المنشورات

التاريخ الياباني

المؤرخون - آراي ها كوسيكي
لن تجد في كتابة التاريخ عند اليابانيين ما يمتعك بمثل ما يمتعك في أدبهم القصصي، على الرغم من أنه يتعذر عليك أن تفرق عندهم بين التاريخ والقصة، وأقدم كتاب باق في الأدب الياباني هو "كوجيكي" ومعناها ثبت "بالآثار القديمة" وهو مكتوب بالأحرف الصينية بقلم "باسومارو" سنة 712، وفي هذا الكتاب كثيراً ما تحل الأساطير محل الحقائق، حتى ليحتاج القارئ أن يمعن في إخلاصه للعقيدة الشنتوية لكي يقبل هذه الأساطير على أنها تاريخ (31)، ثم رأت الحكومة بعد "الإصلاح العظيم" في سنة 654 أن الحكمة تقتضي أن تروى قصة الماضي رواية جديدة، فظهر تاريخ جديد حول سنة 720 

عنوانه "ينهونجي" ومعناها "نيبون" وهو مكتوب باللغة الصينية، ويزدان بفقرات سرقها الكاتب سرقة جريئة من الأدب الصيني، وأحياناً أجراها على ألسنة أشخاص من اليابانيين القدماء، دون أن يأبه مطلقاً للترتيب الزمني للحوادث؛ ومع ذلك فقد جاء الكتاب محاولة أكثر جداً في روايته للحقائق من كتاب "كوجيكي"، وكان هو بمثابة الأساس للكثرة الغالبة مما كتب بعدئذ من كتب في التاريخ الياباني القديم، فمنذ ذلك الحين كتبت عدة كتب في تاريخ اليابان كل منها يبزّ سابقه في روحه الوطنية، وقد كتب "كيتاباتاكي" كتاباً أسماه "جنتوشوتوكي" - ومعناها تاريخ التسلسل الحقيقي للملوك الإلهيين - وضعه على أساس هذه العقيدة المتواضعة الآتية، التي أصبحت اليوم أمراً مألوفاً.
"إن ياماتو العظمى (أي اليابان) بلد إلهي، فالسلف الإلهي لم يضع أساساً لبلد من بلاد الأرض سوى بلدنا، وهو دون سائر البلاد قد لقي الرعاية من آلهة الشمس بحيث ولَّت على أموره سلسلة طويلة من أبنائها، ولن تجد لمثل هذا شبيهاً في البلاد الأخرى، ومن ثم سميت اليابان بالأرض الإلهية" (32).
وطبع هذا الكتاب أول ما طبع سنة 1649، فكان بداية للحركة التي قصدت إلى استعادة الإيمان القديم والدولة القديمة، وهما الجانبان اللذان بلغا أقصى حدودهما في المناقشات الحامية التي أقامها "موتو - موري" وشاءت الأيام أن يكون "متسو - كوني" - وهو حفيد "أيياسو" نفسه - هو الذي يتصدى لكتابة كتابه الذي أسماه "داي نيهونشي" (ومعناها "التاريخ الأكبر لليابان" 1851) فأخرج به صورة من مائتين وأربعين جزءاً صور بها الماضي الذي ساد فيه الأباطرة وساد النظام الإقطاعي، فكان هذا الكتاب بعدئذ من العوامل التي هيأت اليابانيين لخلع حكومة توكوجاوا العسكرية من مراكز السلطان. 

وقد يكون "آراي هاكوسيكي" أعلم المؤرخين اليابانيين وأبعدهم عن الميل إلى الهوى، فعلمه هو الذي ساد الحياة العقلية في "بيدو" في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وقد سخر "آراي" من اللاهوت الذي كان يأخذ به مبشرو المسيحية الأرثوذكسية، ووصفه بأنه "ممعن في صبيانيته" (33)، لكن جرأته قد حدت به كذلك أن يهزأ ببعض الأساطير التي ظنها أهل وطنه تاريخاً (34)، وكتابه العظيم "هانكامبو" - وهو تاريخ "لدايمو" يتألف من ثلاثين جزءاً - يعد من أعاجيب الروائع الأدبية، لأنه - فيما يظهر - قد تم تأليفه في أشهر قلائل، على الرغم مما لابد أن يكون قد اقتضاه من كثرة البحث (35)، وقد استمد آري بعض علمه وطائفة من أحكامه من دراسته للفلاسفة الصينيين، ويقال إنه لما جعل يحاضر في الآداب الكونفوشيوسية، كان الحاكم العسكري "أينوبو" يستمع إليه في إقبال وإجلال حتى لم يكن ليذب البعوض عن رأسه في الصيف، وكان في الشتاء ينحو بوجهه جانباً إذا أراد أن يمسح الرشح عن أنفه احتراماً للمحاضر (36)، وكتب "آراي" ترجمة لحياته فصور أباه تصويراً جليلاً رسم به المواطن الياباني في خير صورة له وأبسطها.
"إنني أعود بذاكرتي إلى أول لحظة بدأت عندها أتعمق الأمور إلى صميمها، فأجد حياته الرتيبة اليومية لم تكن تختلف في يوم عنها في يوم آخر؛ فما كان يفوته قط أن يستيقظ قبل شروق الشمس بساعة، ثم يستحم بماء بارد، ويصفف شعره بنفسه؛ وإذا اشتد برد الشتاء تعرض عليه امرأته - وهي أمي - أن تعد له ماء ساخناً، لكنه لم يكن يرضى بذلك، لأنه لم يكن يريد أن يتعب الخدم؛ فلما زاد عمره على السبعين، وتقدمت أمي كذلك في سنها؛ وكان البرد يشتد إلى درجة لا يحتملانها، كانا يستحضران في غرفتهما موقداً وينامان وأقدامهما ممدة تجاهه؛ وكان يوضع إبريق من الماء الساخن إلى جانب المدفأة، فيشرب منه أبي عند استيقاظه؛ وكلاهما كان يقدس بوذا، فكان أبي لا يفوته قط - بعد أن يصفف شعره ويسوي ثيابه - أن يبدي علائم خشوعه لبوذا ... وبعد أن يرتدي رداءه، كان يجلس هادئاً في انتظار تباشير الصباح، وعندئذ يخرج إلى عمله الرسمي ... إن أحداً لم يره قط وعلامات الغضب على وجهه، ولست أذكر أبداً أني رأيته يوماً - حتى إن ضحك - يستسلم للمرح الصاخب؛ وأقل من ذلك حدوثاً أن تراه يسفل إلى الألفاظ الجارحة إذا ما شاءت له الظروف أن يؤنب أحداً، وكان في سمره لا يتكلم ما أمكنه السكوت، كان رصيناً في سلوكه، فما رأيته قط جازعاً أو مضطرباً أو قلقاً ... يحافظ على نظافة الغرفة التي كان يشغلها عادة، ويعلق على الجدار صورة قديمة، ويضع في أصيص بعض زهرات من زهور الموسم، وقد ينفق يومه ناظراً إليها؛ كان قليل الرسم للصور يرسمها باللون الأسود على ورق أبيض، لأنه لم يكن محباً للألوان الزاهية، وإذا جادت صحته لم يطلب إلى الخادم أن يعينه في شيء قط، لأنه كان يعد كل شيء لنفسه بنفسه" (37). 















مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید