكانت تمر سنين على كثير من المدن التي تبلغ عدة أهلها آلافاً مؤلفة لا ترفع فيها قضية واحدة إلى المحاكم (128) وكانت قوانين البلاد قد جمعت في عهد أباطرة تانج ولكنها كلها اقتصرت تقريبا على الجرائم ولم تبذل محاولات جدية لوضع قانون مدني. وكانت المحاكمات بسيطة سهلة لأن المحامي لم يكن يسمح له بمناقشة الخصم داخل المحكمة، وإن كان في استطاعة كتاب مرخصين من الدولة أن يعدوا في بعض الأحيان تقارير بالنيابة عن المتقاضين ويتلوها على القاضي (129). ولم يكن هناك نظام للمحلفين، ولم يكن في نصوص القوانين ما يحمي الفرد من أن يقبض عليه موظفو الدولة على حين غفلة ويعتقلوه. وكانت تؤخذ بصمات أصابع المتهمين (130)، ويلجأ أحيانا إلى تعذيبهم لكي يقروا بجرائمهم، ولم يكن هذا التعذيب الجسمي ليزيد إلا قليلا على ما يتبع الآن لهذا الغرض عينه في أكثر المدن رقيا. وكان العقاب صارما، وإن لم يكن أشّد وحشية مما كان في معظم بلاد القارة الآسيوية؛ وكان أوله قص الشعر ويليه الضرب ثم النفي من البلاد ثم الإعدام. وإذا كان المتهم ذا فضائل غير معهودة أو كان من طبقة راقية سمح له أن ينتحر (131). وكانت العقوبات تخفف أحيانا تخفيفا كريما، وكان حكم الإعدام لا يصدر في الأوقات العادية إلا من الإمبراطور نفسه. وكان الناس جميعا من الناحية النظرية سواسية أمام القانون، شأنهم في هذا كشأننا نحن في هذه الأيام. ولكن هذه القوانين لم تمنع السطو في الطرق العامة أو الارتشاء في وظائف الدولة ودور القضاء، غير أنها كان لها قسط متواضع في معاونة الأسرة والعادات الموروثة في أن تهب الصين درجة من النظام الاجتماعي والأمن والاطمئنان الشخصي لم تضارعها فيها أمة أخرى قبل القرن العشرين (132).
وكان الإمبراطور يشرف على هذه الملايين الكثيرة من فوق عرشه المزعزع. وكان يحكم من الوجهة النظرية بحقه المقدس؛ فقد كان هو "ابن السماء" وممثل الكائن الأعلى (1) في هذه الأرض. وبفضل سلطانه الإلهي هذا كانت له السيطرة على الفصول وكان يأمر الناس أن يوفقوا بين أعمالهم وبين النظام السماوي المسيطر على العالم، وكانت كلمته هي القانون وأحكامه هي القضاء الذي لا مرد له. وكان المدبر لشؤون الدولة ورئيس ديانتها، يعين جميع موظفيها ويمتحن المتسابقين لأعلى مناصبها ويختار من يخلفه على العرش. لكن سلطانه كان يحده من الوجهة العملية القانون والعادات المرعية، فكان ينتظر منه أن يحكم من غير أن يخرج على النظم التي انحدرت من الماضي المقدس. وكان معرضا في أي وقت لأن يعزَّر على يد رجل ذي مقام كبير يسمى بالرقيب؛ وكان في واقع الأمر محوطاً بحلقة قوية من المستشارين والمبعوثين من مصلحته أن يعمل بمشورتهم، وإذا ظلم أو فسد حكمه خسر بحكم العادات المرعية وباتفاق أهل الدولة "تفويض السماء"، وأمكن خلعه بالقوة من غير أن يعد ذلك خروجا على الدين أو الأخلاق.
وكان الرقيب رئيس مجلس مهمته التفتيش على جميع الموظفين في أثناء قيامهم بواجباتهم، ولم يكن الإمبراطور نفسه بمنجاة من إشرافه. وقد حدث مرارا في تاريخ الصين أن عزر الرقيب الإمبراطور نفسه. من ذلك أن الرقيب سونج أشار على الإمبراطور جياه تشنج (1196 - 1821)، بالاحترام اللائق بمقامه العظيم طبعا، أن يراعى جانب الاعتدال في صلاته بالممثلين وبتعاطي المسكرات. فما كان من جياه تشنج إلا أن استدعى سونج للمثول أمامه، وسأله وهو غاضب أي عقاب يليق أن يوقع على من كان موظفا وقحا مثله، فأجابه سونج: "الموت بتقطيع جسمه إرباً". ولما أمره الإمبراطور باختيار عقاب أخف من هذا أجابه بقوله "إذن فليقطع رأسي" فطلب إليه مرة أخرى أن يختار عقابا أخف فاختار أن يقتل خنقا. وأعجب الإمبراطور بشجاعته وخشي وجوده بالقرب منه فعينه حاكما على إقليم إيلي (134).
وأضحت الحكومة المركزية على مر الزمن أداة إدارية شديدة التعقيد. وكان أقرب الهيئات إلى العرش المجلس الأعلى، ويتكون من أربعة "وزراء كبار" يرأسهم في العادة أمير من أمراء الأسرة المالكة. وكان يجتمع بحكم العادة في كل يوم في ساعات الصباح المبكرة لينظر في شؤون الدولة السياسية. وكان يعلو عنه في المنزلة، ولكن يقل عنه في السلطان، هيئة أخرى من المستشارين يسمون "بالديوان الداخلي". وكان يشرف على الأعمال الإدارية "ستة مجالس" للشؤون المدنية، والدخل، والاحتفالات، والحرب، والعقوبات، والأشغال العامة؛ وكان ثمة إدارة للمستعمرات تصرف شؤون الأقاليم النائية مثل منغوليا، وسنكيانج والتبت. ولكنها لم تكن لها إدارة للشؤون الخارجية لأن الصين لم تكن تعترف بأن في العالم دولة مساوية لها، ومن أجل ذلك لم تنشئ في بلادها للاتصال بها غير ما وضعته من النظم لاستقبال البعوث التي تحمل لها الخراج.
وكان أكبر أسباب ضعف الحكومة قلة مواردها وضعف وسائل الدفاع عن أراضيها ورفضها كل اتصال بالعالم الخارجي يعود عليها بالنفع. لقد فرضت الضرائب على أراضيها، واحتكرت بيع الملح، وعطلت نماء التجارة بما فرضته بعد عام 1821 من عوائد على انتقال البضائع على طرق البلاد الرئيسية، ولكن فقر السكان، وما كانت تعانيه من الصعاب في جباية الضرائب والمكوس، وما يتصف به الجباة من الخيانة، كل هذا قد ترك خزانة الدولة عاجزة عن الوفاء بحاجات القوى البحرية والبرية التي كان في وسعها لولا هذا العجز أن تنقذ البلاد من مذلة الغزو والهزيمة (1). ولعل أهم أسباب هزائمها هو فساد موظفي حكومتها؛ وذلك أن ما كان يتصف به موظفوها من جدارة وأمانة قد ضعف في خلال القرن التاسع عشر فأضحت البلاد تعوزها الزعامة الرشيدة في الوقت الذي كانت فيه نصف ثروة العالم ونصف قواه يتجمعان لسل استقلالها وانتهاب مواردها والقضاء على أنظمتها.
بيد أن أولئك الموظفين كانوا يختارون بوسيلة لا مثيل لها في دقتها وتعد في جملتها أجدر وسائل الاختيار بالإعجاب والتقدير، وخير ما وصل إليه العالم من الوسائل لاختيار الخدام العموميين. لقد كانت وسيلة جديرة بإعجاب أفلاطون، ولا تزال رغم عجزها وتخلي الصين عنها تقرب الصين إلى قلوب الفلاسفة. وكانت هذه الطريقة من الناحية النظرية توفق أحسن التوفيق بين المبادئ الأرستقراطية والديمقراطية: فهي تمنح الناس جميعا فرصة متكافئة لإعداد أنفسهم للمناصب العامة، ولكنها لا تفتح أبواب المناصب إلا لمن أعدوا أنفسهم لها. ولقد أنتجت خير النتائج من الوجهة العملية مدى ألف عام.
وكانت بداية هذه الطريقة في مدارس القرى - وهي معاهد خاصة ساذجة لا تزيد قليلا على حجرة واحدة في كوخ صغير - كان يقوم فيها معلم واحد بتعليم أبناء أسر القرية تعليما أوليا ينفق عليه بما يؤديه هؤلاء الأبناء من أجر ضئيل. أما النصف الفقير من السكان فقد ظل أبناؤه أميين (137). ولم تكن الدولة هي التي تنفق على تلك المدارس، ولم يكن الكهنة هم الذين يديرونها، ذلك أن التعليم قد بقى في الصين كما بقى الزواج فيه مستقلا عن الدين لا صلة بينهما سوى أن الكنفوشية كانت عقيدة المعلمين. وكانت أوقات الدراسة طويلة كما كان النظام صارما في هذه المدارس المتواضعة. فكان الأطفال يأتون إلى المعلم في مطلع الشمس ويدرسون معه حتى الساعة العاشرة، ثم يفطرون ويواصلون الدرس حتى الساعة الخامسة، ثم ينصرفون بقية النهار. وكانت العطلات قليلة العدد قصيرة الأجل، وكانت الدراسة تعطل بعد الظهر في فصل الصيف، ولكن هذا الفراغ الذي كان يصرف في العمل في الحقول كان يعوض بفصول مسائية في ليالي الشتاء. وكان أهم ما يتعلمه الأطفال كتابات كنفوشيوس وشعر تانج؛ وكانت أداة المعلم عصا من الخيزران. وكانت طريقة التعليم الحفظ عن ظهر قلب؛ فكان الأطفال الصغار يواصلون حفظ فلسفة المعلم كونج ويناقشون فيها مدرسهم حتى ترسخ كل كلمة من كلماته في ذاكرتهم وحتى يستقر بعضها في قلوبهم. وكانت الصين تأمل أن يتمكن جميع أبنائها، ومنهم الزراع أنفسهم، بهذه الطريقة القاسية الخالية من اللذة أن يصبحوا فلاسفة وسادة مهذبين، وكان الصبي يخرج من المدرسة ذا علم قليل وإدراك كبير، جاهلا بالحقائق ناضج العقل (1).
وكان هذا التعليم هو الأساس الذي أقامت عليه الصين - في عهد أسرة هان على سبيل التجربة وفي عهد أسرة تانج بصفة نهائية - نظام تولي المناصب العامة بالامتحان. ومن أقوال الصينيين في هذا: إن من أضر الأمور بالشعب أن يتعلم حكامه طرق الحكم بالحكم نفسه، وإن من واجبهم كلما استطاعوا أن يتعلموا طرق الحكم قبل أن يحكموا، ومن أضر الأمور بالشعب أن يحال بينه وبين تولي المناصب العامة وأن يصبح الحكم امتيازا تتوارثه فئة قليلة من أبناء الأمة؛ ولكن من الخير للشعب أن تقصر المناصب على من أعدوا لها بفضل مواهبهم وتدريبهم. وكان الحل الذي عرضته الصين لمشكلة الحكمة القديمة المستعصية هي أن تتيح لكل الرجال ديمقراطيا فرصة متكافئة لأن يدربوا هذا التدريب، وأن تقصر الوظائف أرستقراطيا على من يثبتون أنهم أليق الناس لأن يتولوها. ومن أجل هذا كانت تعقد في أوقات معينة امتحانات عامة في كل مركز من المراكز يتقدم إليها كل من شاء من الذكور متى كانوا في سن معينة.
وكان المتقدم إلى الامتحان يمتحن في قوة تذكره وفهمه لكتابات كنفوشيوس وفي مقدار ما يعرف من الشعر الصيني ومن تاريخ الصين، وفي قدرته على أن يكتب أبحاثا في السياسة والأخلاق كتابة تدل على الفهم والذكاء. وكان في وسع من يخفق في الامتحان أن يعيد الدرس ويتقدم إليه مرة أخرى، ومن نجح منح درجة شيو دزاي التي تؤهله لأن يكون عضوا في طبقة الأدباء ولأن يعين في المناصب الصغرى في الحكومة الإقليمية؛ وأهم من هذا أن يكون من حقه أن يتقدم إما مباشرة أو بعد استعداد جديد لامتحان آخر يعقد في الأقاليم كل ثلاث سنوات شبيه بالأول ولكنه أصعب منه. ومن خفق فيه أجاز أن يتقدم إليه مرة أخرى؛ وكان يفعل ذلك كثيرون من المتقدمين فكان يجتازه في بعض الأحيان رجال جاوزا الثمانين وظلوا طوال حياتهم يدرسون، وكثيرا ما مات الناس وهم يتأهبون لدخول هذه الامتحانات. وكان الذين ينجحون يختارون للوظائف الحكومية الصغرى، كما كان من حقهم أن يتقدموا للامتحان النهائي الشديد الذي يعقد في بكين. وكان في تلك المدينة ردهة للامتحان العام تحتوي على عشرة آلاف حجرة انفرادية يقضى فيها المتسابقون ثلاثة أيام متفرقة في عزلة تامة، ومعهم طعامهم وفراشهم، يكتبون مقالات أو رسائل في موضوعات تعلم لهم بعد دخولهم. وكانت هذه الغرف خالية من وسائل التدفئة والراحة رديئة - الإضاءة غير صحية لأن الروح لا الجسم - في رأيهم - هي التي يجب أن تكون موضع الاهتمام! وكان من الموضوعات المألوفة في هذه الامتحانات أن ينشئ المتقدم قصيدة في: "صوت المجاديف والتلال الخضراء والماء"، وأن يكتب مقالا عن الفقرة الآتية من كتابات كنفوشيوس. قال دزانج دزي: "من يك ذا كفاية ويسأل من لا كفاية له؛ ومن يك ذا علم كثير ويسأل من لا يعلم إلا القليل؛ ومن يملك ثم يتظاهر بأنه لا يملك؛ ومن يمتلئ ثم يبدي أنه فارغ" ولم يكن في أي امتحان من هذه الامتحانات كلمة واحدة عن العلوم أو الأعمال التجارية أو الصناعية؛ لأنها لم تكن تهدف إلى تبين علم الرجل بل ترمي إلى معرفة ما له من حكم صادق وخلق قويم. وكان كبار موظفي الدولة يختارون من الناجحين في هذا الامتحان النهائي.
وتبين على مر الزمن ما تنطوي عليه هذه الطريقة من عيوب. فقد وجد الغش سبيله إلى الحكم في الامتحان، وإن كان الغش في الامتحان أو في تقديره يعاقب عليه أحيانا بالإعدام. وأصبح شراء الوظائف بالمال كثيرا متفشيا في القرن التاسع عشر (138)، من ذلك أن موظفا صغيرا باع عشرين ألف شهادة مزورة قبل أن يكشف أمره (139). ومنها أن صورة المقالة التي تكتب في الامتحان أصبحت صورة عادية معروفة يعد المتسابقون أنفسهم لها إعدادا آلياً. كذلك كان منهج الدراسة ينزع إلى الهبوط بالثقافة إلى الصور الشكلية دون اللباب، ويحول دون الرقي الفكري لأن الأفكار التي كانت تتداول في هذه المقالات قد تحددت وتعينت خلال مئات السنين. وكان من آثارها أن أصبح الخريجون طبقة بيروقراطية ذات عقلية رسمية متعجرفة بطبيعتها، أنانية، مستبدة في بعض الأحيان وفاسدة في كثير من الأحوال؛ لا يستطيع الشعب مع ذلك أن يعزلها أو يشرف على أعمالها إلا إذا لجأ بعد يأسه إلى الطريقة الخطرة طريقة الإضراب عن طاعتها أو مقاطعتها وعدم التعامل معها. وقصارى القول أن هذا النظام كان ينطوي على كل العيوب الني يمكن أن ينطوي عليها أي نظام حكومي يبتدعه ويسيره بنو الإنسان؛ فعيوبه هي عيوب القائمين عليه لا عيوب النظام نفسه، وليس ثمة نظام آخر لم يكن فيه من العيوب من في هذا النظام (1).
أما مزاياه فهي كثيرة: فهو برئ من طريقة الترشيح وما يؤثر فيها من تيارات خفية؛ وليس فيه مجال للمساعي الدنيئة وللنفاق والخداع في تصوير النتائج، ولا تدور فيه المعارك الصورية بين الأحزاب، ولا يتأثر بالانتخابات الفاسدة ذات الجلبة والضجيج، ولا يتيح الفرصة لتسلم المركز الرفيع عن طريق الشهرة الزائفة. لقد كانت الحكومة القائمة على هذا النظام حكومة ديمقراطية على الزعامة وعلى المناصب الرفيعة. وكانت أرستقراطية في أحسن صورها، لأنها حكومة يتولاها أقدر الرجال الذين اختيروا اختيارا ديمقراطيا من بين جميع طبقات الشعب ومن كل جيل. وبفضل هذه الطريقة وجهت عقول الأمة ومطامعها وجهة الدرس والتحصيل، وكان أبطالها الذين تقتدي بهم هم رجال العلم والثقافة لا سادة المال (1).
ولقد كان جديرا بالإعجاب أن يجرب مجتمع من المجتمعات أن يحكمه من الناحيتين الاجتماعية والسياسية رجال أعدوا للحكم بتعلم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ولذلك كان من شر المآسي أن تنقض قوى التطور والتاريخ القاسية التي لا ترحم ولا تلين على ذلك النظام الفذ وعلى جميع معالم الحضارة التي كان هو أهم عناصرها فتدمرها تدميرا.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)