تدهور الحكم العسكري - أمريكا تطرق الباب - عودة السلطة
الإمبراطورية - تغريب اليابان - التجديد السياسي - الدستور
الجديد - القانون - الجيش - الحرب مع روسيا - نتائجها السياسية
يندر أن يأتي الموت إلى مدينة من خارجها، بل لا بد للانحلال الداخلي أن يفت في نسيج المجتمع أولاً قبل أن يتاح للمؤثرات أو الهجمات الخارجية أن تغير جوهر بنائها، أو أن تقضي عليها قضاء أخيراً؛ فقلما يكون للأسرة الحاكمة تلك الحيوية الدؤوب والمرونة السريعة التشكل، اللتان يتطلبهما استمرار السيادة، فمؤسس الأسرة المالكة يستنفذ نصف القوة الكامنة في أصلاب أسرته ثم يترك لغير الممتازين من خلفه عبثاً لا يستطيع حمله إلا العباقرة؛ فأسرة "توكوجاوا" بعد "أيياسو" حكمت البلاد حكماً لا بأس به، لكننا لو استثنينا منها "يوشيموني" لما وجدنا بين أفرادها شخصيات بارزة تستوقف النظر؛ فما انقضت بعد موت "أيياسو" ثمانية أجيال حتى راح أمراء الإقطاع يزعزعون قوائم تلك الأسر العسكرية بثوراتهم التي ما فتئت تنهض حيناً بعد حين؛ فكانوا يسوِّفون في دفع الضرائب أو يمتنعون عن دفعها؛ وعجزت خزانة "ييدو" - بالرغم من التدابير الاقتصادية العنيفة التي اتخذت - عن تمويل الدفاع القومي أو صيانة الأمن في البلاد (1). وقد مر على البلاد أكثر من قرنين حيث ساد السلام فتطرَّت خشونة "السيافين" وضعف احتمال الشعب لمكاره الحروب وتضحياتها؛ وحلَّت في الناس نزعات أبيقورية (ترمي إلى التمتع) محل البساطة الرواقية التي كانت سائدة في عهد هيديوشي؛ فلما أن دعيت البلاد فجأة لحماية سيادتها، وجدت نفسها منزوعة السلاح بمعناه المادي والخلقي جميعاً؛ وانحل العقل الياباني بفعل اعتزالها الاتصال بالأجانب، وأخذ الناس يسمعون بتطلع قلق عن ازدياد الثروة وتغير المدنية في أوربا وأمريكا؛ وراح هؤلاء الناس يدرسون ما جاء بكتابي "مابوشي" و "موتو - أوري" وشاع بينهم في الخفاء أن الحكام العسكريين مغتصبون للحكم، وقد فككوا باغتصابهم ذاك استمرار سيادة الإمبراطورية، ولم يستطع الشعب أن يوفق بين الأصل الإلهي للإمبراطور، وبين فقره المدقع الذي فرضته عليه أسرة "توكوجاوا"؛ وجعل الدعاة إلى قلب نظام الحكم العسكري القائم، يخرجون من مكانهم في "يوشيوارا" وغيرها ويغمرون البلاد بنشراتهم التي تحرض الناس على ذلك الانقلاب، وإرجاع الإمبراطور للحكم.
ونزلت النازلة على رأس هذه الحكومة المرتبكة الفقيرة، حين شاع النبأ سنة 1853 بأن أسطولاً أمريكياً قد تجاهل الأوامر اليابانية التي تحرم دخول خليج أوراجا، ودخل ذلك الخليج، وأن قائده يلح في مقابلة صاحب السلطة العليا في اليابان، والحقيقة أن "الكومودور بري" كان يقود أربع سفن حربية فيها خمسمائة وستون رجلاً، وبدل أن يعرض هذه القوة المتواضعة عرضاً فيه معنى التهديد، أرسل مذكرة ودية إلى الحاكم العسكري "أييوشي" يؤكد له أن الحكومة الأمريكية لا تطلب أكثر من فتح بضعة موان يابانية في وجه التجارة الأمريكية، واتخاذ بعض الإجراءات لحماية البحارة الأمريكيين الذين قد تتحطم بهم سفائنهم على الشواطئ اليابانية، ولم يلبث "بري" أن اضطر إلى العودة إلى قاعدته في المياه الصينية بسبب "ثورة تاي - ينج"، لكنه عاد إلى اليابان من جديد سنة 1854 مسلحاً بقوة بحرية أكبر، ومزوداً بمختلف الهدايا المغرية - عطور وساعات ومدافئ وشراب الويسكي، يقدمها للإمبراطور والإمبراطورات وأمراء البيت المالك؛ غير أن الحاكم العسكري الجديد "أييسادا" تعمد ألا يرسل هذه الهدايا إلى أفراد الأسرة المالكة، ووافق على توقيعه لمعاهدة "كاناجاوا" التي اعترفت بكل ما طلبه الأمريكان؛ وهنا أثنى "بري" على حسن لقاء أهل الجزر اليابانية، وأعلن مدفوعاً بقصر نظره أنه "لو جاء اليابانيون إلى الولايات المتحدة، وجدوا المياه الصالحة للملاحة في البلاد مفتوحة أمامهم، وأنه ستفتح لهم أبواب مناجم الذهب نفسها في كاليفورنيا" (2)؛ وهكذا فتحت الموانئ اليابانية الكبرى للتجارة الخارجية بمقتضى هذه المعاهدة وما تلاها من معاهدات؛ وحددت الضرائب الجمركية وفصِّلت مقاديرها وأنواعها؛ ووافق اليابانيون على أن يحاكم المتهمون من الأوربيين والأمريكيين في اليابان أمام محاكمهم القنصلية؛ واشترطت شروط اتفق فيها على أن يوقف اضطهاد المسيحية في الإمبراطورية اليابانية، ووافقت الولايات المتحدة في الوقت نفسه أن تبيع لليابان كل ما تحتاج إليه من أسلحة وسفن حربية، وأن تعيرها الضباط والصناع لعل هذه الأمة المسالمة مسالمة صبيانية أن تتعلم على أيديهم فنون القتال (3).
وعانى الشعب الياباني أقسى عناء مما فرضته هذه المعاهدات عليه من فروض الذل، ولو أنه عاد فنظر إليها على أنها أدوات محايدة جاءته لتعمل على تطوره، وتقرير مصيره؛ وود بعض اليابانيين أن يقاتل الأجانب مهما تكلف في سبيل ذلك، وأن يطردهم ويعيد للبلاد نظامها الزراعي الإقطاعي الذي يكفيها مؤونة الاعتماد على غيرها؛ لكن بعضهم الآخر كان من رأيه أن تقليد الغرب أجدى من طرده من بلادهم؛ فالوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها اليابان أن تتجنب الهزائم المتكررة والخضوع الاقتصادي الذي يشبه ما كانت أوربا تفرضه عندئذ على الصين؛ هي أن تتعلم اليابان بأسرع طريقة ممكنة أساليب الصناعة الغربية، فن الحرب الحديثة؛ وهنا نهض الزعماء الداعون إلى تغريب البلاد، واستعملوا اللباقة البالغة في استخدام سادة الإقطاع أعواناً لهم في قلب الحكم العسكري، وإعادة الإمبراطور، وبعدئذ استخدموا السلطة الإمبراطورية في قلب نظام الإقطاع وإدخال الصناعة الغربية في البلاد، وهكذا حدث سنة 1867 أن حمل أمراء الإقطاع "كيكي" - آخر الحكام العسكريين - على النزول عن سلطته، وقد قال "كيكي": "إن معظم أعمال الإدارة الحكومية معيبة، وإني لأعترف خجلاً بأن الأمور في وضعها الراهن يرجع نقصها إلى ما أتصف به أنا من نقص وعجز، وهاهو ذا اتصالنا بالأجانب يزداد يوماً بعد يوم؛ فما لم تتولَّ إدارة البلاد سلطة مركزية موحدة، انهار بناء الدولة انهياراً من أساسه" (4)؛ وعلى هذا القول أجاب الإمبراطور "ميجي" في اقتضاب قائلاً: "قد قبلنا ما عرضه توكوجاوا كيكي من إعادة السلطة الإدارية إلى البلاط الإمبراطوري، وفي اليوم الأول من يناير سنة 1868 بدأ العهد الجديد "عهد ميجي" بداية رسمية.
ورجعت الديانة الشنتوية القديمة، وقام أولو الأمر بدعاية قوية في الشعب حتى أقنعوه بأن الإمبراطور العائد إلى عرشه إلهيُّ النسب والحكمة، وأن ما يصدره من مراسيم يجب طاعته، كما تجب طاعة أوامر الآلهة.
فلما أن توفرت هذه القوة الجديدة لأنصار التغريب تمت على أيديهم معجزة أو ما يوشك أن يكون معجزة في تحول البلاد تحولاً سريعاً؛ فقد شق "إتوا" و "إنويي" طريقهما إلى أوربا رغم كل ما صادفهما من صعاب وعقبات، ودَرَسَا أنظمتها وصناعاتها، ودهشا لطرقها الحديدية وسفنها البخارية، وأسلاكها البرقية وسفنها الحربية؛ ثم عادا إلى بلادهما تشتعل في صدريهما الحماسة الوطنية نحو تحويل اليابان إلى صورة أوربية، فدُعِي رجال من الإنجليز للإشراف على بناء السكك الحديدية وإقامة الأسلاك البرقية وتكوين الأسطول، كذلك دُعي رجال من الفرنسيين ليعيدوا صياغة القوانين ويدربوا الجيش؛ وكلف رجال من الألمان بتنظيم شؤون الطب والصحة العامة، واستخدم الأمريكان في وضع نظام للتعليم العام، ولكي يتم لهم الأمر من جميع نواحيه جاءوا برجال من إيطاليا ليعلموا اليابانيين النحت والتصوير (5)، وقد كان يحدث بعض الحركات الرجعية أحياناً، وكانت تصل هذه الحركات إلى حد إراقة الدماء، بل كانت الروح اليابانية كلها تثور آناً بعد آن على هذا التحول المصطنع الذي رج أوضاع الحياة كلها، لكن الآلة شقت طريقها آخر الأمر، ودخلت اليابان بلداً جديداً في نطاق الانقلاب الصناعي.
ورفعت هذه الثورة بالطبع (وهي الثورة الوحيدة الحقيقية في التاريخ الحديث)، طبقة جديدة من الرجال إلى منازل الثروة والقوة الاقتصادية - منهم الصناع والتجار والممولون - وقد كان هؤلاء في اليابان القديمة يوضعون في أسفل درجات السلّم الاجتماعي؛ وجعلت هذه الطبقة (البرجوازية) الصاعدة تستخدم في هدوء ما أتيح لها من مال وقوة نفوذ في تحطيم النظام الإقطاعي أولاً، ثم عقبت على ذلك بالحد من سلطة العرش العائدة بحيث جعلت منها سلطة وهمية؛ ففي عام 1871 حملت الحكومة أشراف الإقطاع على النزول عن امتيازاتهم القديمة، وعوضتهم عن أراضيهم بسندات أصدرتها الحكومة (1).
ولما كانت الطبقة الأرستقراطية قد ارتبطت هكذا بروابط المصلحة المادية مع المجتمع الجديد، فقد بذلت خدماتها للحكومة عن ولاء ورضى، ومكنتها من تحويل البلاد من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث دون أن تسفك الدماء في هذا السبيل، وكان "إيتو هيرو بومي" قد عاد لتوه من زيارته الثانية لأوربا؛ فجرى في بلاده على غرار ما رآه في ألمانيا، إذ أنشأ بها طبقة عالية جديدة مؤلفة من خمس درجات: أمير؛ فماركيز، فكونت، ففيكونت، فبارون.
لكن هؤلاء جميعاً لم يكونوا هم الأعداء الإقطاعيين للنظام الصناعي الجديد بل كانوا لهذا النظام أعوانه المأجورين.
جاهد "إيتو" في تواضعه جهاداً لم يعرف الكلل، ليحقق لبلاده ضرباً من الحكومة لا تعيبه العيوب التي بدت في عينيه عيوباً ناشئة من الإفراط في الديمقراطية، على ألا يحد ذلك من تجنيد أصحاب النبوغ وتشجيعهم مهما تكن طبقتهم الاجتماعية لكي يحققوا للبلاد رقياً اقتصادياً سريعاً؛ وتمكنت اليابان في ظل زعامته أن تعلن أول دستور لها سنة 1889؛ فكان الإمبراطور في قمة البناء التشريعي، إذ كان من الوجهة الدستورية رأس الحكومة الأعلى، ومالكاً للأرض كلها، وقائداً للجيش والأسطول، المسئولين أمامه وحده، وهو الذي يكسب الإمبراطورية وحدتها واستمرارها وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة مليكها، وقد شاءت إرادته الكريمة أن يفوض لقوته التشريعية إنشاء مجلسين نيابيين يظلان قائمين ما شاء هو لهما أن يقوما - مجلس الأشراف، ومجلس النواب، غير أنه هو الذي يعين وزراء الدولة، الذين يسألون أمامه وحده لا أمام مجلس البرلمان، وكان تحت هؤلاء طبقة من الناخبين عددها يقرب من أربعمائة وستين ألفاً، حصروا في هذه الدائرة الضيقة باشتراط مؤهلات كثيرة في الناخب من حيث مقدار ما يملكه؛ ثم ارتفع عدد الناخبين بفعل حركات تحريرية متعاقبة حتى بلغ ثلاثة عشر مليوناً في سنة 1928، ولكن فساد الحكومة كان يساير التوسع في الديمقراطية خطوة خطوة (6).
وساير هذا التقدم السياسي نظام تشريعي جديد (1881) قائم إلى حد كبير على تشريع نابليون، وهو يحقق خطوة تقدمية جريئة بالنسبة لتشريع العصور الوسطى التي ساد فيها نظام الإقطاع؛ فمنحت للناس حقوقهم المدنية منحاً سخياً - إذ منحت لهم حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية العبادة وعدم انتهاك الرسائل والبيوت، والحصانة من القبض والعقاب إلا بإجراء قانوني (1)، وحرم التعذيب والمحنة وفُكتْ عن جماعة الـ "إيتا" قيودهم الطبقية، وسُوِّى بين الطبقات كلها أمام القانون من الوجهة النظرية، وأصلحت السجون، ودفعت الأجور للمسجونين على عملهم، حتى إذا ما أطلق سراح المسجون أعطي مبلغاً من المال متواضعاً يبدأ به حياة جديدة في زراعة أو تجارة؛ وعلى رغم ما أتاحه هذا التشريع للناس من حرية فقد ظلت الجرائم قليلة الحدوث (7).
ولو اعتبرنا رضى الناس بالقانون عن طواعية علامة على مدنيتهم، عددنا اليابان في طليعة الأمم الحديثة حضارة (إذا استثنينا عدداً قليلاً من حوادث الاغتيال).
ولعل أهم ما يميز الدستور الجديد هو إعفاء الجيش والأسطول من كل رئاسة إلا رئاسة الإمبراطور، فإن اليابان لم تنس قط ما وقع لها من ذل في عام 1853، ولذا صممت على إنشاء قوة عسكرية تمكنها من السيطرة على تقرير مصيرها بنفسها، وتجعلها في النهاية سيدة الشرق كله؛ فلم يكفها أن تعمم التجنيد، بل جعلت من كل مدرسة في البلاد معسكراً للتدريب الحربي، وثدياً يُرضع النشء بلبان الحماسة الوطنية؛ وكان لهؤلاء الناس استعداد عجيب للنظام والطاعة، سرعان ما انتهى بقوتهم العسكرية إلى درجة أتاحت لليابان أن تخاطب "الأجانب الهمج" مخاطبة الند للند، كما أتاحت لها احتمال ابتلاعها للصين جزءاً جزءاً، وهو أمل طاف برأس أوربا، لكنه لم يتحقق لها؛ وحدث عام 1894 أن أرسلت الصين حملة عسكرية لإخماد ثورة في كوريا، وأن لبثت تعيد وتكرر القول بأن كوريا دولة تابعة لسلطة الصين، فلم يعجب اليابان هذا كله، وأعلنت الحرب على معلمتها القديمة، وأدهشت العالم بسرعة انتصارها إذ أرغمت الصين إرغاماً على الاعتراف باستقلال كوريا، وعلى التنازل لها عن "فرموزا" و "بورت آرثر" (على رأس شبه جزيرة لياوتنج)، وعلى دفع تعويض مالي قدره مائتا مليون من التيلات، وقد أيدت ألمانيا وفرنسا روسيا في "نصحها" لليابان بالانسحاب من "بورت آرثر" مقابل زيادة في تعويضها المالي قدرها ثلاثون مليوناً من التيلات (والزيادة تدفعها الصين)، وخضعت اليابان لما طلب إليها، لكنها احتفظت بذكرى هذه المعاكسة على مضض، وراحت ترقب فرصة الانتقام.
ومنذ تلك الساعة أخذت اليابان تعد نفسها إعداداً جاداً لا يعرف اللهو، تعد نفسها للصراع مع روسيا صراعاً كان لا بد من وقوعه نتيجة اتساع الإمبراطوريتين في آمالهما الاستعمارية؛ ونجحت اليابان في إثارة مخاوف إنجلترا من احتمال التوغل الروسي في الهند فأبرمت مع سيدة البحار تحالفاً (1902 - 1922)، تعهدت به كل من الدولتين أن تساعد الأخرى إذا ما اشتبكت في قتال مع دولة ثالثة ودخلت دولة أخرى في القتال؛ وقلما وقّع الساسة الإنجليز على ما يقيد حريتهم كل هذا التقييد الذي فرضته عليهم تلك المعاهدة؛ فلما بدأت الحرب مع روسيا سنة 1904 أقرض الممولون الإنجليز والأمريكان أموالاً طائلة لليابان، لتعينها على كسب النصر من القيصر (8)، واستولى "نوجي" على "بورت آرثر" وزحف بجيشه نحو الشمال قبل فوات الفرصة لإخماد مذبحة "مكدن" - وهي أفظع ما شهد التاريخ من مواقع دامية، قبل أن يشهد حربنا العالمية (الأولى) التي لا يضارعها مضارع، والظاهر أن ألمانيا وفرنسا فكرتا في مساعدة روسيا بالسياسة أو بالسلاح، لكن الرئيس روزفلت صرح بأنه إذا حدث شيء، كهذا، فلن يتردد في الوقوف إلى جانب اليابان (9)، وفي ذلك الوقت أقلع أسطول روسي قوامه تسع وعشرون سفينة، وشق طريقه جريئاً حول رأس الرجاء الصالح، مرتحلاً بذلك رحلة لم يسبق لأسطول حديث أن ارتحل مثلها طولاً، وذلك لكي يقابل اليابان في مياهها وجهاً لوجه؛ غير أن الأميرال "توجو" استعان لأول مرة في تاريخ الأساطيل البحرية باللاسلكي، وظل على علم متصل بسير الأسطول الروسي، ثم وثب عليه وثبة قوية في مضيق تسوشيما في السابع والعشرين من شهر مايو سنة 1905، وأبرق "توجو" لقادته جميعاً رسالة تصور نفسية اليابان كلها. إذ قال: "إن نهوض الإمبراطورية أو سقوطها يتوقف على هذه المعركة" (10)، فقتل من اليابانيين فيها 116، وجرح منهم 538، وأما الروس فقتل منهم أربعة آلاف، وأسر سبعة آلاف، وأغرقت أو أسرت كل سفنهم إلا ثلاثاً.
كانت "موقعة بحر اليابان" نقطة تحول في مجرى التاريخ الحديث؛ فهي لم تقتصر على إيقاف التوسع الروسي في الأراضي الصينية، بل أوقفت كذلك سيطرة أوربا على الشرق، وبدأت ذلك البعث الذي اشتمل آسيا، والذي يبشر بأن يكون محور الحركات السياسية كلها في هذا القرن الحاضر؛ ذلك أن آسيا كلها قد دبت فيها الحماسة حين رأت الإمبراطورية الجزرية الصغيرة تهزم أكثر دول أوربا عمراناً بأهلها، فدبرت الصين خطة لثورتها، وبدأت تحلم بحريتها، أما اليابان، فلم يَطُف ببالها أن توسع من نطاق الحرية، بل فكرت في الزيادة من سلطانها؛ فانتزعت من روسيا اعترافاً بأن لليابان المكانة العليا في كوريا، ثم ما جاءت سنة 1910 حتى أعلنت اليابان نهائياً ضم كوريا إليها رسمياً، وهي تلك المملكة القديمة التي بلغت من المدنية يوماً شأناً عظيماً، فلما مات الإمبراطور "ميجي" عام 1912، بعد حياة طويلة طيبة أنفقها حاكماً وفناناً وشاعراً استطاع أن يحمل معه إلى الآلهة الذين انسلوا اليابان رسالة بأن الأمة التي خلقوها، والتي كانت في بداية حكمه لعبة في يد الغرب الفاجر، قد باتت اليوم رفيعة المكانة في الشرق، وقطعت شوطاً بعيداً في طريقها نحو أن تكون محوراً للتاريخ كله.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)