المنشورات

العمال الهومرية

إن الصورة التي تنطبع في أذهاننا عن الآخيين (أي عن اليونان في عصر الأبطال) هي أنهم كانوا أقل حضارة من الميسينيين الذين سبقوهم، وأرقى حضارة من الدوريين الذين خلفوهم. وأهم ما نلاحظ فيهم أنهم كانوا أحسن أجساماً من هؤلاء وأولئك، فرجالهم طوال القامة أقوياء البنية، ونساؤهم ذوات جمال بارع فتان يسلب العقول بكل ما في هذا التعبير من معان. والآخيون ينظرون، كما ينظر الرومان الذين عاشوا من بعدهم بألف عام، إلى الثقافة الأدبية على أنها تدهور وتخنث. وهم لا يستخدمون الكتابة إلا مضطرين، ولا يعرفون من الأدب إلا الأغاني الحربية وأناشيد الشعراء الجوالين غير المكتوبة. وإذا جاز لنا أن نصدق هومر حق علينا أن نقول إن زيوس قد حقق في المجتمع الآخي آمال الشاعر الأمريكي الذي كتب يقول إنه لو كان إلهاً لجعل الرجال كلهم أقوياء، والنساء كلهن حساناً، ثم جعل نفسه بعد ذلك رجلاً. لقد كانت بلاد اليونان الهومرية جنة من الحور العين (15). وحتى رجالها كانوا على جانب كبير من الجمال، كان لهم شعر مرسل طويل، ولحى كبيرة؛ وكانت أعظم هدية يستطيع الرجل أن يهديها أن يقص شعر رأسه ويقربه قرباناً أمام كومة الحطب التي تحرق عليها جثة صديقه (16)؛ ولم يكن العري قد أصبح بعد عادة في البلاد، فكان النساء والرجال يغطون أجسامهم برداء مربع يطوونه فوق الكتفين، ويشبكونه بدبوس، ويصل إلى قرب الركبتين، وتضيف النساء إلى هذا نقاباً أو حزاماً، ويضيف الرجال غطاء للحقوين - قدر له أن يتطور على مر الزمن وازدياد الاحتشام والكرامة حتى أصبح هو اللباس ثم السروال (البنطلون). وكان الأغنياء يرتدون أثواباً غالية الثمن كالثوب الذي تقدم به بريام في ذلك إلى أكليز ليفتدي به ولده (17). وكان الرجال حفاة الأقدام والنساء عاريات الأذرع، إلا في خارج الدور فكانوا يحتذون جميعاً صنادل. أما في داخلها فكانوا في العادة حفاة. وكانوا رجالاً ونساء يتحلون بالجواهر، وقد أدهنت النساء وأدهن باريس "بالزيت الذي له رائحة الورد (18) ".
ترى كيف كان يعيش أولئك الرجال والنساء؟ يصفهم هومر بأنهم كانوا يحرثون الأرض، ويشمُون وهم فرحون الأرض السوداء بعد تقليبها، ويتتبعون بأعينهم في فخر وخيلاء الخطوط المستقيمة التي خطتها المحاريث، ويبذرون القمح ويروون الأرض، ويقيمون الجسور ليتقوا بها فيضان الأنهار في الشتاء (19). ويشعرنا هومر بيأس الفلاح الذي قضى الشهور الطوال في كدح مستمر، ثم يأتي "التيار الجارف السريع فيهدم الحواجز والجسور، ولا تستطيع سلسلة الأكوام الطويلة أن تكبح جماحه، أو أسوار البساتين المثمرة حين يفاجئها أن تقف في سبيله (20). وليست أرض البلاد مما يسهل فلحها لأن الكثير منها جبال أو مناقع، أو تلال كثيفة الأشجار؛ وكانت الحيوانات البرية تهاجم القرى، فكان الصيد ضرورة قبل أن يصبح رياضة وهواية. وكان الأغنياء يعنون بتربية قطعان كبيرة من الماشية، والضأن، والخنازير، والمعز، والخيل؛ ويُروى أن رجلاً منهم يسمى إركثونيوس Erichthonius كان له ثلاثة آلاف فرس ولود مع أمهارها (21). وكان الفقراء يأكلون لحم السمك، والبقول، والخضر أحياناً، أما المحاربون والأغنياء فكان جل اعتمادهم على اللحم المشوي الكثير، وكان فطورهم اللحم والنبيذ. وقد تغذى أديسيوس مع راعي خنازيره بخنزير صغير مشوي، وتعشيا بثلث خنزير عمره خمس سنوات". وكانوا يستعملون عسل النحل بدل السكر، ودهن الحيوان بدل الزبد، والكعك المصنوع من الحب بدل الخبز، فكانوا يجعلونه رقائق ثم يخبزونه على لوح من الحديد أو على حجر محمي. ولم يكن الآكلون يضطجعون في أثناء تناول الطعام كما كان الأثينيون يفعلون فيما بعد، بل كانوا يجلسون على كراسي ممتدة على طول الجدار لا مصفوفة حول مائدة وسطى. ولم يكونوا يستعملون الأشواك أو الملاعق أو الفوط إلا ما عسى أن يكون مع الضيوف من مدي؛ وكانوا يأكلون بأيديهم وأصابعهم (23)؛ وكان شرابهم الرئيسي حتى الفقراء والأطفال هو النبيذ المخفف.
وكانت الأرض ملكاً للأسرة أو العشيرة لا للفرد؛ وكان الأب هو الذي يشرف عليها ويصرف شؤونها، ولكنه لم يكن من حقه أن يبيعها (24)، وتقول الإلياذة إن مساحات واسعة كانت من أملاك الملك المشاعة (الدومين)، وكانت في واقع الأمر ملكاً للمجتمع يستطيع أي إنسان أن يرعى فيها ماشيته؛ ونرى في الأوديسة أن هذه الأرض المشاعة قد قسمت وبيعت - أو أصبحت ملكاً للأفراد الأثرياء أو الأقوياء؛ وهكذا اختفت الأرض المشاعة في بلاد اليونان القديمة بنفس الطريقة التي اختفت بها في إنجلترا الحديثة (25).
وكان في مقدور الأرض أن تخرج المعادن كما تخرج الطعام، ولكن الآخيين أهملوا استخراج المعادن واكتفوا باستيراد النحاس، والقصدير، والفضة والذهب، ومادة أخرى جديدة عجيبة من أسباب الترف، وهي الحديد. فنرى كتلة غير مشكلة من الحديد تقدم هدية ثمينة في الألعاب التي أقيمت تكريماً لبتروكلوس Patroclus (26) ، ويقول عنها أكليز (أخيل) إنه سوف يُصنع منها كثير من الأدوات الزراعية. وهو لا يذكر في هذا المقام شيئاً عن الأسلحة، وكانت لا تزال تصنع من البرنز (27)، وتصف الأوديسة سقي الحديد (1)، ولكن هذه الملحمة قد وصلت إلينا في أكبر الظن من عصر متأخر عن عصر الإلياذة.
وكان الحداد أمام كوره، والفخراني أمام عجلته، يعملان في حانوتيهما، وكان غيرهم من الصناع الذين ورد ذكرهم في أشعار هومر - كصناع السروج، والبنائين، والنجارين، وصناع الأثاث - كان هؤلاء يعملون في منازل من يكلفونهم بعمل لهم؛ ولم يكونوا يعملون للأسواق، أو للبيع، أو للكسب؛ وكانوا يداومون العمل ساعات طوالاً، لكنهم كانوا يعملون على مهل وليس وراءهم دافع من المنافسة الظاهرة (29). وكانت الأسرة نفسها تقوم بصنع أكثر حاجياتها، فكان كل فرد يعمل بيديه، وكان رب الأسرة، بل كان الملك المحلى نفسه مثل أديسيوس، يصنع ما يحتاجه بيته من سرر وكراسي، وما يلزمه هو من أحذية وسروج، وكان - على عكس اليونان المتأخرين - يفخر بمهارته في الأشغال اليدوية. ولقد كانت بنبي، وهلين، وأندروماك وخادماتهن لا ينقطعن عن الاشتغال بالغزل والنسج والتطريز، والأعمال المنزلية. وتبدو هلين وهي تعرض تطريزها على تلماك (30)، أجمل منها وهي تتبختر فوق أسوار طروادة.
وكان الصناع من الأحرار، ولم يكونوا قط من الرقيق كما كانوا عند اليونان الأقدمين؛ وكان من المستطاع عند الحاجة تجنيد الفلاحين للعمل في خدمة الملك، ولكننا لا نسمع قط بالأقنان اللاصقين بالأرض المرتبطين بها؛ ولم يكن الأرقاء كثيرين، ولم تكن منزلتهم منحطة، وكان معظم الرقيق من الجواري خادمات المنازل، وكانت منزلتهن في الواقع لا تقل عن منزلة خادمات المنازل في هذه الأيام، إذا استثنينا أنهن كن يُشترين أو يبعن لآجال طوال، لا للقيام بأعمال قصيرة غير ثابتة كحالهن في هذه الأيام. وكن في بعض الأحيان يعاملن بقسوة وحشية؛ لكنهم في العادة كن كأعضاء في الأسرة التي يعملن لها، يُعنى بهن في مرضهن أو عجزهن أو شيخوختهن؛ وكن يرتبطن في بعض الأحيان بعلائق الود والمحبة مع رب الأسرة أو ربتها. فقد كانت نوسكا Nausica تساعد جواريها في غسل الملابس في النهر، وتلعب الكرة معهن، وتعاملهن في جميع الأحوال معاملة الرفيقات (31). وإذا ولدت الجارية ولداً من سيدها كان هذا الولد في العادة من الأحرار (32)، غير أنه كان ككل إنسان معرضاً لأن يكون رقيقاً إذا وقع أسيراً في الحرب أو في غارة القراصنة. وكان هذا أسوأ ما في الحياة الآخية.
والمجتمع الهومري مجتمع ريفي، وحتى "مدنه" لا تعدو أن تكون قرى تشرف عليها قلاع قائمة فوق التلال المجاورة لها. وكانت الرسائل تنقل على أيدي السُعاة أو الرُسل، وإذا كانت المسافة طويلة نقلت الرسالة بإشارات النار تبعث من إحدى قلل الجبال إلى قلة أخرى (33). وكان النقل البري تعوقه الجبال الخالية من الطرق، كما تعوقه المستنقعات، والمجاري الخالية من القناطر. وكان النجارون يصنعون عربات ذات أربع عجلات لها تروس وأطر من الخشب، ولكن معظم البضائع كانت رغم وجود هذه العربات تنقل على ظهور البغال أو الرجال؛ وكانت التجارة البحرية أقل مشقة من التجارة البرية رغم القراصنة والعواصف، فقد كانت الموانئ الطبيعية كثيرة، ولم تكن السفن تنقطع عن رؤية الأرض إلا في أثناء الرحلة الخطرة التي تدوم أربعة أيام من كريت إلى مصر. وكانت السفن عادة ترسو إلى البر في الليل، وينام البحارة والمسافرون في مكان أمين على الأرض. وكان الفينيقيون في العصر الذي نتحدث عنه لا يزالون أفضل من اليونان في التجارة والملاحة، وكان اليونان يثأرون لأنفسهم من هذا النقص باحتقار التجارة وإيثار القرصنة.
ولم يكن عند اليونان الهومريين نقود، فكانوا يستخدمون بدل النقود المضروبة سبائك من الحديد، والبرنز، والذهب؛ وكان الثور والبقرة يتخذان واسطة للتبادل. وكانت السبيكة الذهبية التي تزن سبعة وخمسين رطلاً تسمى تالنت (من تالنتون أي وزنه (34)). وكانت المقايضة كثيرة رغم ما كان عندهم من وسائط متعددة للتبادل، وكانت ثروة الشخص تقدر بما عنده من بضائع وخاصة بما عنده من ماشية، لا بما يملك من قطع من المعدن أو الورق، قد تفقد قيمتها أو يعتريها التغيير والتبديل في أي وقت من الأوقات، إذا ما بدل الناس عقائدهم الاقتصادية. وفي أشعار هومر كما في الحياة الواقعية أغنياء وفقراء؛ ذلك بأن المجتمع أشبه ما يكون بعربة تجعجع (1) في طريق لا مستو ولا معبد، ومهما أتقن صنع العربة وتركيبها فإن بعض ما تحمله من متاع سوف يرسب في قاعها ويطفو بعضه الآخر إلى أعلى سطحها. ولم يصنع الفخراني آنيته كلها من طينة واحدة، كما لم يصنعها كلها بنفس القوة والهشاشة؛ ومن أجل هذا لا يكاد يستهل عصر الكتاب الثاني من كتب الإلياذة حتى تستمع إلى حرب الطبقات، وحين يستشيط ثرسيتس Theresites غضباً ويطبق لسانه في أجممنون، ندرك من فورنا أن هذا عرض قديم من أعراض ذلك الداء المزمن الوبيل (35). 












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید