المنشورات

التصوير الياباني

مشكلات الموضوع - الطريقة والمادة - القوالب الفنية والمثل
العليا - الأصول الكورية والوحي البوذي - مدرسة توسا - العودة إلى
الصين - سشيو - مدرسة كانو - كوينسو - وكورين - المدرسة الواقعية
لئن كانت سائر الموضوعات التي مسسناها بالحديث على هذه الصفحات مما لا ينبغي فيه الحديث لغير المتخصصين، فذلك أصدق بالنسبة للتصوير الياباني؛ وإذا نحن استملناه هاهنا بكلامنا جنباً إلى جنب مع غيره من الموضوعات التي تمس خفايا النفس، حيث تخشى الملائكة أن تدوس بأقدامها في غير احتفال، فإنما نشتمله بالكلام آملين أن يستطيع القارئ خلال هذه الغلالة التي نقدمها له من نسيج الأخطاء، أن يلمح قبساً يهديه إلى لب الحضارة اليابانية في تمام خصائصها وجودة عنصرها، فآيات التصوير الياباني نتاج فترة من الزمن طولها ألف ومائتا عام، تتقسمها كثرة متشابكة الخيوط من مختلف المدارس؛ وقد طرأ على تلك الآيات الفساد أو الضياع على مر الزمن، وتكاد كلها تكون خبيثة بين المجموعات الخاصة في اليابان (1).
وأما الآيات القليلة المعروضة لأعين الباحثين من الأجانب، فمختلفة في قالبها وطريقتها وأسلوبها ومادتها عن الصور الغربية اختلافاً، يستحيل معه إصدار حكم سليم عليها من عقل غربي.
فالصور اليابانية - قبل كل شيء تشبه نماذجها في الصين من حيث إنها رُسمت أول ما رسمت بنفس الفرجون الذي كان يستخدم للكتابة؛ والكلمة التي معناها كتابة، والأخرى التي معناها تصوير، هما في الأصل كلمة واحدة - كما هي الحال أيضاً عند اليونان، فالتصوير كان عبارة عن فن خطي؛ وهذه الحقيقة الأساسية قد تفرع عنها نصف خصائص التصوير في الشرق الأقصى، بادئاً من المادة المستعملة في التصوير، ومنتهياً إلى إخضاع اللون للتخطيط، فالمواد المستعملة بسيطة: مداد أو ألوان مائية، وفرجون وورق نشاف أو حرير نشاف، وأما العمل نفسه فعسير: فالفنان لا يعمل وهو واقف، بل يعمل جاثياً على ركبتيه، منحنياً على قطعة الحرير أو قطعة الورق المنشورة على الأرض؛ ولابد له من ضبط يده في التخطيط بالفرجون، حتى يستطيع أن يخط إحدى وسبعين درجة أو أسلوباً من درجات التخطيط أو أساليبه (73)؛ وكانت الرسوم ترسم على الجدران في القرون الأولى، أيام أن كانت البوذية مسيطرة على الفن في اليابان، على نحو ما كانت ترسم الصور الجدارية في "أجانتا" أو "تركستان"؛ غير أن كل ما بقي لدينا تقريباً من أعمال فنية واسعة الشهرة إما أن تكون من نوع الـ "ماكيمونو" (أي اللفائف) أو نوع الـ "كاكيمونو" (أي التعاليق) أو من نوع الستائر، ولم تكن هذه الصورة ترسم لتعرض في متاحف الفن عرضاً يخلو من استساغة المشاهدين لفنها - إذ ليس في اليابان متاحف للفن - إنما كانت ترسم لتكون متعة لناظري مقتنيها وأنظار أصدقائه؛ أو كانت تُرسم لتكون جزءاً من زينة زخرفية في معبد أو قصر أو منزل؛ وكان من النادر جداً أن تصور تلك الرسوم أشخاصاً معينين، إذ كان معظمها يصور لمحات من الطبيعة، أو مشاهد من النشاط العسكري، أو قبسات فكهة أو تهكمية تصور ما يشاهده الفنان من طرائق العيش عند الحيوان أو بني الإنسان نساء ورجالاً.
كانت صورهم أقرب إلى أن تكون قصائد تعبر عن وجدان الفنان، منها إلى أن تكون رسماً لأشياء؛ كما كانت أدنى شبهاً بالفلسفة منها بالتصوير الفوتوغرافي؛ فلم يحاول الفنان الياباني أن يلتزم الواقع في تصويره، وقلما أراد أن يقلد برسمه الصورة الخارجية للشيء المرسوم، فقد نفض يديه، في ازدراء من ظلال الأشياء، على اعتبار أنها لا تتصل بجواهر الأشياء، مؤثراً لنفسه أن يصور "في الهواء الطلق" بمعنى أنه لا يتقيد بتجسيم الشيء بوساطة تأثير النور والظل، وهو يبتسم ساخراً بالغربيين في إصرارهم على أن يخضعوا الأشياء البعيدة لقواعد النظر في رؤيته للأشياء على أبعاد، بحيث تصغر تبعاً لذلك أو تكبر، يقول "هوكاساي" - في تسامح فلسفي - "إن التصوير الياباني يمثل القالب واللون بغض النظر عن التجسيم. أما طرائق الأوربيين فتهدف إلى التجسيم والإيهام" (74)؛ أراد الفنان الياباني أن ينقل شعوراً أكثر مما ينقل شيئاً، أراد أن يوحي أكثر مما يعرض الشيء بأكمله كما هو، ففي رأيه لا يلزم أن تبين من عناصر المنظر المرسوم أكثر من عدد قليل، فالأمر هنا في التصوير كالأمر في الشعر الياباني، الذي لا يسمح بالزيادة في القول عن مجرد القدر الذي يكفي لإثارة وجدان التقدير الفني في السامع، بحيث يعمل خياله إعمالاً يكمل به النتيجة الجمالية المراد بلوغها، وكان المصور شاعراً، يقدر إيقاع التخطيط، ويقدر موسيقى القوالب، أكثر جداً مما يقدر أشكال الأشياء وطرائق بنائها التي تختار اختياراً كما اتفق، وهو كالشاعر يعتقد أنه لو أخلص لمشاعره، فحسبه هذا القدر من الواقعية.
ويحتمل أن تكون كوريا هي التي جاءت بفن التصوير للإمبراطورية القلقة التي تم لها عندئذ غزوها، وأغلب الظن أن بعض رجال الفن من كوريا هم الذين رسموا الصور الجدارية ذات الانسياب في خطوطها والازدهار في ألوانها التي تراها في "معبد هوريوجي"، لأنك لا تجد شيئاً في تاريخ اليابان فيما قبل القرن السابع، تفسر به مثل هذا الإنتاج القومي المفاجئ الذي بلغ فيه كمال الفن روعة لا يعيبها خطأ، ثم جاءها الحافز الثاني من الصين مباشرة، حين ذهب إليها الكاهنان اليابانيان "كوبودايشي" و "دنجيودايشي" ليدرسا فيها فن التصوير، فلما عاد "كوبودايشي" (سنة 806) إلى اليابان، كرس نفسه للتصوير وللنحت وللأدب والعبادة في آن معاً، وبعض الآيات التي تعد من أقدم الآيات الفنية، هي من نتاج فرجونه المتعدد المواهب؛ وكانت البوذية أيضاً مصدر وحي للفنان في اليابان كما كانت مصدر حي له في الصين، فممارسة الحالة التأملية البوذية المعروفة باسم "زن" قد اتجهت ناحية الإبداع في ناحيتي اللون والشكل، بقوة تكاد تقرب من القوة التي اتجهت بها نحو الفلسفة والشعر؛ وكثرت مناظر "اميدا بوذا" في الفن الياباني كثرة مناظر البشرى بمولد المسيح ومناظر صَلْبه على الجدران واللوحات التي ترجع إلى عهد النهضة الأوربية؛ والكاهن "ييشين سوزو" (مات سنة 1017) هو لليابان بمثابة "فرا إنجليكو" و "إلى جريكو" لذلك العصر، فتصويره لصعود "أميدا" وهبوطه جعله أعظم مصور ديني في تاريخ اليابان؛ وكان عندئذ "كوسي نو - كا نوكا" (حوالي 950) قد بدأ في جعل التصوير الياباني علماني الصبغة؛ وهاهنا بدأت الطيور والزهور والحيوان تنافس الآلهة والأولياء على لوحات التصوير.
غير أن فرجون "كوسي" كان ما يزال يتحرك على أساس القواعد الصينية ويفكر بعقول أهل الفن في الصين؛ ولم تبدأ اليابان في قرونها الخمسة التي اعتزلت بنفسها فيها وأخذت خلالها تصور مناظرها هي، وموضوعاتها هي، بطريقتها الخاصة، إلا حين وقفت علاقات الاتصال بين اليابان والصين في القرن التاسع؛ ونشأت مدرسة قومية لفن التصوير حوالي سنة 1150، تحت رعاية الدوائر الإمبراطورية والأرستقراطية في كيوتو؛ وأعلنت تلك المدرسة سخطها على ما يرد إلى البلاد من الخارج، من حوافز وأساليب في عالم الفن، وأخذت على نفسها أن تزخرف منازل العاصمة الفاخرة، برسوم زهور اليابان ومناظرها الطبيعية، وكان لهذه المدرسة عدة أسماء، كما كان لها عدة أعلام بارزين، فيطلق عليها "ياماتو- ريو" أو الأسلوب الياباني، و "واجا - ريو" ومعناها كذلك الأسلوب الياباني، و "كاسوجا" باسم مؤسسها المشهور، وأخيراً يطلق عليها "مدرسة توسا" باسم أهم ممثل لها في القرن الثالث عشر، وهو "توسا جون - نو - كومي)؛ ومنذ ذلك الحين، ظل اسم "توسا" يطلق على كل رجال الفن الذين ينتمون إلى تلك المدرسة، وهي مدرسة جديدة بوصفها بالصفة القومية، لأنك لا تجد في الفن الصيني ما يقابل مما أنتجته فراجين أتباع هذه المدرسة من حيث القوة والثبات والتنوع والفكاهة، مما تراه في اللوحات التي تقص قصصاً عن الحب والحرب، فحوالي سنة 1010 رسم "تاكايوشي" بالألوان رسوماً فخمة تصور حكاية "جنجي" وما فيها من غواية، وسرى "توبا سوجو" عن نفسه برسم صور تهكمية نابضة بالحياة، يسخر فيها من أوغاد عصره وكهنته، تحت ستار من القردة والضفادع، ولما وجد "فوجيوارا تاكانوبو" قرب نهاية القرن الثاني عشر، أن حسبه الشريف لا يغنيه شيئاً مذكوراً في إشباع حاجته من الطعام والشراب، استدار للفرجون يكسب به عيشه، ورسم صوراً عظيمة لـ "يورنيومو" وغيره، لا تشبه في شيء قط ما أنتجته الصين حتى ذلك الحين، وصور ابنه "فوجيوارا نوبوزاني" ستاً وثلاثين صورة للشعراء، محتملاً ما في ذلك العمل من صبر، وفي القرن الثالث عشر رسم ابن "كاسوجا" وهو "كيون" - أو غيره. تلك اللوحات الحية التي تعد من أروع ما أنتجه العالم كله في فن التصوير.
لكن هذه المصادر القومية التي كانت تبعث الوحي، راحت تجف شيئاً فشيئاً، بحيث تتحول إلى أوضاع تقليدية في الأشكال والأساليب، وعاد الفن الياباني من جديد فالتمس غذاءه عند المدارس الجديدة التي كانت ناهضة في الصين أيام "نهضة صنج"، ولبث اليابانيون حيناً مدفوعين إلى تقليد الصين بغير ضابط، وأنفق الفنانون اليابانيون الذين لم يشهدوا "المملكة الوسطى" قط، أنفقوا أعمارهم في رسم أشخاص ومناظر من الصين، فرسم "شو دنو" ست عشرة صورة لأولياء بوذيين، هي الآن بين الكنوز المعروضة في "متحف فرير"للفن في واشنطن، وأما "شوبون" فقد شاءت له ظروفه أن يولد وأن ينشأ في الصين، فلما جاء ليقضي حياته في اليابان، استطاع أن يصور مناظر طبيعية صينية مستعيناً في ذلك بذاكرته وبخياله معاً.
وكانت هذه الفترة الثانية من فترات التصوير الياباني، هي الفترة التي أنجبت أعظم شخصية ظهرت في تاريخ التصوير كله، وهو "سشيو"، الذي كان كاهناً من طائفة "زن" في "سوكوكوجي"، وهي مدرسة من المدارس الفنية الكثيرة التي أقامها "يوشيمتسوا" الحاكم العسكري من أسرة "أشيكاجا"؛ فقد استطاع "سشيو" هذا وهو لم يزل في يفاعته أن يدهش بني بلده برسومه؛ وتروي عنه أسطورة لم تدر كيف تعبّر عن إجلالها لفنه، تروي أنه ربط ذات يوم إلى عمود لسوء سلوكه، فرسم بأصابع قدميه جرذاناً بلغ شبهها بالجرذان الحية حداً جعل الحياة تدب فيها فتأتي لتقرض الوثاق الذي شد به (75)، ولما اشتد به الشوق إلى الاتصال بسادة الفن في الصين حينئذ اتصالاً مباشراً، حصل على أوراق اعتماد رسمية من رؤسائه الدينيين ومن الحاكم العسكري، ثم عبر البحر، لكن رجاءه خاب حين وجد التصوير الصيني في طريقه إلى التدهور، ثم عزى نفسه بما وجده في تلك المملكة العظيمة من تنوع في الحياة والثقافة، وعاد إلى وطنه مملوءاً بآلاف الأفكار الجديدة التي توحي إليه بما ينبغي أن يفعله؛ وتروي الرواية أن رجال الفن ورجال الطبقة العليا من أهل الصين، صحبوه إلى السفينة التي أعادته إلى بلاده، وأمطروه بورقات بيض ملتمسين منه أن يرسم فيها رسوماً تخطيطية بسيطة - إن لم يَجُدْ عليهم بأكثر من ذلك - ثم يرسلها إليهم؛ ومن ثم - هكذا تقول هذه الرواية - سمي باسمه الرمزي "سشيو"، الذي معناه "سفينة الثلج" (76)، لأن الورقات البيض تساقطت عليه كما يتساقط الثلج، والظاهر أنه لما بلغ اليابان استقبله الناس هناك استقبالهم لأمير، ومنحه الحاكم العسكري "يوشيماسا" منحاً كثيرة، لكنه رفض هذه المنح كلها - لو أخذنا بما نقرأه عن الأمر - وعاد فأوى إلى أبراشيته الريفية في "شوشو" وهناك راح ينثر الفن نثراً، واحدة في إثر واحدة، كأنما ينتج في كل لحظة نتاجاً تافهاً عابراً أوحت به ظروف اللحظة الراهنة، حتى كاد يخلّد بصوره كل جوانب الصين في مناظرها وحياتها؛ فقلما رأت الصين مثل هذا التنوع كله في موضوعات التصوير عند الفنان الواحد - ولم تر اليابان مثل ذلك قط في تاريخها - كلا ولا رأت مثل هذه القوة في التصور والتصوير معاً، وفي ثبات الخطوط؛ ولما بلغ الشيخوخة، دقَّ رجال الفن في اليابان طريقاً إلى بابه وكرموه فجعلوه - حتى قبل موته - فناناً في طليعة الركب؛ وإن الصورة بريشة "سشيو" لتقدر اليوم عند هواة الصور من اليابانيين، بمثل ما يقدر به هواة الأوربيين صورة بريشة ليوناردو؛ وتروي أسطورة من تلك الأساطير التي تحول الأفكار الغريبة إلى حكايات لطيفة، أن رجلاً كان يملك صورة من رسم "سشيو" ثم اشتعلت النار بمنزله بحيث كان يستحيل عليه النجاة، فبقر بطنه بقراً بسيفه ودسّ في معدته قماشة الصورة النفيسة - ووجدت الصورة بعدئذ سليمة من التلف داخل جثمانه الذي كانت النار قد أكلته إلى نصفه (77).
واستمر ازدياد التأثير الصيني في كثير من رجال الفن الذين كانوا في كنف أمراء الإقطاع من الأسرتين العسكريتين: "أشيكاجا" و "توكوجاوا"؛ وكان لكل أمير في حاشيته مصوره الرسمي الذي نيط به أن يدرب مئات الفنانين الناشئين الذين قد تدعو الحاجة المباغتة إلى استخدامهم في زخرفة أحد القصور؛ إذ كانت المعابد عندئذ تُنسى، لأن الفن كان في طريق التحول إلى المجال الدنيوي كلما ازدادت البلاد ثراء؛ ولما دنا القرن الخامس عشر من ختامه، أنشأ "كانو ماسانوبو" في كيوتو تحت رعاية "أشيكاجا" مدرسة للفنانين العلمانيين، أطلق عليها الجزء الأول من اسمه، وجعلها تتجه بجهدها كله نحو الاحتفاظ بكل شدة بالتقاليد الكلاسيكية الصينية في الفن الياباني؛ وبلغ ابنه "كانو موتونوبو" في هذا الاتجاه مبلغاً جعله عَلَماً لا يمتاز عليه إلا "سشيو" وحده؛ وإن قصة لتروى عنه فتبين بياناً واضحاً كيف أن تركيز الانتباه والثبات على غاية واحدة هما اللذان يكونان العبقرية؛ تقول عنه القصة إنه قد طُلِبَ إليه أن يصور عدداً من طيور الكركيّ فشوهد مساءً بعد مساء يمشي مشية الكركي؛ واتضح أنه كان في كل ليلة يقلد الكركي الذي كان مصمماً على تصويره في اليوم التالي؛ فيظهر أن الإنسان لابد له من الذهاب إلى مخدعه والغاية المنشودة نصب عينيه، حتى يستيقظ في الصباح مشهوراً، وظهر حفيد لـ "موتونوبو" - هو "كانو ييتوكو"، فطوَّر على يديه تحت رعاية هيديوشي، نمطاً فنياً أبعد ما يكون عن الكلاسيكية المتزمتة التي اصطنعها أسلافه، على الرغم من أنه فرعاً من أسرة "كانو"، وجاء "تانيو" فنقل مركز المدرسة من كيوتو إلى بيدو، وعمل في كنف أفراد أسرة "توكوجاوا" وعاون في زخرفة مقبرة "أيياسو" في "نكو" وبالرغم من كل هذه المحاولات نحو مواءمة الفن لظروف العصر، فقد استنفذت أسرة "كانو" دوافعها إلى الفن على مر الزمن، وأدارت اليابان وجهها نحو أعلام آخرين يبدءون لها في تاريخ فنها شوطاً جديداً.
وهكذا ظهرت طائفة أخرى من رجال التصوير سنة 1660، وأطلق عليها اسم عَلَمَيها الزعيمين، إذ سميت "مدرسة كويتسو - كورين"، وكان من طبيعة التذبذب الذي يطرأ على الفلسفات وأنماط الفن، أن تنظر هذه المدرسة الجديدة إلى الأوضاع والموضوعات الصينية التي عني بها "سشيو" و "كانو" نظرتها إلى الشيء الرجعي الذي أبلاه الزمان؛ وتلفت الفنانون الجدد يبحثون عن مناظر في بلادهم نفسها، واستوحوا بلادهم الإلهام الفني والموضوعات التي يديرون فيها فنهم ذاك؛ وكان "كويتسو" رجلاً بلغ به تنوع المواهب حداً يذكّرنا بما قاله "كارلايل" غيرةً من سواه من العظماء، إذ قال إنه لا يعرف عظيماً واحداً لم يكن ليستطيع أن يكون عظيماً في أي مجال شاء؛ ذلك أن "كويتسو" هذا كان ممتازاً في الخط وممتازاً في التصوير، وممتازاً في الرسم على المعادن و "اللاكيه" والخشب؛ وهو شبيه بـ "وليم مورس" في قيامه بحركة إحيائية في سبيل الطباعة الجميلة، وأشرف على قرية قام فيها صُنَّاعُه بمختلف ألوان الفن تحت إرشاده (78)، ولم ينافسه الزعامة في التصوير في عهد "توكوجاوا" إلا "كورين" ذلك المصور البارع للأشجار والأزهار، الذي يحدثنا عنه معاصروه فيقولون إنه كان يستطيع بجرة واحدة من فرجونه أن يطبع ورقة من أوراق السوسن على قماشه الحرير فتحيا (79)؛ ولست تجد مصوراً سواه تمثلت فيه الروح اليابانية الخالصة كاملة كما تمثلت فيه؛ أو أظهر الروح اليابانية كما أظهرها هو إظهار جعله بمثابة النمط لليابان كلها في سلامة ذوقه ودقة فنه (1).
وآخر مدارس التصوير اليابانية التي يسجلها التاريخ، بمعنى كلمة التصوير الدقيق، مدرسة أسسها "مارويامي أوكيو" في كيوتو في القرن الثامن عشر؛ وكان "أوكيو" هذا رجلاً من الشعب، حركت نوازع الفن في نفسه معرفته اليسيرة بالتصوير الأوربي، فصمم أن يهجر الأسلوب القديم بما فيه من نزعة مثالية ونزعة تأثرية قد نفذت منهما عصارة الحياة، وأن يحاول وصفاً واقعياً لمشاهد بسيطة يختارها من الحياة اليومية الجارية؛ وأغرم غراماً خاصاً برسم الحيوان، واحتفظ بصنوف كثيرة من أنواع الحيوان تعيش حوله ليتخذ منها موضوعات لفنه؛ وقد حدث مرة أن رسم خنزيراً متوحشاً وأطلع الصيادين على صورته فخاب رجاءه حين ظن هؤلاء الصيادون أن الخنزير المرسوم يصور خنزيراً ميتاً؛ فلبث يحاول، حتى رسم صورة لخنزير قال عنها الصيادون إن الخنزير الذي تصوره ليس ميتاً، ولكنه نعسان (81)؛ ولما كانت الطبقة العالية في كيوتو مفلسة، اضطر "أوكيو" أن يبيع صوره لأبناء الطبقة الوسطى، ولعل هذه الضرورة الاقتصادية هي التي ألزمته إلى حد كبير أن يختار لفنه موضوعات شعبية، لدرجة أنه جعل يصور بعض غانيات كيوتو، وصعق لذلك فنانو الجيل السابق لجيله، ولكنه مضى في طريقه خارجاً على التقاليد؛ وجاء "موري سوزن" فتقبل زعامة "أوكيو" في التزام الطبيعة في الفن، وقصد إلى حيث تسكن الحيوانات فعاش بينها لكي يتاح له الإخلاص في تصويرها، حتى أصبح أعظم مصور ياباني في رسم القردة والغزلان؛ فلما مات "أوكيو" (1795) كان الواقعيون قد كسبوا السيادة التامة على فن التصوير، واستطاعت مدرسة شعبية خالصة أن تستوقف الأنظار، لا في اليابان وحدها، بل في أرجاء العالم كله. 














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید