المنشورات

اللغة والتعليم اليابان

اللغة - الكتابة - التعليم
كان اليابانيون قد استعاروا طرائق الكتابة وأساليب التعليم من أولئك الصينيين الذين جعلوا يتهمونهم بالهمجية كما رأيت؛ لكن اللغة كانت يابانية خالصة، وأرجح الظن أنها كانت لغة منغولية قريبة الشبه باللغة الكورية، لكنها لم تكن مشتقة من اللغة الكورية أو غيرها مما نعرف من لغات، اشتقاقاً يقوم على صحته البرهان القاطع، واللغة اليابانية تختلف عن اللغة الصينية بنوع خاص في كثرة مقاطعها واتصال أجزائها رغم بساطتها؛ فليس فيها أحرف حلقية ولا أحرف تخرج مع هواء التنفس ولا سواكن في أواخر الكلمات (ما عدا حرف ن) وتكاد كل حروف المد فيها أن تكون منغَّمة طويلة، ونحوها كذلك طبيعي وسهل، فقد استغنت في الأسماء عن التمييز العددي بين المفرد والجمع، كما استغنت عن التمييز الجنسي بين المذكر والمؤنث؛ كذلك استغنت في الصفات عن درجات التفضيل، وفي الأمثال استغنت عن التصاريف التي تدل على ضمير من قام بالفعل؛ وضمائر المتكلم والمخاطب والغائب فيها قليلة العدد، وليس فيها أسماء للوصل على الإطلاق؛ لكنها من جهة أخرى تحتوي على تصاريف تتغير بها الصفات والأفعال تبعاً للنفي ولصيغة الفعل في حالة الأمر مثلاً أو غيره، وهم يستعملون بدل أحرف الجر التي تسبق الكلمات المجرورة، أحرفاً تأتي بعد الكلمات لتحدد المقطع الأخير من الكلمة وفي ذلك ما فيه من مشقة وعناء، وحلت عندهم عبارات تكريمية معقدة، مثل "خادمك المطيع" و "سعادتكم" محل ضمائر المتكلم والمخاطب.
وقد استغنت اللغة- فيما يظهر- حتى عن الكتابة، إلى أن جاءها الكوريون والصينيون بهذا الفن في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، ومنذ ذلك الحين، اكتفى اليابانيون مدى مئات من السنين بطريقة الكتابة التي شاعت في "المملكة الوسطى" ليبعدوا بها عن كلامهم الذي يشبه في جماله لغة الإيطاليين؛ ولما كان حتماً عليهم أن يستخدموا حرفاً كاملاً من حروف الخط الصيني ليدل على كل مقطع من كل كلمة يابانية، فقد أصبحت الكتابة اليابانية في عصر "نارا" أعسر ضروب الكتابة التي عرفها الإنسان تقريباً؛ ثم حدث في القرن التاسع أن سن قانون يعمل على الاقتصاد في هذا الاتجاه، بأن يحدد كثيراً من الإشكالات اللغوية، فأراح هذا القانون أهل اليابان بما قدمه إليهم من صور الكتابة المبسطة، إذ قدم إليهم صورتين كل منهما يستعمل حرفاً صينياً- بعد اختصاره في صورة خطية منحنية- ليمثل مقطعاً من المقاطع السبعة والأربعين التي منها يتألف الكلام المنطوق عند اليابانيين؛ وهذه الأشكال التي تمثل السبعة والأربعين مقطعاً، حلت عندهم محل أحرف الهجاء (1)، ولما كان شطر كبير من الأدب الياباني مكتوباً بالصينية، ومعظم بقيته ليس مكتوباً بالكتابة المقطعية الشائعة، بل هو مزيج من الأحرف الصينية وأحرف الهجاء اليابانية، كان من المتعذر إلا على القليلين من العلماء الغربيين أن يتمكنوا من الأدب الياباني في أصوله؛ فنتج عن ذلك أن أصبح علمنا بالأدب الياباني لا يتجاوز قطعاً متناثرة من هنا وهناك، ولذا فهو علم يخدعنا عن الأصل، ويستحيل أن يكون حكمنا على ذلك الأدب ذا قيمة كبيرة، ولما وجد اليسوعيون أن حوائل اللغة تقف في وجوههم سدوداً منيعة، قرروا أن لغة تلك الجزر قد صاغها الشيطان ليمنع نشر تعاليم الكتاب المقدس (الإنجيل) في بلاد اليابان (1).
لبثت الكتابة أمداً طويلاً بمثابة الترف يستمتع به أبناء الطبقات الرفيعة، ولم يبذل أي مجهود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في سبيل نشرها بين طبقات الشعب؛ ففي عصر "كيوتو" أقام الأغنياء مدارس لأبنائهم، كما أنشأ الإمبراطوران "تنشي" و "مومو" في بداية القرن الثامن في كيوتو، أول جامعة يابانية؛ ثم نشأت مجموعة من المدارس الإقليمية شيئاً فشيئاً، تحت رقابة الحكومة، كان من حق متخرجيها أن يلتحقوا بالجامعة، ثم كان من حق من تخرج في الجامعة بعد اجتياز الامتحان المطلوب، أن يشغل مناصب الدولة؛ لكن جاءت الحرب الأهلية في الشطر الأول من العهد الإقطاعي، فأوقفت هذا التقدم في ميدان التعليم؛ وأهملت اليابان فنون العقل حتى أسعفتها الحكومة العسكرية التي قامت عليها أسرة "توكوجاوا" بأن أعادت السلام وشجعت العلم والأدب؛ وقد عدها "أيياسو" سبة فظيعة أن يجد تسعين في كل مائة من طائفة "السيافين" لا يعرفون القراءة أو الكتابة (5)، وفي سنة 1630 أنشأ "هياشي رازان" في "ييدو" مدرسة تخرج المعلمين في إدارة البلاد وفي الفلسفة الكونفوشيوسية، ولقد تطورت هذه المدرسة فيما بعد وأصبحت هي جامعة طوكيو؛ وكذلك أسس "كومازاوا" سنة 1666 في "شيزوتاني" أول كلية في الأقاليم، وأجازت الحكومة للمعلمين أن يلبسوا السيوف، فينافسوا طائفة "السيافين" في منزلتهم الاجتماعية، وبهذا شجعت طلاب العلم والباحثين والكهنة أن يقيموا مدارس خاصة في المنازل والمعابد لتعلم الناس تعليماً أولياً؛ وبلغ هذا الضرب من المدارس ثمانمائة سنة 1750، يتعلم فيها ما يقرب من أربعين ألفاً من الطلاب، وكانت كل هذه المعاهد من أجل أبناء "السيافين" أما التجار والفلاحون، فكان لا بد لهم أن يقنعوا بمحاضرات عامة، ولم يكن يتعلم من النساء على نحو منظم إلا الفتيات، ولم يتسع التعليم بحيث يشمل الجميع إلا حين مست الضرورة ودعت الحاجة بتأثير الحياة الصناعية (6) وهي في ذلك شبيهة بأوربا. 














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید